Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

جاءت حادثة طعن الروائي سلمان رشدي أثناء مشاركته في ندوة في مدينة نيويورك بعد أيام من القبض على قاتل أربعة مسلمين في مدينة ألباكركي بولاية نيومكسيكو جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. المفارقة أن مرتكبا الجريمتين مسلمان.

علي عاشور

طعن سلمان رشدي يفضح الجميع

جاءت حادثة طعن الروائي سلمان رشدي أثناء مشاركته في ندوة في مدينة نيويورك بعد أيام من القبض على قاتل أربعة مسلمين في مدينة ألباكركي بولاية نيومكسيكو جنوب الولايات المتحدة الأمريكية. المفارقة أن مرتكبا الجريمتين مسلمان.

تزامنت هذه الأحداث مع تصاعد خطاب اليمين الأوروبي المتطرف ضد المسلمين والمهاجرين، خصوصاً مع تصاعد وتيرة الحرب الروسية – الأوكرانية، ومع معركة الجهاد الإسلامي في غزة مع المحتل "الإسرائيلي".

فمفردة "جهاد" عندما ترتبط بالإسلام، لا يحضر في الذهنية الإعلامية الغربية – والعربية أيضاً - سوى صور الحروب والدماء واللحى الطويلة والبنايات المهدومة والجبال المهجورة، الذهنية نفسها التي اخترعت هذا التصوّر المغلوط من خلال تأطيرمفهوم الجهاد في الإسلام من ناحية، وتقنين وتنميط الإسلام كمنظومة دينية من ناحية أخرى.

هذا التتابع والتزامن لا يمكن فصله عن فهم معادلة ردات الفعل الساخطة على الإسلام بعد حادثة طعن رشدي، في وقتٍ استطاعت فيه الكثير من المجتمعات والجمعيات الإسلامية في الدول الغربية خلق خطاب سياسي واجتماعي، وأكاديمي، يدين الإسلاموفوبيا ويجرمها. غير أن هادي مطر، الذي طعن رشدي أعاد هذه المجتمعات أربعين عاماً إلى الوراء، وكأنّ كل شيء بدأ منذ فتوى الخميني بإباحة دم رشدي وملاحقته، وعلى المسلمين إثبات براءتهم من هذه الجريمة؛كما قدّم هديّة مجانية لكل معادي الإسلام والعرب، وللعرب الذي يستحقرون أنفسهم وهويتهم، التي يجهلونها ويجهلون تاريخها. فحصرُ العنف الديني وربطه بالإسلام فقط، هو حصرٌ سياسي وعنصري، لا علاقة له لا بمساءلة ونقد الدين، ثقافياً، ولا مساءلة ونقد الإسلام. هذا لا يعني عدم وجود جماعات إسلامية تشرّع وتبيح لنفسها ما يتوافق مع توجهاتها ومصالحها، أو مصالح صانعيها. غير إنّ أفكار وعقائد ونصوص هذه الجماعات ليست "الإسلام"، ولكن لا يمكن الادعّاء بأنها ليست جزءاً أو نتاجاً من تاريخه.

كما أن فصل السياقات التاريخية التي شكّلت هذه الجماعات، والعوامل الاجتماعية والسياسية التي شاركت وأثرّت في تشكيلها ودعمها وبنائها، ينتج قراءة سطحية لها، وللأحداث المرتبطة بها.

هذا الحصر وهذا الفصل سيطرا على الخطاب الذي تلا حادثة طعن رشدي في الغرب، وكأنّ الإسلام هو التهديد الوحيد والأخطر لحرية التعبير وحرية الكتّاب والمجتمعات "المتقدمّة".

غير إنّ الخطاب الغربي، خصوصاً الخطاب الليبرالي الذي يسطّح كلّ ماله علاقة في الدين والثقافة، لم يكن أكثر سوءاً من ردات الفعل العربية والإسلامية التي باركت هذا الفعل المتطرف.

ولم تكن معظم جماعات الثقافة والأدب والفنون في حديثهم عن حريّة التعبير، أو إدانتهم واستنكارهم، أفضل ممن يريدون تفصيل حرية التعبير على مقاس أيديولوجياتهم وتوجهاتهم - ومصالحهم. لذا، سأحاول في هذه المقالة قراءة المشهد والخطابات التي تلت حادثة طعن رشدي، التي فضحت الجميع، غرباً وشرقاً.

