Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

هنالك حدثان يرسمان صورة الاتحاد الأوروبي، ومستمران في الإمساك بأطرافه: بريكست وكورونا. لكنّهما وفّرا عديداً من الفرص لإحداث تغيير مستدام، وأوروبا تتعلم بسرعة فاقت توقعات أعدائها. الاتحاد الأوروبي في طريقه ليصبح لاعباً مهمّاً في عالم متعدد الأقطاب.

ستيفن كنابه

أوروبا بعد كورونا وبريكست

"

*ترجمة علي شقير

***

هنالك حدثان يرسمان صورة الاتحاد الأوروبي، ومستمران في الإمساك بأطرافه: بريكست وكورونا. لكنّهما وفّرا عديداً من الفرص لإحداث تغيير مستدام، وأوروبا تتعلم بسرعة فاقت توقعات أعدائها. الاتحاد الأوروبي في طريقه ليصبح لاعباً مهمّاً في عالم متعدد الأقطاب.

 

التعطّش للنمو

إن الإجابات المتعلقة بمستقبل الاتحاد الأوروبي لديها فترة حياة قصيرة. لقد هزّ بريكست وكورونا الأساسيات وعدّلا خارطة توزيع القوة في أوروبا والعالم، ولا يبدو أن هناك قلق في الأفق. بالمقابل، هناك صورة للاتحاد الأوروبي المستقبلي، كانت قد بدأت تتشكل في السرّ، تعارض بشكل جزئي صورة الماضي. ولكن أي نوع من الصور ستكون هذه الصورة؟

أحياناً، يكون الوداع بداية شيء جديد.  ففي بداية عملية بريكست، كان لا يزال شعور الصدمة موجوداً لدى دول الاتحاد الأوروبي، أما السؤال الذي يطرحه الآن هو ما إذا كانت إجراءات وتركيبة الاتحاد الأوروبي هي التي سبّبت بريكست.  لطالما كان الاتحاد الأوروبي بالنسبة للبريطانيين رمزاً للتكنوقراطية والمماطلة في عملية صنع القرار، وبالطبع، لم يكونوا مخطئين بشأن ذلك.  والعامل الأكثر أهمية بالنسبة لبريكست كان الواقع الاجتماعي - الثقافي البريطاني بالكامل، والذي عبّر عنه المحرر السابق لصحيفة "ذا صن" دايفيد يليند بقوله إن "لدى المملكة المتحدة حنيناً في غير محله يتمثل بهوسها القوي بالحرب العالمية الثانية، ورغبتها بأن تصبح دولة ذات قوة عالمية من دون الحاجة للدول الأخرى".  وقد ظهر هذا التوجه في الإعلام مراراً وتكراراً، فلم ترَ المملكة المتحدة سوى القيم الاقتصادية المضافة في التعاون في السوق الداخلية إلى أن دخلت الشعبوية في النظام السياسي البريطاني.  وقد ظهر ذلك في عدم الانضمام إلى منطقة اليورو، منطقة "شنغن"، وفي شعار الحملة السياسية أيضاً .

لم تكن المملكة المتحدة يوماً مستعدة لمزيد من الاندماج سياسي.  فبعد أن لاقت الدعم من ألمانيا فقط، من بين كل الدول، تولّت بنفسها دقّ الإسفين بين فرنسا وألمانيا، فيما أصبح معروفاً رسمياً كمحرك عملية الاندماج في الاتحاد الأوروبي.  لذلك، يمكن اعتبار بريكست حلّاً لحصار واندماج سياسي في المدى الواسع. لقد أكّد الرئيس الفرنسي بوضوح على اختلاف الأفكار بشكل أساسي حول القارة والاتحاد الأوروبي بين فرنسا والمملكة المتحدة، وأنّ المملكة المتحدة ألحقت الضّرر بوحدة الاتحاد وتماسكه.  وإذا كان الإطار التنظيمي للاتحاد الأوروبي في موضع تساؤل قبل بريكست، فإن السؤال ذاته يطرح نفسه بشكل أقوى هنا.  وليس هذا السؤال الوحيد المطروح ، بل هو مجموعة من التهديدات التي تلوح في الأفق.

