Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

كانت البداية مع هيوي نيوتن وبوبي سيلز الطالبين في كلية ميريت في مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا. نشأ كل من الشابين في بيئة مضطربة وعايشوا معاناة مجتمعاتهم السوداء فترة نضال حركة الحقوق المدنية. عمل بوبي فترة من حياته في برنامج مكافحة الفقر وشاهد بعينه المعاناة التي يمر بها أبناء مجتمعه بينما إنغمس هيوي في رفقة الشباب المهمش التائه عن ذاته، وشاهد بعينه الأثر المدمر لما سماه بعد ذلك بالانتحار الرجعي

محمد فرح

أبناء وبنات مالكولم في وجه الإمبراطورية (1)

"

"لا يثور ساكن الهند الصينية (فيتنام، لاوس، كمبوديا) لأنه اكتشف ثقافة ذاتية. إنما يثور لانه في ظل وضعه يختنق بكل معاني الاختناق"

فرانتز فانون

***

في ظل اغتيال جورج فلويد مختنقاً تحت وطأة سلطة القهر "الشرطة"، والاهتمام المصاحب في وسائل الإعلام لتمثلات الغضب الشعبي ضد سلطة الشرطة المتسلطة على مجتمع الأقليات في أميركا، برزت إلى الواجهة من جديد صورة الفهود السود مستعادة من غياهب تاريخ قريب.

نشأ حزب الفهود السود في فترة مضطربة من تاريخ أميركا أواسط ونهايات الستينيات، مع وعى المستضعفين تعقيدات خطاب السلطة المهيمنة وعدم جدوائية خطاب اللاعنف مع تنامي العنف تجاه السود، وامتناع السلطة عن حماية الأقلية المستضعفة بتخطيط وإدارة مكتب التحقيقات الفدرالي (برئاسة جاي إدغار هوفر). في ظل كل هذا الاضطراب نشأت حركة جديدة في وسط جيل جديد من الشباب المتحرر من قيود الماضي والمتطلع لتحقيق آماله في الحرية، العدالة.

مرت المجتمعات السوداء في الولايات المتحدة الأمريكية بقرون طويلة من الآلام والتنكيل. فمنذ نشأة المستعمرات البيضاء للمهاجرين الأوروبيين شمال المحيط الأطلنطي منتصف القرن الـ17، صارت المستعمرات الاستيطانية نواة أميركا، وصارت معها عمالة الرقيق المستجلب من أفريقيا المحرك الرئيسي لنمط الإنتاج الزراعي السائد فيها. في تلك الفترة، تم خلق مفهوم العرق بشكله الحالي لضمان استمرار عمليات السيطرة، الاخضاع، والتحكم. منتصف القرن الـ19 تم تحرير المُستَعبَدين بعد صراعات طويلة ونضالات مستمرة من قبل المُستَعبَدين بالإضافة إلى تغير نمط الإنتاج بصعود مركزية الصناعة والآلة وتراجع ربحية الرق كنمط للانتاج.  

مع الأسف، لم يكن في التحرر من العبودية خلاصاً للمُحَرَرين لأن التحرير لم يسائل القضية الرئيسية؛ قضية توزيع الثروة وتراكمها داخل المجتمع. فتم تعويض ملاك العبيد السابقين عن الثروة التي فقدوها بينما لم يمنح المُحَرَرين أي تعويض عن سنوات قهرهم، وقتلهم، ونهب انتاجهم من قبل المُلاك. انعدام الثروة المتراكمة وقلة قيمة الفرد سمحت للملاك السابقين بالتغول على حساب المُستَعبدين السابقين بصورة بشعة لم تُشهدها حتى فترة الاستعباد. إذ خسر الفرد المستعبد قيمته السلعية بعد التحرر. وبما أن المُستَعبَدين السابقين أفراد يتوقون للحرية وتحقيق ذواتهم كان لا بد من إخضاعهم من قبل السلطة المهيمنة والمستفيدة من ذلك الوضع، فتم سن قوانين جيم كرو نهاية القرن الـ19 في الولايات الجنوبية من أميركا. نصت تلك القوانين على الفصل العرقي بين المواطنين في مرافق الدولة والمرافق العامة؛ من صحة وتعليم وغيرها من المؤسسات. ولم تتوقف نضالات المُستعبَدين السابقين عن المطالبة بحقهم في الحرية والمساواة تجاه القانون، فاستمرت النضالات طوال النصف الأول من القرن الـ20.

حركة الحقوق المدنية:

أشتد الحراك وسط مجتمعات السود لإنهاء الفصل العرقي فترة الخمسينات. عُرفت فترة النضال الحقوقي تلك بحركة الحقوق المدنية. كان المطلب الرئيسي للحراك إلغاء التمييز القانوني.  يعدّ رفض روزا باركس التخلي عن مقعدها في الحافلة لفرد أبيض البشرة والمسألة القانونية التي تعرضت لها، بعد ذلك، الشرارة التي فجرت الحراك. برز إسم القس مارتن لوثر كينغ كقيادي في الحراك ضمن قيادته لمؤتمر القيادات المسيحية "Southern Christian Leadership Conference" بالإضافة لمجموعات حقوقية أخرى كان لها دور مركزي في الحراك كالجمعية الحقوقية للنهوض بالملونين  NAACP، ولجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية SNNC وغيرها من المنظمات العمالية والمجتمعية الفاعلة.

***

يُظهر فيلم لست سوى رجل ١٩٦٤ - "Nothing but a Man"، بصورة جلية التحديات التي تواجه الطبقة العاملة السوداء في الولايات المتحدة في غمرة النضال الحقوقي وتخوف أصحاب الامتياز المجتمعي من كل صوت مطالب بالتغيير. يمثل داف أندرسون الشخصية المحورية في الفيلم. وهو العامل صاحب النفس الأبية المحبة للحرية والذي يعيش حريته بالحركة المستمرة والعمل في إنشاءات الطرق. عندما يمس قلبه الحب يقرر الزواج ممن يحب ويستقر في المدينة التي تقيم فيها أسرتها، ليعمل في وظيفة ثابتة في مصنع.

يسعى داف باستمرار لحفظ كرامته والعمل بسلام من غير أن يتعرض بعنف لأحد. لكن تَرصّد سلطة البيض المهيمنة على وجوده والمالكة للعمل لا يترك له مفر. يسعى المجتمع الأبيض لتحطيم بطلنا كما حطم والده من قبله. في لحظة القهر تلك يبرز الوالد إلى سياق السرد رغم عدم ذكره في بداية الفيلم حيث كان داف يعرف عن نفسه دوماً في مطلع الفيلم بأنه وحيد من غير أسرة. نُفاجأ بأن الوالد ما زال على قيد الحياة يعيش في مدينة أخرى لكنه "بقايا إنسان". آليات الإخضاع والسيطرة الممارسة من قبل المجتمع الأبيض تجاهه نزعت من وجوده القيمة. يزور داف والده بصورة متكررة وكل مرة يتصيده شبح أن ينتهي لنفس مصير العجز والإدمان الذي انتهى إليه والده. يموت الوالد ويستمر سياق سرد الفيلم الذي يحاول بطلنا فيه الحفاظ على رجولته في ظل مجتمع قاهر يحرص على انتزاع رجولته منه.

 

لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية ونهاية خطاب اللاعنف:

كانت الفلسفة السياسة المتبناة من قبل الجماعات النشطة في حركة الحقوق المدنية هي فلسفة اللاعنف المستوحاة من تعاليم السيد المسيح، وحركة المهاتما غاندي المناهضة للاستعمار البريطاني في الهند. لعبت لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية من بين المنظمات الناشطة في حركة الحقوق دوراً محورياً في توجيه طاقات الحراك الطلابي نحو العمل اللاعنفي للتغيير في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. بعد إقرار  قرار قانون الحقوق المدنية في العام 1964.

