Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تُعدّ 'الواقعيّة السحريّة'" من أكثر المصطلحات الأدبيّة تردّداً خلال القرن الماضي وحتى يومنا هذا. تبدو التسمية غريبة ومغرية لمحاولة التفسير: كيف يمكن للواقع بكل ثقله أن يرتبط بخفّة السحر ولا واقعيته؟"

ساري موسى

الأدب السياسي اللاتيني: بين ثقل الواقع وخفّة السحر

يتساوى الأدب والسياسة في كونهما ناتجين اجتماعيين في الأساس، وحصيلتين لحركة المجتمع وعلاقات أفراده ومؤسساته ببعضها البعض، وإن كانا قابلين لأن يصبحا مؤثرين فيه بدرجتين مختلفتين.

يرتكز الأدب على أرض الواقع الذي يولد منه. ينطلق من مشاكله وقضاياه، ليحملها محلّقاً بها في فضاء الخيال، فهو كالشجرة التي تضرب جذورها في عمق الأرض، فيما تمتدّ أغصانها وتتفرع بحسب البيئة والمحيط الحيوي.

تتضح العلاقة بين السياسة والمجتمع بالقول الأوجز والأبلغ:"كما تكونون يُولّى عليكم". وهنا لا يسعنا تجاوز أحداث السنوات الأخيرة. خرجت شعوب البلدان العربية للمطالبة بـ"الحرية"، فأتت النتائج معاكسة تماماً للمطالب.

ربما قد ينفع التنويه في محاولتنا فهم أسباب انحراف الثورات عن أهدافها المحقّة، بأن جزءاً وازناً من الثائرين يولد حاملاً اسم جدّه، وارثاً مهنة أبيه، مُتزَوّجاً من ابنة عمه... ليخرج بعدها مطالباً بما لم يمارسه في حياته اليوميّة!

هذيان يغزو العالم

تُعدّ "الواقعيّة السحريّة" من أكثر المصطلحات الأدبيّة تردّداً خلال القرن الماضي وحتى يومنا هذا. تبدو التسمية غريبة ومغرية لمحاولة التفسير: كيف يمكن للواقع بكل ثقله أن يرتبط بخفّة السحر ولا واقعيته؟

في التفسير البسيط، إن الواقعية السحرية هي قول الأشياء الخارقة كأنّها أمورٌ يوميّة تحدث بكل تلقائيّة (بطل ماركيز الميّت في قصّة "أحدهم يُفسد ترتيب هذه الورود" يتحيّن الفرصة لسرقة بعض الأزهار ليضعها على قبره). وعلى العكس، تصوير الأشياء العادية البديهية كما لو كانت خوارق!

لم تنشأ هذه التقنية في أميركا اللاتينية، كما يظنّ كثيرون، بل في ألمانيا، وبرزت في الفن التشكيلي أكثر منها في الأدب، لكنها ترتبط أدبياً بالقارة اللاتينية التي ازدهرت فيها وتطورت. هناك من أفياء أشجار الموز، وعبر الأزقة بين البيوت الطينية، خرجت لتغزو العالم الذي ما زالت أصداؤها تتردد فيه، وإن أضحت خافتة.

في تفسير أسباب استخدام هذه التقنية الأدبية، يوضح غابرييل غارسيا ماركيز في سيرته الذاتيّة "عشت لأروي" مدى ارتباطها بالتراث الشفهي المحكي، الذي يسمعه الأولاد في حكايات الجدات قبل النوم، وفي الأساطير الشعبية للشعوب الأصلية المتناقَلَة عبر الأجيال، التي تحاول فهم العالم على طريقتها، وتفسير ظواهره الطبيعية تحديداً، وخصوصاً في تلك البيئة الديناميكية والنشطة جيولوجياً، فالزلازل هي تقلّبات مارد يلتحف القشرة الأرضيّة خلال نومه الأزلي، والبراكين النشطة هي شخير تنّين قبل أن يصحو وينطلق من عشّه.

أمام أنظمة الحكم!

وكما لا يخلو بلد لاتيني من كُتّابٍ خاضوا في الواقعية السحرية حد الهذيان، لا يخلو بلد كذلك من ديكتاتور عسكري حكم بالقوة والقمع لفترة طويلة، حتى التصقت مؤخرته بالكرسي، وكان الاغتيال الوسيلة الوحيدة لاستئصاله منها.

في ظل هذه الظروف السياسيّة والحياتيّة المضطربة التي عاشتها تلك البلدان المسيّس أهلها بنسبة كبيرة، برز عدد كبير من الروايات التي تناولت أنظمة الحكم الشموليّة في البلدان اللاتينيّة، بدءاً من الأسماء المشهورة المعرّبة (ماركيز في "مئة عام من العزلة" و"خريف البطريرك"، يوسا في "حفلة التيس"، والليندي في "بيت الأرواح")، وصولاً إلى أسماء أقلّ شهرة لم تُعرّب جميعها(من مثل الكوبي أليخيو كاربينتيير، الباراغواياني روا باستوس، الأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيث، والفنزويلي أرتورو أوسلار بييتري).

