Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

من الشهيد سليمان في البداوي إلى الشهيد سليمان في عين الحلوة، أذكر يوم تشييع السيّد أحد المشاهد التي أدمت قلبي، رجل كبير شعرت أنني أعرفه، يحتضن صورة تبدو لشهيد، يمشي وحيدًا مسرعًا باكيًا بحرقةٍ، اقتربت منه، فكان والد الشهيد سليمان الأحمد (35 عامًا) الذي استشهد في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 على الحدود الفلسطينية-اللبنانية.

سندس الرفاعي

جار المخيم

ا"هيّاها ع العاملية مخيم البرج" هذه الخلفية الصوتية لإحدى الفيديوهات التي وثّقت استهداف السيد حسن. في الدقائق الأولى بعد الاستهداف كانت الأخبار تضارب عن موقع الضربات كما الحال عند حدوث أي غارات، لكّن غالبية الناس القريبة إلى حدٍّ ما من الموقع رجّحت أن يكون الاستهداف داخل المخيّم.ا

الحال نفسه مع سكّان مخيّم برج البراجنة، لم يخل لأي شخص سمع تلك الأصوات ورأى الوهج الأحمر الذي غطى كل المخيم، وعاش "أهوال يوم القيامة" بحدّ وصفهم، ألّا تكون هذه الضربة داخل المخيم، خرج الناس يركضون بالزواريب هائمين على وجوههم، يتشاهدون ويفتشون على "ناسهم" ويصرخون "ضربوا المخيم".ا

تتعدد مداخل المخيم الذي تبلغ مساحته حوالي الكيلومتر مربع، أحدها كان ذلك الذي يقع من "جهة العامليّة"، الجهة التي استشهد قربها السيّد.ا

كان السيّد يبعد عن المخيم "جسر مشاة" أو "قطعة طريق". تشكّل تلك المنطقة الطريق اليومي لغالبية أهالي المخيم، من يذهب إلى عمله أو جامعته أو غيره.. ففي ذاك الاستهداف استشهد الشاب راني الحاج (27 عاما) من المخيم مع والدته الذين كانوا بزيارة لجدته في أحد الأبنية المستهدفة. أصبح هذا الحدث الفارق بالنسبة للمخيم، كما الضاحية كلّها، محددًّا زمنيًّا، فعند ذكر حادثة جرت خلال هاتين السنتين، ترفق بـ"قبل ضربة السيّد" أو "بعدها".ا

قبل تأكيد خبر استشهاد السيّد، لم تكن حالة نكران الخبر واستبعاده ناتجة فقط من محبة أهل المخيم للسيّد، إنّما استحالة أن يكون قريباً الى هذا الحد، أن يكون قد استشهد بجوارهم، فتشكّل الجيرة وجعًا مضافًا.. تقول إحدى الشابّات بعفويّةٍ: "معقول السيّد كان يشوفني لما كنت أمرق حدّه؟" ا

بعيدًا عن مخيم برج البراجنة، سُئلت قبل تشييع السيّد عن علاقتنا كفلسطينيين في لبنان به لغرضٍ صحفي. لا أعلم كيف تهرّبت من الإجابة، فكيف يُجاب عن "البديهي"؟ لو سألت هذا السؤال في المخيمات ستكون الاجابة الأولى "استشهد لأجلنا لأجل فلسطين لأجل غزّة". وعلى الرغم من أنّ هذه الإجابة تختزل العلاقة بالسيد بفتح جبهة الاسناد واستشهاده –لا غرابة، فالزمن الذي فتحته غزة في 7 أكتوبر بالتأكيد زمن جديد- إلا أن العلاقة ممتدة لما قبل ذلك بكثير. فمع هذا الجنوبي عدنا نرى فلسطين. تحرير الجنوب عام 2000 حمل للبنانيين العودة لقراهم وتحرير أسراهم، وحمل لنا العودة لرؤية الجليل واللقاء على الشريط الحدودي مع أقارب وعوائل لجأ أفرادها إلى لبنان وبقي آخرين في الأرض المحتلة. شكل لنا الـ2000 أيضاً انتصاراً لدماء آلاف الفلسطينيين الذين استشهدوا في لبنان في مواجهة الصهيونية، وانخراط الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال لم يتوقف مع خروج منظمة التحرير عام 1982، فمثلاً عام 1991 في "بليدا" وخلال اشتباك مباشر استشهدت مجموعة مشتركة مؤلفة من ثلاثة مجاهدين: محمد أبو ناصر من قضاء الناصرة واللاجئ في مخيم نهر البارد، وأشرف الشيخ خليل القادم من رفح في قطاع غزة (من حركة الجهاد الإسلامي)، وحسين علي منصور (من المقاومة الإسلامية). تلك العلاقة تشمل كل ما له علاقة بمقاومة الاحتلال وما شكله في ذاكرتنا من تحرير الجنوب إلى انتصار تموز إلى تحرير الأسرى، ويشمل أيضاً اهتمامنا بخطاباته التي تخص القضايا "اللبنانية الداخلية" في بلد نعيشه ونتأثر بطبيعة الحال بمجرياته.ا