 

حرية التعبير

في البدء، حرية التعبير المشروطة ليست حريّة تعبير. أي حق الفرد وحريته في تعبيره عن ذاته على مستوى الكلام المنطوق والكلام المكتوب وحركة الجسد، دون الاعتداء على الآخرين أو التحريض ضدهم. فالاعتداء والتحريض ضد الآخرين لا علاقة له بحرية التعبير، بل هو خطاب تحريض وكراهية. كما أنّ انتقاد العقائد والأفكار الدينية ليست اعتداءً ما دامت لا تحرّض على نفي أو إيذاء أصحابها.

تنص المادة 19 في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعتمدة عام 1948 بأنّ لـ "كلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود."

وتعرّف "استراتيجية الأمم المتحدة وخطة عملها بشأن خطاب الكراهية"، الصادرة في شهر ماي عام 2019، خطاب الكراهية على أنّه "أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الأصل أو نوع الجنس أو أحد العوامل الأخرى المحدّدة للهوية".

أما مصطلح "ازدراء الأديان" فلا يعدو سوى اختراع قدمّه المتدينون لمنع غيرهم من انتقاد عقائدهم ومقدساتهم، وتهويل مسألة انتقاد الدين والكتب الدينية. فالرد على رأي ينتقد معتقد أو مقدس ديني، يرد عليه بالرأي. فليس هنالك انتقاد أو رأي – أو استهزاء - لا يمكن الرد عليه بالمثل، بغض النظر عن منهجية الرد واستدلالاته.

أما من يعتقدون بأنّ كتاباً أو رأياً أو رسماً كاريكاتورياً سيهدد أو ينقض أو يهدم ديناً – أو مقدسات دين - عمره أكثر من ألف وأربعمائة عامٍ، تفرّعت منه ونتجت عنه مئات الفرق وعشرات الأديان، فهؤلاء لا يعرفون معنى الدين حقاً.

كما أن من يحلّون دماء من انتقد أو سخر من فكرة مقدسة تخصهم، ومن يباركون الاعتداء على منتقديهم ومخالفيهم، ومن نصّبوا أنفسهم حراساً للدين، فهم متطرفون وأكثر من يساهم في تسطيح وتشويه الدين وتعاليمه ومفاهيمه. هؤلاء أكثر ضرراً على الإسلام ممن ينتقدون الإسلام ويتعمدون ازدراء المقدسات الدينية والسخرية منها.

 

"وماذا عن" – "Whataboutism"

كثرت "وماذا عن؟" على مواقع التواصل الاجتماعي في اليومين الذين تليا حادثة طعن رشدي بشكل فج، ومهادن ضمنياً لحادثة الطعن. مثلاً "وماذا عن جوليان أسانج؟" و"ماذا عن آلاف المهاجرين على حدود أوروبا؟" وغيرها من "وماذا عن؟" من قِبل من لا يريدون إدانة "المتطرف" لأنّه ينتمي إلى مجتمعٍ معين، أو لا يريدون أن تتلاقي تعليقاتهم مع تعليقات الكتّاب والصحفيين الذين يخالفونهم في الموقف أو الرأي أو التوجه السياسي.

يعرّف قاموس Merriam-Webster الكلمة (الإسم) Whataboutism – "وماذا عن" على أنّها الرد على الاتهام بارتكاب خطأ أو اعتداء ما بادّعاء أنّ شخصاً آخر ارتكب خطأً مماثلاً أو ما هو أسوأ. بتعبير آخر، هي محاولة التفاف على الاتهام الموجه ناحية شخص أو جماعة معينة بتوجيه اتهام عكسي لشخص أو جماعة ما بهدف صرف النظر عن الخطأ أو محاولة تبريره ضمنياً.

وبغض النظر عن صحّة الاتهامات العكسية الموجه ناحية سياسات الدول الغربية ونفاقها ومخالفاتها وممارساتها وكذبها، استخدام منهجية "وماذا عن" لا يعدو أكثر من مظلّة أيديولوجية يبرر بعضهم من خلالها نفاقهم الخاص بهم. فهناك فرقٌ شاسع ما بين فضح النفاق في الخطاب السياسي الغربي وتحليله، وما بين استخدام "وماذا عن؟" كأداة ردة فعل.

كتب الصحافي البريطاني جوناثان كوك مقالة في MintPress News بعنوان "هؤلاء الغاضبون من طعن رشدي ما زالوا غائبين عن الاستجابة لتهديد أشدّ خطراً على حريتنا"، يفضح فيها نفاق الخطاب الغربي، ويكشف المفارقة في التعامل مع حادثة طعن رشدي ومحاكمة وسجن جوليان أسانج.

لا يقارن كوك ما بين حادثة طعن رشدي ومحاكمة وسجن أسانج في مقالته، إنما يحاكم ويحلل المنهجية التي تعاملت فيها الحكومات الغربية مع الحادثتين إنطلاقاً من مبدأ حرية التعبير، كما يحاكم صمت ونفاق الكثير من الصحفيين والكتاب والمثقفين عن حالة أسانج، والتي هي موضوع غربي قبل كل شيء.

يقول كوك، " لقدحصل رشدي على دعم قوي جداً من الليبراليين والمحافظين الغربيين على حد سواء، وهذا ليس لكونه شجاعاً أفصح عن حقائق صعبة ومعقدة، بل بسبب من هم أعدائه."

فالخطاب الغربي لم يكن خطاباً قائماً على أسس الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الإنسان بقدر ما هو قائم على ترسبات العداء الثقافي والسياسي والتصورات الاستشراقية المترسخة في الذهنية الغربية عن الإسلام وحرية التعبير في البلدان الإسلامية.

يوكّد كوك على وجود فارق ما بين حالة رشدي وحالة أسانج، لكنّه يشدد على أن حالة أسانج تثير مخاوفاً وأخطاراً أكثر من حالة رشدي ليس فقط على حرية التعبير، بل على المجتمعات الغربية وحقوقها.فتمجيد رشدي وتهميش أسانج يثير التساؤل حول ماهية حرية التعبير في الغرب، وحقيقة ممارسات الحكومات الغربية.

يقول كوك، "هُدّدَ حق رشدي في الحياة من قبل رجال دين والحكومات بعيدين لأنّه شكّك في الأساس الأخلاقي لسلطتهم. تهدد الحكومات الغربية حق أسانج في الحياة لأنه شكك في الأساس الأخلاقي لسلطتها".

لم يستخدم لوك منهجية "وماذا عن؟" طوال مقالته. بل بنى حجّته انطلاقاً من جوهر مشكلة حريّة التعبير في المجتمعات الغربية أولاً، ومن إداركه خطورة ممارسات ونفاق الحكومات الغربية، سواء على المستوى المحلي أو العالمي؛ هذا النفاق التي ترسّخ في ذهنية المجتمع وتصوراته عن العالم. كما أنّه لم يرجّح أهميّة حالة على حالة بناءً على مقدار الضرر أو الجغرافيا أو السياسات المتبّعة مع كل حالة، بل على أساس وجود مشكلة في بنية المنظومة السياسية والثقافية المهيمنة على الشعوب، والمهيمنة على مصادر المعلومات والأخبار في الغرب.

حرية التعبير والإنسانية والحكومات الغربية

لسنا بحاجة للتعمق في تفاصيل قضية أسانج عند الحديث عن حرية التعبير في الغرب. فنحن نتذكر فصل دوتشه فيله الألمانية خمسة صحافيين عرب من وظائفهم بذريعة "معاداة السامية" في شهر شباط/ فبراير من هذا العام. كما نتذكر فصل وكالة أسوشيتد برس الأميركية الصحافية إميلي وايلدر بذريعة انتهاك سياسات الوكالة على مواقع التواصل الإجتماعي عام 2021؛ "الانتهاك" المزعوم عبارة عن انتقاد وايلدر لانتهاكات "اسرائيل" وممارساتها الوحشية، واستنكارها انحياز وسائل الإعلام الغربية وصمتها المسيّس عما كان يحدث في حي الشيخ جراح حينها.

ولسنا بحاجة لاستذكار أسماء الأكاديميين الذي فصلوا وأُبعدوا من أعمالهم بطريقة ممنهجة بسبب تعبيرهم عن آراهم ودعهم للقضية الفلسطينة، وعلى رأسهم البروفيسور والكاتب نورمان فنكلشتاين.

هذا فضلاً عن ذكر ما يحدث في افريقيا من انتهاكات للبشر والحجر والشجر. وليست قضية السكان الأصليين لمنطقة نيجر دلتا جنوب غرب نيجيريا مع شركة النفط العملاقة شل سوى واحدة من عشرات القضايا.

فأثناء تصدر فرنسا ريادة ملف الاحتباس الحراري عام 2005، كانت وما زالت شركة شل تلوث وتدمر أراضي ومزارع السكان الأصليين لدلتا النيجر بكب نفاياتها النفطية في مناطقهم وأنهارهم.

ولا ننسى الأمم المتحدة وصممها وعمائها عمّا يحدث في اليمن، إذ يعاني الشعب اليمني من أكبر مجاعة في القرن الواحد والعشرين.

فحرية التعبير والمواقف الإنسانية الرسمية في الغرب مشروطة بمصالح الدول والمؤسسات الإعلامية، وانتماءات ملّاك هذه المؤسسات وعلاقاتهم مع الأحزاب السياسية ومصالحهم الخاصة. كما أنّها جزءٌ لا يتجزأ من بنية منظومتها السياسية وتاريخ تشكّل هذه المنظومة. فتجريد مفهوم حريّة التعبير في الغرب وفصله عن تاريخ تشكّل المؤسسات في الغرب خطأٌ منهجي في فهم وقراءة المواقف والقرارات الصادرة عنها.

وعليه، فإن قراءة المواقف الغربية الرسمية بخصوص حادثة طعن رشدي خارج النطاق السياسي، وخارج سياق الأحداث الراهنة، هي قراءة ناقصة، أو في الغالب واهمة. 

ما بين الفتوى والقرار شعرة

إذا كان الإفتاء هو بيان حكم المسألة كما يقول الجرجاني، فإن من معاني مفردة القرار في المعاجم هو الحكم أو "الرأي يمضيه من يملك إمضاءه". فكما الفتوى حكم يأخذ سلطته من الدين، القرار حكم يأخذ سلطته من نفوذ وقوة مصدره، ودلالات المفاهيم التي بني عليها.

تكمن خطورة الفتوى الدينية عند ربطها بمفهوم القداسة بعيداً عن السياق والموضوع والزمن. أي عندما يعتقد المؤمن بقداسة التكليف الديني دون مراجعة المسألة التي قامت عليها الفتوى، ودون حصرها في سياقها الزمني؛ مما يجعل الحفاظ على استمرارية الفتوى جزءٌ منها. هكذا تصبح مساءلة الفتوى تعدّياً على قداسة الدين. وهذا ما جعل فتوى هدر دم رشدي وملاحقته واحدة من أخطر وأكثر الفتاوى اشكالية في العصر الحديث.

غير إنّ بعض القرارات– السياسية - لا تقل خطورة عن الفتوى الدينية عندما يكون دور السلطة غير خاضع للمساءلة. وأحياناً يتجاوز القرار السياسي خطورة الفتوى الدينية إذا ما كان صاحب القرار لا يمس، وقادر على تصفية معارضية. وهنا لا أفاضل، ولا أقارن، ما بين الإثنين.

فقرار إتفاقية مؤتمر برلين غرب أفريقيا 1884-1885 أعطى الضوء الأخضر لدول الاستعمار الأوروبي بغزو افريقيا عسكرياً وتقسيمها فيما بينهم، وتحويلها من قارة متعددة الثقافات والبنى الاجتماعية والسياسية إلى معسكر عمل قسري، أي شكل آخر من أشكال الاستعباد. هذا الغزو الامبريالي بنيت عليه نظريات في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع لم تشوّه حقيقة ثقافات المجتمعات الأفريقية فقط، بل طمرتها كلياً وأعادت اختراع مفاهيم ثقافية لا علاقة لها بالمجتمعات الأفريقية. ولا ننسى دور الكنيسة، وفتاويها، في تمكين هذا الاستعمار الوحشي والعنصري المتطرف.

هذا القرار عبارة عن فتوى أباحت أفريقيا كلّها؛ فتوى أخذت قداستها من مفاهيم "التحضّر" و"التخلّف" و"التقدّم" و"القبائل البدائية" و"التفوق العرقي". وبالرغم من استقلال معظم الدول الأفريقية في نهاية ستينيات القرن الماضي، والذي أخذ بفوهات البنادق وحرارة الدماء، ما زالت أفريقيا تعاني من تبعات ما حدث، وستعاني إلى مستقبلٍ غير معلوم ما دامت الهيمنة الاقتصادية الغربية مفروضة بالقوة حتى اليوم.

ولا ننسى قرار إهداء فلسطين، وكأنها كانت ملكية خاصة للمستعمرين البريطانيين، للصهاينة. هذا القرار عبارة عن فتوى إبادة للشعب الفلسطيني، يأخذ قداسته اليوم من مفاهيم مثل "حق الشعب اليهودي" و"الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" وغيرها من المفاهيم التي لا يسمح لأحد المساس بها حتى يتهم بمعاداته للسامية.

