نشر الزميل في صحيفة الخندق الأستاذ أحمد دردير في العدد الأخير من الصحيفة مقالاً تحت عنوان "حزب الله والمعضلة السورية". وبقدر ما كان العنوان لافتاً، كانت الفقرة التي اختيرت بعناية لتصدير المقال كذلك جاذبة ومثيرة للاهتمام. إذ ذكر الكاتب أنه "لا بد للطرفين (النظام والمعارضة) أن يعترفا أن في صفوفهما مجرمين
رداً على مقال: حزب الله والمعضلة السورية
نشر الزميل في صحيفة الخندق الأستاذ أحمد دردير في العدد الأخير من الصحيفة مقالاً تحت عنوان "حزب الله والمعضلة السورية". وبقدر ما كان العنوان لافتاً، كانت الفقرة التي اختيرت بعناية لتصدير المقال كذلك جاذبة ومثيرة للاهتمام. إذ ذكر الكاتب أنه "لا بد للطرفين (النظام والمعارضة) أن يعترفا أن في صفوفهما مجرمين؛ أقول هذا، ليس فقط كمسألة أخلاقية أو لأن هذه أصبحت حقيقة واقعة يواجهها كل طرف بمقارنة جرائمه بجرائم الآخر، ولكن أيضاً لأن هذه الحرب استنزفت سوريا، واستنزفت الأمة، على مدى أحد عشر عاماً، من دون أفق للحل". القراءة الأولى لهذه السطور أوحت ابتداء بأن هناك طرح جدي وجديد من زاوية "البديل الثالث" قد يحتويه هذا المقال. إلا أنني وبعد قراءة النص كاملاً، أعترف أنني لم أجد نفسي متفقاً مع جلّ ما قيل إلا في أمرين اثنين: الأول أن دور حزب الله في الأزمة السورية بحاجة إلى نقاش مطوّل ومعمّق وبعقل بارد بعد أن مضى على بدايتها ما يزيد عن عقد من الزمن. والثاني هو ضرورة مراجعة هذه الحرب ودراسة أداء الجهات المنخرطة فيها بشكل موسع وبجرأة وبقدر من الموضوعية. لذا، أود أن أضع بين يدي القارئ مجموعة من الملاحظات على ما ورد في المقال والتي أراها ضرورية، لا من باب المساجلة والرد، إنما من باب المساهمة في تصويب النقاش حول هذه القضية البالغة الأهمية.
الملاحظة المنهجية الأولى التي أود تسليط الضوء عليها، تتمثل بتجاوز تثبيت منطلق المقاربة للقضية السورية. بمعنى أنه يجب تحديد زاوية النظر بشكل واضح عند الشروع بتحليل قضية مركبة ومعقدة من هذا النوع، نظراً لتعدد الاعتبارات المتداخلة فيها. أما المقاربات اللانسقية أو العشوائية لقضية بهذا الحجم من التعقيد والحساسية تجعل من اليسير الوقوع في فخ التبسط المخل، والذي يخلق شيئاً من الالتباس الحقيقي في محاولات الفهم الجدية لأي من هذه الاعتبارات. فالقول مثلاً: "لا شك كذلك أن حزب الله قد تورط، ربما لاعتبارات وحسابات سياسية وميدانية جبرية، في مناصرة مجرمين" هو أحد أشكال هذا التبسيط الذي يعيق فهم الموقف الحقيقي لحزب الله، الواقع على مقربة من نقطة تقاطع تخص مجمل الحسابات المرتبطة بالقضية السورية، وذلك بغض النظر عما إذا كانت هذه الحسابات تجعل من تدخله على خط الأزمة السورية مفهوماً أو مبرراً أو مشروعاً، أم هو خلاف كل ذلك تماماً. فالقضية إذن ليست مناصرة مجرمين أو أبرياء، بل هي أبعد من ذلك بكثير.
وهذا بطبيعة الحال ينسحب كذلك على ما قيل بحق المعارضة السورية بأنه "لا شك أن أبرياء المعارضة السورية قد تورطوا في مناصرة مجرميها". فهذه أيضاً من التوصيفات المقولبة في حكم قيمة صرف، يصعب قبول إطلاقها أو تعميمها بهذا الشكل. ولا يمكن الحديث عن المعارضة السورية وانقساماتها وتموضعاتها دون العودة إلى المراجعات العميقة والقراءات الأساسية التي صدرت عن كبار قياداتها ومنظريها وداعميها من أمثال برهان غليون ومعاذ الخطيب ومحمد جمال باروت ورضوان زيادة وعزمي بشارة وغيرهم. كما لا يمكن جمع أركان المؤمنين بالنضال السياسي من هذه المعارضة مع المؤمنين بالعنف المطلق، ومن ثم تقييم مواقفهم كأنهم كتلة واحدة أو إطلاق الأحكام عليهم بالجملة بطريقة أو بأخرى.
