Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تسحب الدولة يدها من النازحين. الأمر لا يمكن فهمه بسهولة. ظهيرة نهار الإثنين في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2024، بدأ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أكبر هجماته الجوية على جنوب لبنان. بحلول الساعة الثانية ظهراً كان ما يزيد عن مئة ألف نازح قد خرجوا بما خف حمله من بيوتهم، من الجنوب قاصدين بيروت. اثنتا عشرة ساعة أو يزيد كانت المدة المطلوبة للوصول إلى بيروت. مرة جديدة، الأمر لا يمكن فهمه بسهولة. طرقات بلا شرطة تنظم السير، نازحون بلا وجهة محددة، ومراكز إيواء معدودة على أصابع اليد الواحدة

حيدر عماد الدين الموسوي

النازحون ودولتنا السارحة

تسحب الدولة يدها من النازحين. الأمر لا يمكن فهمه بسهولة. ظهيرة نهار الإثنين في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2024، بدأ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أكبر هجماته الجوية على جنوب لبنان. بحلول الساعة الثانية ظهراً كان ما يزيد عن مئة ألف نازح قد خرجوا بما خف حمله من بيوتهم، من الجنوب قاصدين بيروت. اثنتا عشرة ساعة أو يزيد كانت المدة المطلوبة للوصول إلى بيروت. مرة جديدة، الأمر لا يمكن فهمه بسهولة. طرقات بلا شرطة تنظم السير، نازحون بلا وجهة محددة، ومراكز إيواء معدودة على أصابع اليد الواحدة، لا تكفي لنزوح قرية واحدة من قرى الجنوب.ا

في وسط بيروت نام النازحون. أطفال، نساء، ورجال أتعبهم ازدحام النهار فافترشوا الأرض. "لا سقف يسترنا ولا أرض تأوينا" كان حال لسانهم. مشهد يختصر واقع لبنان وحاله. مبانٍ فارهة وخالية تضج بالصمت، ومن تحتها عوائل تائهة لا تعرف الوجهة ولا المصير. بضعة شباب من طرابلس كانوا موجودين في الساحة فقط. "إلى طرابلس يا أهلنا" كانوا ينادون على الناس. يدورون على العوائل، يستفقدون احتياجاتهم، ويتصلون بأهلهم لفتح منازلهم للنازحين. "إلى بيوتكم بضيافتنا في الشمال" ينادون النازحين.ا

ليست المشكلة في ما وقع ظهيرة، أو مساء، الثالث والعشرين من أيلول على صعوبته. المشكلة في أن الهيئة العامة للإغاثة كانت قد أعلنت استنفارها منذ ما يزيد عن العشرة أشهر، لكن لقاءات واجتماعات وطاولات مستديرة لم تسفر عن أي خطة، أو مشروع خطة، للتعامل مع كارثة كانت تطل برأسها منذ عام تقريباً. يقول مطلعون أن الهيئة استندت في "رخاوة موقفها" على تقدير سياسي خاطئ نقله لها رئيس الحكومة وبعض المطلعين على خفايا لقاءات هوكشتاين. والكارثة أن أحداً إلى اليوم لم يطل برأسه من جهاز الهيئة ليخاطب الناس عما تنوي الدولة فعله. نحن في شلل تام للدولة، هي أعلنت صراحة عدم مسؤوليتها عن الناس، والأغرب أن الناس ما عادت تطالب الدولة بشيء.ا

ما بعد التاسع من أيلول لم يكن أشفى حالاً. شباب من الأحزاب (وعلى رأسهم الحزب القومي السوري)، وبعض "قبضايات" الأحياء أخذوا المبادرة على عاتقهم في شوارع الحمرا وسليم سلام ومار الياس وطريق الجديدة، في قلب بيروت القديمة، نيابة عن الدولة. فتح الكثير منهم أقفال المباني المهجورة في بيروت لإيواء الناس. لهؤلاء كثير من الفضل، فلولاهم لكانت الأمور مهولة وكارثية.ا

أسابيع مضت ولا شيء يلوح في الأفق. وفق آخر تقرير صادر عن منسق لجنة الطوارئ الحكومية، وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين، فقد فتحت الدولة 892 مركزاً لاستقبال النازحين، منها 677 مركزاً وصلت للحد الأقصى من قدرتها الاستيعابية. أما عدد النازحين المسجلين لدى الدولة فقد وصل إلى نحو 163600 نازحاً. بمعنى من المعاني، لم يتجازو عدد النازحين المسجلين لدى الدولة بأحلى الأحوال الـ15% من مجمل عددهم الكلي.ا