وعلى هذا قس فتاوى إباحة سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن. وفتاوى قمع الشعب البحريني السلمي عام 2011. وفتاوى سجن الكتّاب وأصحاب الرأي والمغردين على تويتر، ومعيدي التغريد.

كما لا نستطيع تجاوز فتوى التطبيع التي لم تعطِ "اسرائيل" اعترافاً بأحقية احتلالها لفلسطين فقط، بل أعطتها الضوء الأخضر لتصفية ما تبقى من الشعب الفلسطيني. هذه الفتوى التي أخذت قداستها بالقمع والقهر والترهيب لكل من يصرح بمعارضتها من داخل الدول المطبعة، ومن غطاءات ومفاهيم سائلة مثل التعايش والانسانية والتقدم والتطوير الاقتصادي وحوار الأديان.

غير إن الكثير من المثقفين العرب الشجعان جداً في نقد إيران وسياساتها القمعية الداخلية، وفتوى الخميني، لا يجرؤون على إدانة فتاوى سجن أصحاب الرأي والصحفيين والمغردين وقمع الشعوب في بلدان عربية، ولا فتاوى التطبيع والمطبعين، بغية استضافة هنا أو هناك. أو بغية الترشح للجوائز الثقافية والإعلامية، ووصول روايتهم إلى قوائم جائزتي البوكر وكتارا، أو بغية تحصيل عمود صحافي هنا، أو مقعد تدريس هناك. حتى وصل الحال ببعضهم عند نشوب معركة ما بين الفصائل الفلسطينية و"اسرائيل" بانتظار تصريحات وزارات الخارجية الخليجية لإعادة تغريدها خشية التصريح بما يتعارض معها ولو بحرف.

فاللبنانيون المثقفون جداً، مثلاً، ضد فتاوى "الملالي" وبيئة "الظلام والتطرف"، لكنهم ليسوا ضد فتوى خروج مرتكب المجازر سمير جعجع من السجن ولعب دور القائد الذي يفتي بما يجب عليه أو ما لا يجب عليه أن يكون لبنان.

هؤلاء مع حق رشدي بحرية الرأي عندما يتعلق الأمر بفتوى الخميني، لكن عندما يتعلق الأمر بفتوى الحكم على مغرد بعشرات السنوات: (صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون). ولو اكتفوا بالصمت احتراماً لأنفسهم، وحماية لها، لتفهمنا موقفهم وقدّرناه. لكن المواقف المعلنة التي تصدر في نطاق المسموح به، والتي تخرس عندما يتعارض الموقف مع مصالحها الخاصة، فهي ليست مواقف مبنية على مبدأ، بل على استعراض ثقافي ومصالح وصولية.

خطابات المباركة والهجوم على رشدي

لم يكن أسوأ من خطاب بعض المثقفين والإعلاميين العرب الذين حصروا مسألة رشدي في فتوى الخميني دون ذكر الفتاوى الأخرى، مثل فتوى المجمع الفقهي في السعودية، إضافة إلى اختراعات بعضهم في تحليل الأحداث وربطها بالملف النووي الإيراني وأمريكا، أو كما طُلب منهم أن يكتبوا، إلا مباركة الحادثة وهشاشة محاكمة رشدي ورواياته، وعلى رأسها رواية آيات شيطانية.

لا تستند أي من المحاكمات المجانية التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي لكتابات رشدي على أي قراءة أو منهجية نقدية أدبية. ولو كلّف بعضهم نفسه بالبحث "في جوجل" لوجد مقالات تنتقد كتابات رشدي أدبياً، وما عليهم سوى الاستناد إليها. لكن الهدف من هذه المحاكات المجانية هو تخفيف وطأة الحدث، وتشويه صورة الكاتب من كونه ضحية جريمة طعن إلى شخصية متسلقة وتابعة للغرب لا تستحق كل هذا الصخب.

من ناحية أخرى، شكلت هذه المحاكمات غطاءً إما لمباركة الحدث بسبب انتماءات عقائدية – أو حزبية - محددة، أو محاولة تغطية تبعات الحدث على البيئة التي ينتمي إليهاهادي مطر. فالدافع الأول لهذه المحاكمات الهشة ايديولوجي، ولا علاقة له بالأدب ولا روايات رشدي. ولم يتوقف موضوع المحاكمات المجانية عند هذا الحد.

