Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

وحده نواف سلام يتنقل من مهرجان إلى آخر مشاركاً الحاضرين فرحتهم - وربما هذيانهم -. في البدء كان شكسبير، وكان "هاملت: الأمير المجنون" في السراي الكبير (أداء رفعت طربيه وإخراج لينا أبيض)، ثم كان نوّاف سلام في بعلبك

حنين محمد

هاملت المجنون في السرايا الكبير

يتأرجح البلد بين خطر حرب إسرائيلية جديدة وتهديدات أمنية تتدحرج من سوريا. توماس براك، المبعوث الأميركي إلى منطقتنا، يتوعد لبنان بمحوه عن الخارطة وبإرجاعه إلى بلاد الشام. السفراء والدبلوماسيون يجمعون على أن الوضع الداخلي متفجّر. وحده نواف سلام يتنقل من مهرجان إلى آخر مشاركاً الحاضرين فرحتهم - وربما هذيانهم -. في البدء كان شكسبير، وكان "هاملت: الأمير المجنون" في السراي الكبير (أداء رفعت طربيه وإخراج لينا أبيض)، ثم كان نوّاف سلام في بعلبك ومهرجاناتها، وبعد ذلك في بيت الدين. قد يبدو في حضور "الرجل الاحتفالي" في كل هذه المناسبات نوعاً من المشاركة الرمزية في الحياة العامة، للوهلة الأولى، لكنه في العمق يعكس مقاربة سياسية مأزومة. وكأنه يبحث عن الشرعية في مساحات الاستعراض بدلاً من مواجهتها.

شغل سلام منصب سفير لبنان ومندوبه الدائم لدى الأمم المتحدة (2007 – 2017)، ثم قاضٍ في محكمة العدل الدولية منذ 2018، إلى أن جاء إلى رئاسة الحكومة في 8 شباط/ فبراير 2025، محمّلاً برأسمال النخبة الدولية الذي يلوّن ممارسته السياسية. يمكننا لحاظ حرصه على هذا الرأسمال. في صوره المنتشرة في الطرقات. في ربطة العنق "الدونتيل" التي تؤكد شغله منصباً مرموقاً في المحافل الدولية، وفي ملامح وجهه خلال زياراته لمناطق الأطراف.

نزعة الشوفينية الثقافية هذه تظهر بوضوح في طريقة تعاطيه مع الداخل، وكأنه يتوجّه إلى مجتمع دوني يحتاج إلى وصايته فحسب. لا تنحصر فوقية الرجل في الخطاب، بل تتجلى في التفاصيل؛ لغة الحديث، اختيار المنابر، وحتى كيفية تمثيل نفسه في مواجهة الشعب.

قوبلت هذه النزعة بصدمة رفض في قرى جبل عامل بداية، خلال زيارة سلام لها في 28 شباط/ فبراير السنة الجارية. لم يكن الأمر مجرد حادثة بروتوكولية، بل لحظة انكشاف سياسي. بدا واضحاً أن سلام يفتقد لمهارة مشاركة الناس أحزانهم، كمشاركتهم الفرح. شعر الأهالي بذلك ولم يترددوا في مواجهته بالأسئلة والمعاتبة التي تخص أراضيهم المحتلة من قبل العدو الصهيوني. في المقابل، نادى سلام بنزع سلاح المقاومة وحصر السلاح بيد الدولة كما أمليَت عليه القرارات الدولية، في الوقت الذي يفتقر فيه لبنان لأي قوة بديلة للدفاع بوجه الاحتلال، وكأنما هو تسليم مصير طوعي باسم الشرعية الدولية.

لم تكن ردة فعل الأهالي خلافاً عابراً، بل تعبير عن فجوة أعمق، فجوة بين خطاب أممي يستند إلى القرارات الدولية، وبين مجتمع يعيش تهديد الاحتلال كمسألة وجودية. هنا يبرز سؤال محوري: هل "النخبوية الدولية" التي تظهر في ملامح نواف سلام تعني بالضرورة الانفصال عن المجتمع؟.

استحضار مفهوم "التماهي مع المستعمر" الذي قدّمه هومي بابا في دراسته لما بعد الاستعمار قد تفيد في هذا المجال. فالنخبة المحلية التي تتشرب قيم المركز الغربي تصبح، من حيث لا تدري، مرآة لهذا المركز، وتعيد إنتاج خطابه السياسي والثقافي داخل مجتمعها بدل من أن تبلور خطاباً وموقفاً ينبع من واقعها وأزمات مجتمعها. وللمفارقة، أنّ هذا الخطاب الأممي، الذي يبدو منطقياً في قاعات الأمم المتحدة، لطالما اصطدم مراراً وتكراراً بمجتمع جنوبي متمسك بأرضه ومبادئه، ما يجعل النخبة عالقة في موقع الوسيط المعلّق، لا هي جزء من المركز الغربي فعلياً، ولا هي ممثلة حقيقية للداخل.