أما الملاحظة الثانية فهي متعلقة بالمطارحات الأخلاقية السائدة، سواء كانت تخص ممارسات عملية بعينها، أو قيم نظرية بخصوص مسائل واقعية. فالرائج حالياً أن نرى مع كل شريط مصور أو صورة مسرّبة لواحدة من الفظائع، سيل جارف من الازدراء والتحقير للطرف المتهم، سواء كان هذا الطرف هوالنظام أو المعارضة. ولا يقف الموضوع عند هذا الحد، بل يتجاوز ذلك ليشمل كل من تحالف مع هذا الطرف أو ذاك ومن سانده في أي موقف كان، وكذلك من سكت عن الاتهامات المعلنة أو تمهل في تمحيصها، فتصبح كل تلك الجهات المذكورة كياناً واحداً مفتوحاً على الاستباحة وعلى التجريد من الكساء الإنساني. وكأن سؤال الأخلاق بات مرتبط حصراً ارتباطاً وثيقاً بالامتثال اللحظي الصارخ لخطيئة هنا، أو عمل مرعب هناك. إن ما جرى ويجري على امتداد الأزمة السورية وما ظهر من فظاعات شنيعة يستدعي إشباع السؤال الأخلاقي نقاشاً إلى الحدود القصوى. وما من شك أن قتل العزّل من أي خلفية كانوا أو الاعتداء على كرامتهم الإنسانية من قبل أي جهة كانت، هو أمر مدان ومستهجن ومرفوض. على أن هذه القواعد الأخلاقية العامة لا تكفي لإعداد جهوزية الإنسان العربي الحديث للتعامل مع قضايا الحرب والدمار والهلاك. لذا، نقول إنه من المطلوب بإلحاح توسيع دائرة النقاش حول فلسفة أخلاقية تخص الحرب كوسيلة للوصول إلى نهاية خارج نفسها وليس كنهاية في حد ذاتها إذا ما أردنا الاستعانة بالمعجم الكلاوزفيتزي عن الحرب. وبين الذرائعية الميكافيللية والقطعيات الكانطية مسافة طويلة من النقاش الأخلاقي رسمت حدود الاتصال والانفصال عن الفلسفة السياسية ومسألتي العدالة والقانون، وواقعنا العربي اليوم، هو بأمس الحاجة إلى مثل هذا النقاش المعمق.
الملاحظة الثالثة ترتبط بمنهجية تحليل الخطاب. إن تفكيك خطاب جهة ما أو شخصية معينة يتطلب تحديداً دقيقاً لها قبل وضعه على مشرحة النقد. كذلك تقتضي هذه العملية تحديد المقام والمستوى المُراد تحليله أو تفكيكه؛ خطاب شعبي أم رسمي، خطاب كتلة أم نخبة، إعلامي أم سياسي. فالخطاب منتوج خاص يرتبط بجهة معلومة وبسياقية محددة. إلا أن ما ورد في المقال كان فيه الكثير من الحياد عن هذه التمييزات، وبالتالي بقيت عمومية بحيث يصعب الإفادة منها في تثبيت أو معالجة أو مناهضة خطاب جهة بعينها. ومع العلم أن عنوان المقال خصّ حزب الله تحديداً في الأزمة السورية، ولكن ذلك لم يكن واضحاً ودقيقاً في كثير من المواضع، إذا ضُم إليه النظام وأنصار النظام وحلفاء حزب الله، "بعض أنصار النظام السوري وحلفاء حزب الله الذين لجأوا للاختزالات الاستشراقية والاستعمارية المعادية للإسلام..."، ومعلوم أن هذه الأطراف المذكورة تتباين خلفياتها العقائدية ومرجعياتها القيمية ومعاييرها الأخلاقية إلى حد بعيد، ما يفضي حتماً إلى اختلاف خطابها شكلاً ومضموناً. وبالتالي، فإن جمع كل هؤلاء في سلة واحدة تحت عنوان "تفكيك الخطاب الذي يجعل جرائم مثل جريمة حي التضامن مبررة..." بمن فيهم حزب الله كما هو مقصود، لا يساعد في عملية التحليل النقدي لأي خطاب، بل يزيده استشكالاً وتعقيداً. وهذا ما انعكس في توظيف عبارات إشكالية أكثر من مرة في سياقات مختلفة تربط بين خطاب الحزب "بالتعميمات والاختزالات ذات المحتوى الاستشراقي". ومثل هذه والسيولة في استخدام المصطلحات في غير مكانها أو سياقها، لا يفي بالغرض المطلوب.
ختاماً نقول، أن الأزمة السورية هي مداد لفشل سياسات الدولة العربية الحديثة وقصور طموحات شعوبها منذ تاريخ بدايات نشوء الشرق الأدنى الحديث، وصولاً إلى ما بات يعرف اليوم "بالاستثنائية العربية". وقد تشابكت فيها كل خيوط الصراعات الممتدة على طول مساحة العالم العربي؛ صراع الشرق والغرب، الصراع العربي الإسرائيلي، الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، صراع الحكام والمحكومين، صراع الأنظمة مع الأنظمة، صراع الأنظمة مع الجماعات، وصراع الجماعات مع الجماعات. كما تداخلت في هذه الأزمة أبعاد عدة: حسابات الجيوبوليتيك، ومعضلة الإستراتيجيا، والوقائع السياسية، ولعبة المصالح، والخلفية القانونية وإشكالية الشرعية والمشروعية، وحركة الصراعات والتحالفات الموجودة في المنطقة، والسياسات الدولية، وكذلك الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بسياسات كل طرف من الأطراف المنخرطة في هذه الأزمة. ووضع دور حزب الله في المعضلة السورية تحت المجهر وقراءته قراءة نقدية متأنية هو أمر مطلوب انطلاقاً من هذه الخلفية الواسعة، لا على خلفية شريط مصور لحدث مروع أو جريمة نكراء.
Related Posts
كاتب فلسطيني