بعد نشر جريدة الأخبار ملفاً عن رشدي تدافع فيه عن حق الكاتب وحرية التعبير، انتشرت مقاطع فيديو من محاضرة للشيخ اللبناني حسين زين الدين، مليئة بتهديدات مبطنة للمدافعين عن حق رشدي، مستغلاً موقعه الديني والتفاف بعض الجماهير حوله. باركَ الشيخ حادثة الطعن، وشدّد على "لن نتسامح" كرسالة واضحة لمن سيجرؤ على انتقاد قداسة النبي محمد. وقد بارك بعضهم موقف الشيخ بحماسة مفرطة وأكّد على مضمون رسالته في المقاطع المنتشرة. كما دافع الشيخ عن فتوى الخميني وأكّد عليها، وتمنى لو تم تطبيقها بوقت سابق لتحدَّ من تجرّؤ الصحافة الغربية على المساس بقداسة النبي. ومن سخرية القدر، أنّ موقف الشيخ الذي يعادي الغرب ومواقفه وسياساته دليلٌ يرجّح موقف الغرب – وغير المسلمين - من الفقهاء المسلمين في قضايا الحريات.

مع الأسف الشديد، تراجع موقف الأخبار بعد مهاجمتها. وقد لفت الزميل بشار اللقيس في مقالته المنشورة في صحيفة الخندق بعنوان "هادي مطر: كوّة في جدار السؤال" إلى مسألة أزمة حرية الكاتب الصحافي. فهو محاصر ما بين إرضاء الجهة الممولة وتوجه جمهورالوسيلة الإعلامية. وتعتبر هذه المسألة إحدى أكبر معضلات الإعلام والإعلاميين اليوم. فمفهوم الموضوعية في الإعلام تحوّل من الدقّة إلى الموازنة. والموازنة ليست موضوعية لكونها تخفي دقّة الحدث بالضرورة.

لكن الخطورة في كلام الشيخ حسين زين الدين لا تتوقف عند حد حرية التعبير والصحافة، بل تكمن في امكانية انعكاس مفهوم "لن نتسامح" على الواقع اللبناني – العربي. فلو افترضنا ظهور كاتب في لبنان ينتقد الإسلام وكتابه ورسوله، من سيضمن عدم خروج هادي مطر آخر ليقتص من المنتقد؟ ومن سيكون المسؤول؟ النتيجة ستكون حرب أهلية كارثية. هذا ليس تهويلاً للموضوع، بل محاولة لاستيعاب خطورة سلطة كلمة رجل الدين في بلدٍ فتيلة قنبلة انفجاره مُشعلةٌ من سنوات.

والأنكى من موقف الشيخ هو موقف صحافي جريدة النهار رضوان عقيل عندما قال في حوار معه على قناة الجديد بأن "فتوى الإمام الخميني كانت في محلها" مبرراً ذلك بأنّ " سلمان رشدي لا يحمل مواصفات الكاتب". لم يكتفِ رضوان الداعم لحرية التعبير والحرية السياسة، والذي "على المستوى الشخصي ضد قتل أي إنسان، فكيف إذا كان كاتباً"، بنزع صفة الكاتب من رشدي لتبرير موقفه فقط، بل سمح لنفسه بانتزاع إنسانية رشدي لأنّه مسّ بمقدساته! فهو ضد فتاوى الغرب في فيتنام والعراق وافغانستان، وضد فتاوى الاستعمار، لكنّه نسي نفسه وهو يلعب دور المفتي بمحاكماته المجانية لرشدي.

هشاشة هذه المحاكات المجانية تغطي هشاشة موقف أصحابها من الأساس. لو افترضنا جدلاً أن رشدي روائي متسلق ومسيء وسطحي وضعيف وأن آيات شيطانية رواية سطحية وسخيفة، ماذا عن منطق الفتاوى التي أباحت دم الكاتب بسبب رواية سطحية وسخيفة؟

فكما فضحت حادثة طعن رشدي نفاق الغرب في مواقفه وسياساته، فضحت أيضاً نفاق مجتمعاتنا التي تهاجم الغرب وتصدح بمفاهيم التحرير والتحرّر من جانب، بينما تطمرُ حق حرية التعبير والصحافة والمعتقد والمختلفين معها من جانبٍ آخر. 

 

كاتب وناشط سعودي