في فيلم ضيق محكم "uptight 1968" جسد المخرج الأمريكي اليساري جولز داسين التغيرات التي عصفت بمجتمعات السود في أمريكا نهاية الستينات، بفشل قانون الحقوق المدنية في تحقيق العدالة المرجوة، انتشار البطالة والفقر، الحرب في فيتنام، واغتيال مارتن لوثر كينغ. يظهر في الفيلم بوضوح صراع بين جيلين: الأول أفنى حياته في النضال ضمن حركة الحقوق المدنية، والثاني جيل الشباب الجامعي الذي شارك في حركة الحقوق المدنية لكنه وصل لقناعة بـ"لا جدوى" فلسفة اللاعنف بعد أن شاهد عنف الدولة في قمعها لانتفاضات المجتمعات السوداء في شيكاغو، واتس، ديترويت وغيرها من المدن. يجسد الفيلم المعاناة التي يمر بها تانك الذي كان له باع طويل في النضال العمالي وتنظيم العمال ضمن حركة الحقوق المدنية لكن سياسات القهر والإخصاء انتهت به لفرد هارب من واقعه، مدمن للكحول عله يجد فيها مسكن لألمه. في الفيلم تبرز شخصية كايل الطالب الجامعي المناضل السابق ضمن لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية والمتحول لطريق جديد يرى في البندقية طريقاً للتحرير. يجسد الفيلم التحول الكبير الذي حل بالحركة الطلابية في مجتمعات السود في الولايات المتحدة وتحولها من خيار اللاعنف لخيار العنف. برزت في تلك الفترة العديد من الشخصيات التي كانت بارزة ضمن حركة النضال الطلابي السلمي كستوكلي كارمايكل "لاحقاً عرف بكوامي توريه"، إتش راب براون "لاحقاً عرف بجميل عبد الله الأمين" أنجيلا دايفز، إلاين براون وغيرهم من الشباب والشابات. سلك أولئك الشباب والشابات ذلك المسلك ووجدوا  في حزب الفهود السود غايتهم التي أجابت عن تساؤلاتهم فمن هم الفهود السود ومن أين أتوا؟

***

الشهيد الحي، نبوة غيبت: الشاهد والشهيد. المنذر والمحرض.

 «أو تدري لماذا يكرهك الرجل الأبيض؟ لأنه في كل مرة يرى فيها وجهك يرى مرآة فيها جريمته وضميره الذي يعذبه الذنب فلا يتحمل ذلك"

مالكولم إكس "مالك شاباز"

***

عاش مالكولم ليتل الكابوس الأميركي بكل تفاصيله، فقدَ والده منذ الطفولة. فقد والدته التي لم تتحمل هول الصدمات المتتالية فانتهت في مصحة للأمراض العقلية. فقد ذاته وصار روحاً تائهة تبحث عن ذاتية متخيلة بالتماهي في الآخر ومحاولة إفناء ذاتها في صورة الرجل الأبيض عله يقبلها. عاش في عالم الجريمة وانغمس فيه حتى انتهى في السجن. في عزلة السجن بدأت المسألة ونقد المآل. في فترة سجنه تعرف على أفكار أمة الإسلام - مجموعة دينية أسسها أليجا محمد تتبنى خطاب بناء الذات للأفراد السود والانعزال عن المجتمع الأبيض -. وهب مالكوم نفسه للفكرة الجديدة التي أمن بها. عمل على نشر أفكار أمة الإسلام وكان أيضاً مشتبكاً ضد الخطاب السائد في حركة الحقوق الوطنية الساعي للاندماج والانصهار في المجتمع الأميركي. كانت لدى مالكولم القدرة التي تسمح له بالتواصل مع الطبقة الدنيا إقتصادياً في مجتمعات السود؛ بخلاف حركة الحقوق المدنية التى ركزت جهودها على استقطاب الطبقة الوسطى. حاول مالكوم شق طريق جديد في محاولة حل أزمة مجتمعات السود. كان مالكولم واعياً للإشكال الديموغرافي وان الغلبة العددية في الولايات المتحدة الأمريكية لمجتمعات البيض لذا لا بد أن تتناول القضية من منظور أممي يعاون فيه أبناء المستعمرات المحررة حديثاً إخوتهم في النضال  المقهورين في بابل الحديثة. سؤال العنف وخيار الدفاع عن النفس كان حاضراً بقوة في كل خطاباته ومحاضراته. ضرورة تنظيم المجتمعات السوداء كانت مركزية في تصوره لكن القدر لم يمهله واغتيل في شهر شباط – فبراير سنة 1965.

