بغض النظر عن التفاصيل اليومية وما تبدو عليه البلاد من تشتت وفراغ وضياع، فإن بلاد الأرز ممسوكة بقبضة من ذهب واحتكار. عند كل منعطف كبير تستنفر السلطة 'العميقة'" الفعلية وتكشر عن انيابها الموزعة في أكثر من اتجاه، لتدافع بشراسة عن نظام سياسي مهترئ بالشكل؛ متين بالمضمون."
أميركا والمصارف والكنيسة
بغض النظر عن التفاصيل اليومية وما تبدو عليه البلاد من تشتت وفراغ وضياع، فإن بلاد الأرز ممسوكة بقبضة من ذهب واحتكار. عند كل منعطف كبير تستنفر السلطة "العميقة" الفعلية وتكشر عن انيابها الموزعة في أكثر من اتجاه، لتدافع بشراسة عن نظام سياسي مهترئ بالشكل؛ متين بالمضمون.
تأسست هذه التسوية مع نظام المتصرفية عام 1861، وما زالت مستمرة إلى اليوم رغم الكثير من الحروب والمجازر التي طالت الآلاف. هي التسوية/ التركيبة التي جمعت بدهاء بين العصبيات المذهبية والمناطقية والإقطاعية، ووزعت المغانم فيما بين "الخاصة" منها، وتركت رعاياها فريسة الفقر والتعصب والجهل خدمةً لسلطة تقرر ما يوافق مصالح نخبها. كيف ذلك وقد رأينا ألاعيبها القذرة منذ ما قبل إعلان الاستقلال، ثم مع احتلال فلسطين وانعكاسات ذلك على الداخل اللبناني، وصولاً إلى الحرب الأهلية الطويلة، انتهاءً بتسوية الطائف المعدلة شكلياً عن اتفاق الـ43، وما جرى بعد ذلك من تغيير في بعض الوجوه، مع المحافظة على المضمون كما هو لا بل أسوأ.
ثمة ما يمكن أن نستعرضه في التفاصيل هنا. فمنذ صراعات القرن التاسع عشر نشأت سلطة كنسية، موازية للنفوذ الاقطاعي، عملت على تنظيم نفسها وفرضت إرادتها على شكل الحكم والادارة. هي سلطة تعرف من أين تؤكل أكتاف الاقتصاد والسياسة والارتهان للخارج. سلطة صنعت استقلالاً وهمياً بتسوية بريطانية فرنسية في لحظة انفجار عالمي تسبب بتغيير خرائط وسقوط أمم وصعود أخرى.
في العام 1946 وقّعت الكنيسة اتفاقاً مع الحركة الصهيونية يقضي بالاعتراف بكيان الاحتلال تحت ضغط تأنيب الضمير من الإبادة وصعود الفاشية، لكنه كان في الحقيقة انتصاراً للنفوذ الصهيوني على مستوى العالم. ترافق الاتفاق مع تواطئ كبير، سري وعلني، لعدد كبير من سياسيي لبنان مع احتلال فلسطين عبر تعطيل أي قوة مقاومة أو عبر بيع الأراضي من اقطاعيين ونافذين للوكالة اليهودية، أو عبر الدخول بصراعات ومهاترات داخلية وتدمير البنى التحتية الوطنية، ومن ثم تحويل كل الطاقات الداخلية لوكلاء استيراد للبضائع الغربية وتسويقها في الداخل على حساب الصناعة الوطنية، تدمير القطاعات الانتاجية من زراعة وصناعة وثقافة على حساب كل ما هو غربي.
في تاريخ هذا الكيان منذ نشأته أسوأ نماذج قوننة النهب وتشريع العنصرية. عصابات حاكمة ومتفقة فيما بينها، تحمل صفات رسمية، ولا تترك فرصة لحماية مكتسباتها ونفوذها بالتكافل والتضامن في ما بينها، هي من أبدعَ شعاراً لا مثيل له يقول: "قوة لبنان في ضعفه". وهو شعار يستبطن الخضوع للصهاينة وكل استعمار ويلطف مواقف الذل والهوان. هي الطبقة نفسها التي لاقت الاستعمار في هجومه على مصر العروبة وسوريا الممانعة وايران المقاومة وهي نفسها من رفض مساندة إخوانه في حروب الأعوام 56، و67، و73، و82. لا بل ساندت الصهاينة في معظمها. وهي السلطة نفسها التي دمرت أي محاولة مقاومة عسكرية، منذ المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية إلى المقاومة الاسلامية، ودمرت كل مقوّمات الصمود.
هي السلطة نفسها التي تسببت بانهيار بنك انترا لأنه حاول التوفيق بين موقف مؤسسه السياسي المساند للقضية الفلسطينية وكسر بعض من هيمنة الاحتكار اللبناني وعلاقاته الدولية، فعملت على إسقاطه وتخريب برعم نهضة واعد.
هي السلطة التي انتجت أسوأ نظام اقتصادي تحت مسمّى "الاقتصاد الحرّ" وهو ليس إلا واجهة للربا الفاحش والريع المتضخم، واقتصاد الكسل وسياحة الترفيه والجنس، والاحتكارات، والوكالات الحصرية والديون التي تصنع الإرتهان للممول.
هذه المنظومة بحاجة لقواعد حماية للصمود: 1- سلطة دينية واقطاعية. 2- جمهور عصبي. 3- إعلام (محطات تلفزة وصحف وكتاب) مركّز يرسخ مفاهيم مضللة. 4- حماية خارجية. 5- إيجاد كل مبرر لعدم مقاومة المشروع الغربي الاستعماري على بلادنا.
بعد كل ما تقدم هل نستغرب المشروع المتجدد للبطريرك تحت عنوان الحياد؟ وهو من حمى سقوط حاكم مصرف لبنان، ومنع توقيف أي فاسد بالتكافل والتضامن مع أقرانه في الطوائف الاسلامية؟ إن لم تستطع أن توقف أو تسقط المقاومة اسعَ جاهداً كي تعطل حركتها في الداخل، وهذا ما يحصل.
ربما آخر أوراق أميركا استخدام السلطات الدينية والمالية والسياسية لمحاصرة خصومها ومنع أي حركة تحرر، فهل يمكن التغيير بـ"المواجهة اللايت"؟ أم نحن بحاجة إلى تشكيل منظومة متكاملة تستخدم أوراق القوة مع إعادة هيكلة الحكم والمنظومة المالية بما يخدم الفئات المهمشة؟.
هي السلطة ذاتها التي خاضت الحروب فيما بينها، وكلفت مواطني هذا البلد مئات آلاف الشهداء والجرحى والتدمير دون أن يرفّ لها جفن. تعود للتسويات فيما بينها دون خجل، فهل يمكن مواجهتها على طريقة الحكومة الراهنة؟.
للأسف لا يمكن استئصال بعض الاورام الخبيثة دون عمل جراحي.
"Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني