Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

بات من الواضح عودة تربّع المصارف على قمة النظام من ناحية قدرة التأثير على السياسات المالية والنقدية. ما ينذر باستمرار نفس النموذج الريعي الذي ارهق المجتمع

خضر أنور

الرد اللبناني على براك: تحرّر ام احتلال

تُظهر الورقة اللبنانية التي تم إعدادها أواخر تموز للرد على مطالب الموفد الأميركي توم باراك، محاولة واضحة من الدولة اللبنانية للمواءمة بين المطالب الأميركية والإسرائيلية بحصر السلاح بيد الدولة، وبين موقف حزب الله الرافض تسليم السلاح قبل الانسحاب الكامل لـ"إسرائيل" من الأراضي المحتلة. ورغم أن الورقة تسعى لتفادي تصعيد محتمل أو أزمة داخلية حادة، فإنها تكشف في الوقت نفسه عن تناقضات عميقة في بنية النظام اللبناني، الذي يراوح بين التبعية والاستغلال، ويبرز توجه السلطة نحو نزع مقومات السيادة المجتمعية على الأرض وفي حياة الناس.

وقد نشرت صحيفة المدن الإلكترونية من قبل، أهم بنود هذا الرد اللبناني، حيث جرى التركيز على هذه المحاور المتشابكة، وهو ما أكد توقعات المسؤولين اللبنانيين بأن إسرائيل والولايات المتحدة لن ترضيا بهذا الرد. كما صدرت تصريحات ومقالات عديدة تشير إلى احتمال فشل هذه المحطة التفاوضية، بسبب التناقض بين المطلب الأميركي بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وبين الموقف اللبناني المقاوم الذي يعتبر أن الانسحاب الإسرائيلي هو الشرط الأساسي لأي نقاش.

لقد جاء في الورقة جانبان رئيسيان في هذا التناقض. الأول: التمسك بخطاب القسم والبيان الوزاري، سيما في ما خص حماية السيادة، وتطبيق الإصلاحات، والتمسك بمرجعية الدولة ومؤسساتها. أما الثاني: فهو المضي في مسار الإصلاحات المالية والاقتصادية. ويُدرج هذا الالتزام في سياق إعادة بناء الثقة بالاقتصاد اللبناني واستعادة علاقته الطبيعية بالمنظومة المالية الدولية.

بادئ الأمر، يجب التأكيد على العلاقة ما بين السيادة والنموذج الاقتصادي. فإن السياسة بما تحمل من مفاهيم هي انعكاس لنمط الاقتصاد والعلاقات التي تسيره. حيث لا يمكن فهم ديناميكيات العلاقات السياسية دون النظر إلى  ديناميكيات العلاقات الاقتصادية وتأثيرها الطبقي. وهذا ليس محصوراً فقط بالبعد المحلي، بل العالمي أيضاً. بالأخص أن نمط الاقتصاد العالمي الرأسمالي أدى الى اضمحلال الاقتصادات الوطنية التي قامت عليها مفهوم السيادة في القرن السابع  والثامن عشر، وتعمق ذلك أكثر مع  العولمة النيوليبرالية وتقسيم العمل العالمي في الإنتاج.

بالنظر إلى البند الثاني المذكور أعلاه، حول المضي في الإصلاحات وإعادة بناء الثقة بالاقتصاد اللبناني، ثمة إشكالية تطرح ها هنا لها علاقة بالنموذج. إذ بات من الواضح عودة تربّع المصارف على قمة النظام من ناحية قدرة التأثير على السياسات المالية والنقدية. ما ينذر باستمرار نفس النموذج الريعي الذي ارهق المجتمع. فكيف يمكن أن يكون المجتمع سيد نفسه في ظل  تبعية اقتصادية مع غياب الإنتاج المحلي وأمولة الاقتصاد امتداداً لبنية المنظومة المالية الدولية؟

بالتالي، لا تسعى الدولة إلى الموائمة ما بين الحزب والمطلب الأميركي، بل أيضا إلى الموائمة ما بين شروط صندوق النقد وأسياد المال المحليين، ما يضع الدولة في ممارستها كسمسار يسعى إلى التوفيق بين النموذج الاقتصادي - السياسي المحلي والتغيرات الإقليمية والعالمية على مستوى النظام العالمي ككل.