بعد خروجه من أمة الإسلام وانفصاله عن قاعدة جماهيرية عمل على بنائها خلال أكثر من عشر سنين من العمل الشاق، عانى مالكولم مرارة العزلة والوحدة حتى من أقرب المقربين له كصديقه الملاكم محمد علي الذي تخلى عنه لأجل أمة الإسلام وقائدها أليجا محمد. عاش آخر أيامه تحت تهديد مستمر حتى اغتياله. في آخر أيامه أسس منظمة الوحدة الأفرو - أميركية. مثّل الخطاب الذي بشر به مالكوم أطروحة أيديولوجية بديلة عن الخطاب السائد في حركة الحقوق المدنية. وجد جيل الشباب الجامعي الثائر على ظروف الفقر، البطالة، وحرب فيتنام في خطاب مالكوم ضالتهم، وأصبحت أفكاره مركزية لكل الحركات التحررية في مجتمعات السود ما بعد اغتياله.

***

الفهود السود النشأة والتكوين:

"ليترك السلاح لابد أن يحمل"

 ماو

***

كانت البداية مع هيوي نيوتن وبوبي سيلز الطالبين في كلية ميريت في مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا. نشأ كل من الشابين في بيئة مضطربة وعايشوا معاناة مجتمعاتهم السوداء فترة نضال حركة الحقوق المدنية. عمل بوبي فترة من حياته في برنامج مكافحة الفقر وشاهد بعينه المعاناة التي يمر بها أبناء مجتمعه بينما إنغمس هيوي في رفقة الشباب المهمش التائه عن ذاته، وشاهد بعينه الأثر المدمر لما سماه بعد ذلك بالانتحار الرجعي الذي تفرضه منظومة القهر على مجتمعات السود دافعة إياهم إلى غياهب الجريمة والإدمان.

إنضم الشابان لمنظمة العمل الثوري (Revolutionary Action Movement) RAM لكنهما أدركا بسرعة عجز الأيديولوجية التي تدعو لها RAM وضعف خطابها عن تفسير واقعهم. فأيديولوجيا القومية السوداء التي كانت تدعو لها رام تعلي من مسألة الهوية على حساب البعد الطبقي للصراع. الوعي بطبقية الصراع كان حاضراً في مخيلة هيوي وبوبي منذ بداية التكوين، وكانا مدركين بشدة لضرورة عدم الانزلاق في فخ الهويات. فالمُستَغِل الأسود مسُتَغِل وإن كان أسود البشرة. 

بطبيعة دراسته  وشغفه المعرفي كان هيوي ملم إلمام جيد بقانون البلاد. من طبيعة تعامله اليومي مع عنف جهاز الشرطة المستعمل في إخضاع مجتمعات السود خرج بضرورة وضع حد لممارسات هذا الجهاز القمعي. وجد هيوي ضالته في ثغرة في القانون تسمح للمواطنين المسلحين مراقبة سلوك الشرطة من مسافة معقولة للتأكد من التزام أعضاء الجهاز الشرطي بالممارسة القانونية السليمة. طرح هيوي الفكرة على بوبي الذي أعجب بها وبدأ الشابان مباشرة ممارسة الدور الرقابي على جهاز الدولة الشرطي. من هنا كانت البداية ونشأ حزب الفهود السود للدفاع عن النفس أسقطت جملة الدفاع عن النفس لاحقاً ليصبح الإسم حزب الفهود السود. منذ البداية كانت ضرورة التثقيف الثوري حاضرة في مخيلة المؤسسين لوعيهم بأن بندقية بلا فكر تقتل ولكنها لا تحرر. ضمن تحليل الفهود كانت قوى الشرطة تمثل قوة احتلال وإخضاع لمجتمعات السود. نظرة في قائمة الكتب الموصى بها في مجلة الحزب تظهر بوضوح التأثر الكبير  بالحركات الثورية المناضلة ضد الاستعمار في "العالم الثالث".

 

 

"

كاتب سوداني