ليس هذا المشهد الأوحد الذي تجلّت فيه "تعاليات" رئيس مجلس الوزراء نواف سلام. فمنذ حوالي الشهرين، وجّه الأخير دعوة إلى نخبة سياسية وثقافية رفيعة المستوى لحضور عرض مسرحي في السراي الحكومي بعنوان "هاملت الأمير المجنون"، إحدى أبرز مسرحيات وليم شكسبير التي كُتبت في القرن السابع عشر. بدا الحفل أكثر من مجرد نشاط ثقافي، إذ كان طقساً لإعادة إنتاج بيئة النخبة الحاكمة عبر استدعاء رموز ثقافية غربية في لحظة يتخبط فيها المجتمع بين تفكك عميق وتهديد وجودي. هنا تتجلى إحدى آليات الهيمنة التي وصفها المفكر الفرنسي بيار بورديو، من خلال مفهومه للرأسمال الثقافي. تستخدم النخبة رموز الثقافة الغربية وأدواتها كوسيلة لفرض مكانتها والحفاظ على تمايزها عن الجماهير. وبدلاً من أن تكون الثقافة وسيلة تعبير عن مشاكل المجتمع وخصوصيته، تتحول إلى أداة للتمييز وإعادة إنتاج الهيمنة، ما يعمّق فجوة الانفصال بين السلطة والشعب، وليس بأمر مستغرب فمن يبعد عن معاناة الناس، لن تهمه فكرة الفنّ في تجسيد الواقع.

ومن الرأسمال الثقافي إلى الإقصاء الرمزي، لا تنفكّ أن تتجلى ممارسات الدونية للمحلي والاستعلاء الغربي. لن نذهب بعيداً، فبعد الوفاة المفاجئة للفنان زياد الرحباني، أحد أبرز الرموز الثقافية والفنية اللبنانية، والذي شكّل امتداداً لمشروع الرحابنة في نقد السلطة والواقع الاجتماعي، علت أصوات كثيرة تطالب مجلس الوزراء بإعلان الحداد الوطني الرسمي، لكن وكما هو متوقع، لم يحدث شيء. بدا الصمت الرسمي وكأنه قرار واعي بإقصاء رمز محلي من فضاء الاعتراف العام، وحرمانه من المكانة التي يستحقها في الذاكرة الوطنية.

في المقابل، قد لا نتفاجأ حين يبادر مجلس الوزراء إلى إظهار أعلى درجات التكريم لشخصيات غربية، كما حدث مع الملكة إليزابيث الثانية التي حظيت ببيانات رسمية ورسائل تعزية، وحتى إعلان الحداد الرسمي. هذا التباين لا يعكس فقط ازدواجية في المعايير، بل يعيد إنتاج ما يسميه بورديو بالعنف الرمزي، أي فرض السلطة لسلم قيمي يعتبر الغربي أعلى مرتبة وأكثر جدارة بالتكريم من رموز الداخل، حتى لو كانت الأخيرة أكثر تأثيراً في حياة الناس وهويتهم الثقافية.

هكذا، يتحوّل فعل الحداد الذي يفترض أن يكون تعبيراً عن وحدة وجدانية ومشتركة إلى أداة فرز اجتماعي وثقافي، ممتدة من تبعية السلطة للخارج، حول من يستحق أن نبكي عليه رسمياً، ومن يُترك لمحبينه ينعونه في صمت.

وإذا كانت النخبوية الثقافية تتجلّى في استدعاء الرموز الغربية وإقصاء المحلي، فإنّ حدة الخطاب السياسي عند نواف سلام تكشف وجهاً آخر لهذه الممارسة. فمن يتابع تصريحاته ومداخلاته يلاحظ أنه يتحدث بلغة أقرب إلى لغة القاضي منها إلى لغة رجل الدولة. من الجمل القطعية، إلى الأحكام النهائية، والعبارات المشحونة باليقين الأخلاقي. يحكي كمن يصدر قرارات ملزمة لا يقبل فيها الجدل. هذه النبرة، التي ربما تأثرت بخلفيته كقاضٍ في محكمة العدل الدولية، تعطي انطباعاً بأنه يتعاطى مع خصومه ومخالفيه لا كأطراف في نقاش وطني معقد، بل كمتهمين في قاعة محكمة دولية، وما عليهم غير الإمتثال للأحكام الخارجية أو مواجهة الإدانة، مستبعِداً أي مساحة للتفاوض، أو الاعتراف، بتعقيدات الواقع. وهكذا يضيف سلام إلى فجوة الانفصال الثقافي فجوة أخرى في الخطاب، فجوة بين سياسي يتكلم بلسان القاضي، وشعب كان ينتظر منه أن يكون عقلانياً لمصلحته ومصلحة البلاد، بدلاً من أن يكون وسيطاً للمستعمر، وأن يتكلم بلسانهم حتى وإن كان الكلام لا يحلّ الكثير.

بهذا المعنى، لا يبدو نواف سلام مجرد رئيس حكومة في لحظة أزمة، بل تجسيداً لنخبة عالقة بين ولاءاتها الأممية وانفصالها عن مجتمعها، يحتفي بالرموز الغربية ليكرّس رأس ماله الثقافي، يتحدث بلسان القاضي ليمنح خطابه سلطة الحكم، ويقصي رموز الداخل ليعيد إنتاج تراتبية تُبقي المحلي في مرتبة أدنى. ليست هذه تفاصيل عابرة، إنها مؤشرات على مسار سياسي يرى الخلاص في الخارج، ولو على حساب الداخل. وهنا يفرض السؤال نفسه: هل يمكن لبلد أن يخطو في مسار التحرر حين تعكس نخبته صورة الآخر أكثر مما تعكس معاناة ناسه ومصلحة أرضه؟.

كاتبة لبنانية