ومن هنا الانطلاقة الى مفهوم السيادة المذكورة في هذه الورقة، بدءاً من شكل انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتعيين حاكم مصرف لبنان وصولاً إلى شكل المفاوضات والعلاقات التي تقوم على أساسها. فلطالما ارتبطت كل تلك الجوانب بشكل وثيق بالتغيرات الإقليمية وموازين القوى، بدلاً من أن تكون تعبيراً عن إرادة الناس التي تشكل أساس سيادتهم. فالدولة قد تستمر لسنوات دون رئيس جمهورية وعند كل استحقاق انتخابي، وتعييني، تُخاض معارك سياسية بين أقطاب النظام للمحاصصة وتقسيم الغنيمة, بانتظار الإشارة الأمريكية والطائرة الصهيونية حتى يتم الانتخاب وتسريع الاتفاقات. وصولاً إلى  شكل الاتفاق على هذه الورقة بالذات بمنطق توفيقي لا سيادي.

وهنا يكمن تناقض استراتيجية الحزب بين خيار المقاومة من جهة، وتموضعه في النموذج النظام الاقتصادي – السياسي من جهة أخرى. فعلى الرغم من أن موقفه من عدم تسليم السلاح باعتباره شأناً داخلياً، وأوليته بانسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة، إلا أنه كان جزءاً أساسيا من منظومة انتخاب حاكم مصرف لبنان "كريم سعيد" الذي يسعى إلى دولرة الاقتصاد بشكل كامل ضمن سياسات تعميق الأمولة، واللافت أن حاكم مصرف لبنان نفسه كان قد نشر مقالاً عن طرحه للسلام مع الكيان الصهيوني من خلال ضمان منطقة منزوعة السلاح من الدامور، حتى من سلاح الجيش نفسه.¹

يُضاف إلى ذلك تمظهراً لهذا التناقض عند الحزب، بعد الحرب مباشرة، طلبه إلى جانب حركة أمل في الاحتفاظ بحقيبة وزارة المالية في مقابل انتخاب رئيس الجمهورية ونواف سلام. إن هذا الواقع المعقد، يطرح إشكالية السيادة في ظل النظام الاجتماعي الطبقي، ومنها إشكاليات التحرر والمقاومة ودور الدولة في مجتمعنا.

كمثال، وفي حمأة الحرب، ظهر تحكم التجار والسماسرة وأصحاب العقارات بأعناق المجتمع، وظهر أيضاً تموضع الدولة ودورها في ترك الناس تحت تلك قبضة هؤلاء، في المقابل تحركها عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية لحماية الملكية الخاصة للعقارات الفارغة. فمصلحة أسياد المال حاكمة على خلفيات "السياديين"، ودور الدولة في هذا الواقع يدحض السائد في الأوساط السياسية التغييرية، وحتى الشعبية، عن "غياب الدولة". فالدولة موجودة، وبقوة، تبسط مركزيتها في السمسرة وفي المفاوضات على  حساب الناس، وفي جذب أموال الريع والمساعدات، وحماية النموذج الاقتصادي بتبعيته وأنماطه الاستغلالية.

لذلك إن مسألة التحرر والسيادة بالمفهوم الكلي للمعنى، لن تتحقق في ظل هذا النموذج الاقتصادي ودور الدولة فيه، كما أن تموّضع الحزب في بنية النظام اللبناني على جميع مستوياته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قد يضعه في مأزق ما بين الدور المقاوم وبين الدور المحافظ على النظام، وهنا اشكالية أساسية، بالنسبة لمصير المجتمع ككل.

لا سلام مع الاحتلال، مهما تخيّل البعض بأنه ممكنا نتيجة غياب الرؤية بسبب دور الهيمنة والإعلام، أو نتيجة مصالح طبقية لأسياد رأس المال. فالعقيدة الصهيونية نفسها تقوم على الحرب الدائمة والتوسع والاستيطان، وإلى جانبها الهيمنة الأمريكية ومصالحها المشتركة مع الفرنسي والألماني والإنجليزي. هذا ما يجعل مجتمعنا في حالة من المقاومة الدائمة.

الأمر يتجاوز مسألة السلاح والحزب إلى سعي دائم لتلك القوى لتحقيق مصلحتها، حتى ولو ظهرت في بعض الأحيان متناقضة وعلى حساب المجتمع ككل في لبنان والمنطقة، وهذا ما تحاول تحقيقه إما بالسلاح أو بالاقتصاد أو بالسياسة او بالثقافة.

أن مسار التحرر هو مسار الثورة الاجتماعية في تجاوز بنية النظام الطبقي الذي يمتص موارد المجتمع وقدراته لصالح الربح محلياً وعالمياً، هو مسار استرداد حق الشعوب في تقرير مصيرها انطلاقاً من مصلحتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ومن خلال استرداد قوة التأثير ومعرفة الواقع خارج أسوار أيديولوجيا الاخضاع والاستلاب والهيمنة الثقافية. وإلا سنكون تحت نموذج احتلال لا يختلف كثيراً عن الضفة الغربية لفلسطين.

ناشط سياسي لبناني