في بداية العام المقبل، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعوض سعر الفائدة في المملكة المتحدة من الميزانية والبالغة حوالي 14 مليار يورو سنوياً، ويتعيّن على مؤسسات مثل بنك الاستثمار الأوروبي ، أن تتكيف مع حسم رأس المال.  وفي المستقبل، هناك خطر حدوث عجز في التصميم الهيكلي ونقص في التنمية لا سيما في بلدان أوروبا الشرقية والجنوبية.  ومن المسلّم به أنّ الحكومة البريطانية لم تستبعد المشاركة في برامج أو وكالات مختارة في الاتحاد الأوروبي حتى بعد بريكست، ولكن لا يمكن إجراء تقييم نهائيّ للآثار إلا في نهاية مفاوضات بريكست.  وتجدر الإشارة هنا، إلى أن التهديد الذي يمكن تجنّبه يمكن أن يكون له تأثير كبير على الظروف العامة للأعضاء من منظور سياسي واجتماعي واقتصادي، ويمكن أن يفتح باباً خلفياً للتسلل.

ومع بريكست، سيخسر الاتحاد الأوروبي قوّة نوويّة وعضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي.  وهذا ليس مجرد تدني في قيمة الموقف السياسي للسلطة في الاتحاد الأوروبي؛ بل أيضاً يقلل من فرص التأثير في الأزمات داخل وخارج المنطقة الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي.  وعلاوة على ذلك، فإن النفوذ الأوروبي داخل حلف شمال الأطلسي قد انخفض.  ونتيجة لتحريضات ترامب المدمّرة، أصبح حلف الناتو في دوامة تضاؤل وتناقص، ومن غير المؤكّد أنّ الناتو سيمتلك نفس المكانة التي كانت قد مُنحت له خلال الحرب الباردة.  فبدلاً من تعزيز مناقشات الناتو حول نقل القوات الأميركية لـ10,000 جندي من ألمانيا إلى بولندا، فإنّ ذلك يخلق توترات بين البلدين ويدمر أيضاً القدرة العملياتية للقوات الأميركية في الشرق الأوسط وأفريقيا.  وحين يمكن وصف سلوك الحكومة الأميركية بالمتهور، يغتنم الآخرون الفرصة لاختبار واستفزاز الأوروبيين.  لدى هذه القوى هدف مشترك، ألا وهو كسب النفوذ ومنع أوروبا من أن تصبح أقوى.  ومن الأمثلة على ذلك، الجهود الصينية المبذولة كجزء من مشروع  "حزام واحد، طريق واحد"، من أجل السيطرة على البنى التحتية مثل الموانئ والمطارات، وأبرز مثال على ذلك هي أنظمة التتبع في البلقان ودول البلطيق. علاوة على ذلك، يستغلّ الرئيس التركي إردوغان أزمة النازحين لابتزاز المزيد من التنازلات من الاتحاد الأوروبي، ومن أجل تقديم نفسه كزعيم قوي لخلق شرعية للحكم خارج نطاق الديمقراطية. تتسلّل روسيا إلى الأنظمة الاجتماعية والسياسية للدول الأوروبية من خلال استخدام حسابات وهمية لنشر الأخبار الكاذبة، وتمويل بعض الجهات الخفية مثل حزب "البديل من أجل الديمقراطية" في ألمانيا.

و مع انسحاب النواب البريطانيين من برلمان الاتحاد الأوروبي، أصبح اليمين المتطرف الشعبوي رابع أكبر مجموعة برلمانية فيه. وبسبب آلية التصويب المعقدة، ستحظى بلدان أوروبا الشرقية بفرص أكبر لتأكيد أفكارها. فلنتذكّر أنّ الحكومات الشعبوية اليمينية غير- الليبرالية، وخاصة في دول أوروبا الشرقية مثل بولندا وهنغاريا، قد حوّلت الأنظمة الوطنية الديمقراطية السياسية إلى نظام سلطة واستبداد.  ولنتذكّر أيضاً أن الاتحاد الأوروبي يضمن لكل مواطن حائز على الجنسية الأوروبية، حقوق الإنسان وسيادة القانون والحقوق السياسية . إن الجنسية الأوروبية تنشئ جنسيّة تابعة أو مشتقّة، لأنه لا يمكنك أن تكون مواطناً في الاتحاد إلا إذا كنت مواطناً من دولة تنتمي له. ويمكن لهذه التوترات  (على المستويين الوطني والأوروبي) التي لم يتم حلّها في فترة ما قبل بريكست، أن تؤدي إلى تدهور في نظام القيم الأوروبية وإلى نفي السلام الأوروبي والمجتمع القيمي، إذا ما حصل اليمين المتطرف الشعبوي على مزيد من النفوذ في السياسة ونظام الحكم والسياسات العامة في أوروبا.