بالعودة لذاك السؤال. من وقتها حتى اليوم أراقب مظاهر تلك العلاقة في المخيمات - من المهم ذكر أنني لم أسعَ لإيجاد هذه المظاهر بل كانت تتراءى أمامي - من سيارات الأجرة التي وضعت صور السيّد، أو تلك التي طبعت (بأخطاءٍ املائية ربّما) عبارة الوداع له "إلى اللقاء مع انتصار الدم على السّيف"، إلى صورته المعلقة على عربة ذرة في مخيم عين الحلوة، والسيدة خولة السبعينية الفدائية السابقة من حي الزيب، جمعتني بها مناسبةٌ لمعارفنا، لمحتها تلتقط صورًا من هاتفها ذي الغلاف المطبوع عليه صورة السيّد، لم يخطر ببالي سوى أن يكون أحد أحفادها قد أهداها اياه أو أن أحد المحلات في السوق تبيعه، سألتها من أين حصلت عليه ردت "Shein"، الحجة خولة طلبت من جارتها أن تشحن لها غلاف هاتف واختارت صورة السيّد. إن مراقبة تلك المظاهر جعلني أحمّل في هاتفي كمًّا كبيرًا من صور السيّد في كلّ المخيمات، من مخيم الرشيدية جنوبًا حتى مخيم نهر البارد شمالًا، في محلات السمانة وعلى الجدران، لصورٍ كما هي للسيد، أو بتصاميم فردية مثل التي أُرفقت بـ"مهر القدس غالي"، أو تلك التي صُمِّمت من فصائل كالتي تجمعه مع السّنوار والضيف وهنيّة، أيضا ذلك التصميم المعلّق على جدران مخيّم البداوي الذي يجمع القادة الشّهداء مع شهداء مخيمات الشّمال.ا

في قصّةٍ سمعتها من عمِّ الشهيد سليمان سليمان (19 عامًا) من مخيم البداوي، الذي استشهد في عيترون في مواجهة واشتباك مع قوات الاحتلال بتاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أنه قبل استشهاده بشهر تلقى خبر استشهاد السيد، يذكر عمّه الذي كان يعمل معه في محل لتوزيع المياه في جبل البداوي، أنه لم يسبق له أن رأى سليمان يبكي بحرقة كيومها، حاول تهدئته، لكن سليمان واصل بكاءه دون كلام، طلب عمه منه أن يعود إلى المنزل فلا يمكن أن يبقى بهذه الحالة ويرونه أبناء المنطقة "الباغضين فيها أكثر من المحبين" كما يقول. كأن بيوتنا ومخيماتنا نحن الفلسطينيون كانت مكانًا نلوذ به لنبكيه ونرثيه.ا

من الشهيد سليمان في البداوي إلى الشهيد سليمان في عين الحلوة، أذكر يوم تشييع السيّد أحد المشاهد التي أدمت قلبي، رجل كبير شعرت أنني أعرفه، يحتضن صورة تبدو لشهيد، يمشي وحيدًا مسرعًا باكيًا بحرقةٍ، اقتربت منه، فكان والد الشهيد سليمان الأحمد (35 عامًا) الذي استشهد في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 على الحدود الفلسطينية-اللبنانية. شعرته يركض نحو السيّد يخبره أن دماء ابنه وأبناء المخيمات سالت بجانب رفاقه من أبناء السيّد يوم وقف أبناء عاملة والجليل على الحدود دفاعًا ونصرةً لغزّة. وكما حضر الشهداء في تشييع السيد، فقد حضرت صوره أيضا في تشييع الشهداء داخل المخيمات.ا

في يوم التشييع وبعد انتهاء المراسم، عدت من مكان ضريح السيّد عند الساعة العاشرة مساءً نحو مخيم برج البراجنة لأستريح، فاستقبلتني على مدخل المخيّم يافطة كبيرة جدًّا كتب عليها إلى جانب صورة السيّد "شعب فلسطين على العهد". أذكر يومها أن الطريق مشيًا لم يأخذ معي 5 دقائق.. جاور السيّد الشهيد المخيم حتى بعد استشهاده.ا

في لسان العرب، يأتي بعض معاني كلمة "جار": المقاسم، النّاصر، الحليف.. نشهد الله والتاريخ يا سيّد أنّك كنت كلّهم وأكثر.ا

 

كاتبة فلسطينية مقيمة في لبنان