الدبلوماسيّان يكتبان

اللافت أنّ تعامل كتّاب الواقعية السحريّة مع أنظمة الحكم الشموليّة كان متفاوتاً بدرجة كبيرة. عدد من أبرز أعلامها تخلّى عن جموح الخيال، وهبط إلى لغة شديدة الواقعيّة؛ لغة براغماتية وحسابية زاخرة بالمؤامرات المُحكمة، المرسومة بدقة وعناية، كروايتي الكاتبين الغواتيمالي ميغيل أنخل أستورياس، والمكسيكي كارولس فوينتس، اللذين كانا دبلوماسيين ضليعين بالعمل السياسي، الأمر الذي ساهم في تقديم تفسير لتخلّيهما عن السحريّة التي وسمت بعض قصصهما ورواياتهما.

يروي أستورياس في "السيد الرئيس" (ترجمة جمال الجلاصي، منشورات الجمل)، التي تُعدّ واحدة من أقدم الروايات السياسية، تأثيرات النظام السياسي في الفئات الشعبية المعدمة، وفي أعوان النظام وأزلامه على السواء، فالكل ضحايا، من دون أن تكون شخصية الديكتاتور حاضرة بشكل رئيسي، كما يعد العنوان، إذ تسود المؤامرات والمكائد التي يستمدّ منها النظام حياته وأسباب بقائه، والتي تحصد المتآمرين والمقصّرين، محققة أهدافها في حالتي فشلها ونجاحها.

مؤامرات عديدة أخرى وتحالفات معقّدة تُبنى من أجل الوصول إلى "كرسي الرئاسة" للمكسيكي في رواية "فوينتس" (ترجمة خالد الجبيلي، دار رؤية)، التي تتخذ شكل رسائل ورقيّة يتبادلها الأفرقاء السياسيون، بعد أن عطّلت الولايات المتحدة الأميركية شبكة الإنترنت ووسائل الاتصالات جميعها، عقب تصويت المكسيك ضد احتلالها لكولومبيا في جلسة مجلس الأمن.

بطريرك الأدب

تعتبر "خريف البطريرك" (ترجمة مارك جمال، دار التنوير) الرواية الأكثر تمثيلاً للواقعية السحرية في تناول الديكتاتوريات، لا لأنها حكت ما لم يحكه غيرها، بل لطريقة قيامها بذلك، كما هومبدأ ماركيزوعادته، والذي يعترف بأن هذه الرواية أكثر رواياته تجريبية، وقد كتب فيها ما أراد كتابته بالفعل.

أكثر من 300 صفحة من السرد المدهش، مكتوبة كمونولوغ من قطعة واحدة، يتغير فيه الراوي في السطر نفسه، من دون وجود ما يدل على تغيره سوى تبدّل وجهة نظر السرد.

على عكس رواية "أستورياس"، التي يصرح ماركيز بأنها "رواية بشعة"، تحضر شخصية الحاكم كشخصية أساسية وشبه وحيدة، فحضور الآخرين مرهون بإرادته، ومن أجل تحقيق رغباته، إذ يمحوهم ساعة يشاء بوسائل قتل مبتكرة، ليس أقلها فانتازية حشو أقرب مساعديه كديك رومي، وتعطيره بالأعشاب وأوراق الغار، وشيّه في الفرن، ليخرج محمّراً مع قبضة من البقدونس تسدّ فتحة فمه، ويأمر بقية الجنرالات المتآمرين معه بأكله!

الديكتاتور نموذجي إذاً: إله يغير التوقيت بما يناسب مزاجه. ينبعث من موته. يشفي المرضى. أزلي. أكثر شيخوخة من الأبد. جاهل. غرائزي.

أما الجموع، فهي مغلوب على أمرها. تسطّح دماغها من ثقل القبضة الحديدية التي ترزح تحتها منذ عقود. تهلل وتحتفي بالأخبار التي تصلها عن موت الديكتاتور أو تنحيته، وتفعل الأمر ذاته عندما ينتصر حامي الشعب على المتآمرين.

تنطلق الرواية من تصوير الموت الأول للبطريرك، الذي تبيّن أنه مزيّف، إذ كان الميت شبيهاً له فقط، فأطاح بأحلام ورثته الذين جلسوا مباشرةً لاقتسام مملكته المترامية الأطراف، وصولاً إلى موته الحقيقي، حيث إن "زمن الأبدية الذي لا يقاس قد بلغ نهايته أخيراً".

كاتب سوري