نحن على مشارف نهاية الشهر الأول من الكارثة. لا أحد يعتبر نفسه معنياً. نحن هنا لا نتحدث عن إهمال فحسب. هو عدوان من قبل الدولة على الناس، وهذه واحدة من تبعات انهيار الدولة عام 2019. وكأن الناس لم يكن ينقصها غير عدوان الدولة عليهم. بنية الدولة غير مجهزة لأي نوع من الكوارث، وتكتفي السلطات بهيئة عليا للإغاثة كاستجابة للكوارث بعد وقوعها، ودون أي خطة استباقية لإدارة كارثة ماثلة أمام أعيننا منذ عام تقريباً، والأنكى أن الهيئة ليست غير عنوان من عناوين "مزاريب الهدر". يطل رئيسها بين الفينة والأخرى لطلب المساعدة من الدول الخارجية، ويرحب ببسالة المواطنين وكرمهم، ويتمنى عليهم أن "يحملوا كتفاً عن كاهل الدولة المفلسة".ا

كارثة اللجنة الوطنية لإدارة الكوارث:ا
لطالما اعتبرت الكوارث في لبنان فرصة لاستجداء الأموال من الخارج. إلا أن الأمر اليوم يبدو مختلفاً. فتور دولي وعالمي في التضامن مع الشعب اللبناني. المساعدات الدولية مشروطة، وثقة المجتمع الدولي بمؤسسات الدولة معدومة. لا داعي للتذكير بفواجع حرائق الغابات عام 2019، وعدم إجراء الصيانة الدورية لطائرات "سيكورسكي" المختصة بإطفاء الحرائق. كذلك لا داعي للتذكير بآثار انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، ولا بآثار زلزال تركيا 2023 علينا، كلها محطات أكدت المؤكد عند الناس، وجعلتهم بمعزل عن سؤال الدولة ومساءلتها.ا

لقد ظل مشروع قانون إنشاء "هيئة إدارة الكوارث" معلقاً لسنوات، في أدراج مجلس النواب نتيجة لخلاف طائفي وسياسي حول صلاحية الهيئة وتبعيتها؛ هل ينبغي استتباع الهيئة وربطها برئاسة الوزراء أو برئاسة الجمهورية؟. خلاف نجم عنه غياب التخطيط المسبق للكوارث في لبنان وترك اللبنانيين لمصائرهم بعد وقوع الكوارث!ا

أما اليوم، فسوء التقدير هو الحاكم. إذ رد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على طلب ناصر ياسين قبل أكثر من شهرين بدعم لجان إدارة الأزمات في الجنوب، بما يتراوح بين الـ5 و10 ملايين دولار لتأمين الحاجات الأساسية للنازحين (كالفرش ومستلزمات النظافة الأولية، وتأهيل مراكز الإيواء) بأن ثمة صعوبة بتأمين مبلغ مماثل، موعزاً عوضاً عن ذلك بفتح اعتماد بقيمة 150 مليار ليرة للهيئة العليا للإغاثة في حال حصول اعتداءات، على أن تكون هذه الاعتمادات عرضة للزيادة حسب الحاجة، وعلى أن يدعو رئيس الحكومة في حال نشوب الحرب، إلى اجتماعات وزارية مفتوحة تأخذ القرارات بشكل فوري وسريع مباشرة. الكارثة أن لا اجتماعات مفتوحة حدثت، ولا قرارات فورية، ولا خطوات لمعالجة الأزمة، ولا من يحزنون.ا

نحن رهائن غياب هيئة فاعلة، ودولة مسؤولة. لا مسؤوليات واضحة تسمح بتفعيل آليات المحاسبة، ولا صلاحيات قانونية للجان الهيئة تسمح بمحاسبتها أصلاً. "خطة الاستجابة الوطنية خلال الكوارث والأزمات" الموضوعة بين عامي 2012 و2017 من قبل اللجنة الوزارية لإدارة الكوارث حول "توزيع الأدوار بوضوح على الجهات المعنية" مشلولة تماماً، والتخطيط فيها رهن الورق ليس إلا، أما التطبيق فيفتقر للموارد البشرية والمالية، ولعناصر متفرغة لعملها. حال الهيئة كحال الدولة: "سارحة والرب راعيها".ا