إن مخاوف المعلّقين بشأن تراجع الاتحاد والآثار المتتالية التي هي أشبه بأحجار الدومينو فيما يتعلق بتبعات الانسحاب من الاتحاد كانت مبررة.  وبالرغم من أن فيروساً يدعى كورونا زاد من وطأة الموجة السلبية داخل الاتحاد الأوروبي، والدلائل تشير إلى أن الأمور بدأت تتغير قبل ظهور كورونا، إلا أنه يمكن تسميته بـ"قالب الموازين" و "مسرع الأحداث" من نواح عديدة.  لكن ما المميز جداً في كورونا؟

أخذاً بوجهة نظر علم الاجتماع حصراً، فإن كورونا غيرت الجانب الأهم من التعايش البشري : الفضاء الاجتماعي.  إن التغلب على المسافات الاجتماعية والعمل فيه على حد سواء يسلط الضوء على جوانب هدفها حفظ وجود الاتحاد الأوروبي، وألمانيا على وجه الخصوص.  دعوني أوضح هذا بالأمثلة التالية.

الاتحاد الأوروبي هو في الأساس مجتمع اقتصادي يقوم على الحريات الأربع:  حرية حركة السلع ورأس المال والخدمات والناس.  تحدد هذه الحريات قواعد كيفية سد الفجوة الاجتماعية بين الدول الأوروبية بأي شكل من الأشكال.  كما أنها تضمن الازدهار الاجتماعي والاقتصادي، وقد ضمنت سابقاً السلام خلال العقدين الماضيين بعد خوض حربين عالميتين طاحنتين. كما هو الحال مع الاتحاد، فإن شريان حياة ألمانيا هو الاقتصاد.  فبعد الحرب العالمية الثانية، أصبح من واجب الولايات الألمانية والهدف الوطني، العمل من أجل السلام والتكامل في أوروبا، ويمكن تسميتها بالعلاقة المصيرية بين ألمانيا والاتحاد الأوروبي. تهدد كورونا اليوم الصورة الذاتية وأساس الوجود بالنسبة للطرفين.  وتؤدي أيضاً -إذا جاز التعبير- إلى شعور يدعو إلى الرشد والوعي، والتحول إلى عملية وعي-ذاتي ديناميكية.  وقد قد أنشأ البرلمان منظمة التعاون الدائم "بيسكو"، في2018 ، كجزء من الأمن والسياسة في الاتحاد الأوروبي.  وتشكّل هذه أيضاً مجموعة دفاعية شاملة جديدة للاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق التقرير الدفاعي السنوي المنسّق و"صندوق الدفاع الأوروبي" و" قدرات التخطيط والعمل العسكري" (MPCC).  تماماً كما الناتو، عززت "بيسكو" التعاون في مجالات سياسية أخرى. بالطبع لا يمكن لـ "بيسكو" أن يحلّ محل الناتو، ولربما سيستغرق الأمر بضع سنوات قبل أن يعمل بشكل مثالي، لكن هذه خطوة أولى ليصبح مستقلاً عن الهيمنة الأميركية، وخطوة أولى أيضاً لمعارضة الجهود التي تبذلها دول أخرى لكسب النفوذ على القضايا الأوروبية الداخلية.

إن كبار الساسة في أوروبا لا يملون من تأكيد فكرة أنه يجب على أوروبا تطوير فكرة السيادة الأوروبية (ماكرون)، وتعلم لغة القوة (جوزيب بوريل) وأنّه يجب على المفوضية الأوروبية أن تصبح لجنة جيوسياسية (أورسولا فون در ليين). وفي بيانها الأخير، أكّدت المستشارة الألمانية ميركل على ضرورة التعاون الأوروبي حالياً وفي المستقبل، وأن التضامن بين جميع الدول ضروري للاتحاد ولألمانيا.  تحمل هذه الكلمات معنى أكثر عمقاً نظراً لتناوب رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي بين الأخيرين. وقد أدرك كل من الشعب والحكومة الألمانية أن تولّي زمام المبادرة في القضايا الأوروبية ليس علامة على الغطرسة والسعي إلى القوة، بل هو دليل على الاستعداد لقيادة أوروبا بطريقة غالباً ما طالب بها السياسيون والمعلّقون في جميع أنحاء أوروبا، قيادة مبنية على أرضية من المعاهدات الأوروبية. وستكون المفاوضات حول اتفاق -ما بعد بريكست- التجاري التجربة الأولى للصورة الذاتية الجديدة.

إن أوروبا تستيقظ حالياً، وما انفكّت تتدرّب على ممارسة ثقتها بنفسها ومسؤوليتها عن نفسها، وهي تتعلم بسرعة. وهي تُظهر للرئيس التركي إردوغان حدوده بشكل متزايد. يتمّ قبول الانسحاب الأميركي في ألمانيا وأجزاء كثيرة من أوروبا بدون مبالاة، للتأكيد على الفرص التي يمكن أن تنتج عنه. إنّ برنامج المساعدات الاقتصادية الموسّعة، الذي تم توقيعه تحت ظلّ الاتحاد، نادراً ما يحصل بقيادة فرنسا وألمانيا )المحرك القديم للتطور)، يهدف أيضاً الى كبح الرغبة الصينية في شراء البنى التحتية.  لقد تعلمنا درساً من الأزمات التي حصلت في 2008 عندما اشترت الصين البنى الأساسية في اليونان.

وفرت كورونا فرصاً كثيرة وجديدة لنا، تشمل السيادة الأوروبية الجديدة القدرة على الاعتناء بالنفس في حالات الطوارئ. وينبغي إعادة النظر في مدى استعداد أوروبا للحصول على منتجات طبية وتقنية مهمة، مصنّعة في بلدان غير أوروبية، مثل الصين. ويحاول الاتحاد الاوروبي بعد ذلك إنشاء سحابة أوروبية تسمى "غايا-إكس "حتى نهاية 2020 . يمكن النظر إلى هذا المشروع على أنه هجوم مضاد على التفوق الرقمي للأميركيين والصينيين.

ما نوع القوة التي تريد أن تكون عليها أوروبا؟ وفقا للمؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش، إن أوروبا إمبراطورية معادية للإمبريالية، لأنها لا تعرف مدى قوتها.  ومن المفترض أنّ أوروبا لن تكون أبداً قوة عسكرية، ومجال نشاطها هو التجارة والبحث والتكنولوجيا، مع قليل من الاتصالات.

ربما تكون أوروبا قوة اقتصادية.  فمن ناحية، أوروبا والدول الأعضاء فخورون بهذه الحقيقة، لكن من ناحية أخرى، وبسبب تغير المناخ ووفاة جورج فلويد، أدرك الأوروبيون قضية جديدة سوف تكلفهم الكثير.  السياق بين الحجم الاقتصادي، العصور الاستعمارية والعنصرية والمسؤولية الناتجة عن كل ذلك.  فمن ناحية، تطالب أوروبا بالتزامات تجاه حقوق الإنسان والتجارة الحرة والسلام مع البلاد الأخرى، ومن الناحية الأخرى، فإنّها تتمّ صفقات مع دول غير-ديمقراطية وتسمح بوجود هياكل غير ديمقراطية في صفوفها. قد يبدو ذلك ازدواجية ما، لكن تعلم الأوروبيون أن التغيير يأخذ وقتاً وأنّ الأساس هو أن يكون مسار التطوّر صحيحاً.

إن الطريقة المثلى لمعالجة المشاكل الحالية والمستقبلية والأزمات والتحديات هي التواصل والتعاون المتكرر في كلّ المجالات . وبالمناسبة، فالجميع مدعوون.  وقد تخيب آمال كثير من الدول في هذا العالم لأنها تفضّل أوروبا القوية التي تضرب بيدها على الطاولة في بعض المناسبات.  دعني أطرح سؤالاً، إذا كنت جالساً إلى طاولة، ما هو نوع الضيوف الذي تفضله؟

سوف أنهي هذه السطور باقتباس من عام 1924 للفيلسوف الفرنسي باول فاليري: "أوروبا نظام متناقض – فقد حقّقت أعلى مستويات من الوحدة العقلية (...) وأعلى درجات الخلاف فيما يتعلق بالإرادة". الخلافات جيدة لأنها تسمح لنظام ما بالتطور وبخلق فرصاً جديدة.  إنها أساسية للديمقراطية (الديمقراطية  الاوروبية وليس الأميركية.(  الإرادة تأخذ وقتاً للتغيير، لكن تمّ البدء ببداية جيدة.  ربما يستغرق الأمر 100 سنة، لكن الأشياء الجيدة بطبيعة الحال تحتاج وقتاً.

"

كاتب وباحث ألماني