Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تعامل المصريون مع موت السادات وكأنه رئيس بلد بعيد، في آسيا أو أمريكا الجنوبية لا يعرفون اسمه. هذا الموقف جعل مقدمة البرامج الأميركية (باربارا والتز) تقول: "لو قُدر للرئيس السادات أن يرى من العالم الآخر إلى أي مدى كان المصريون يكرهونه، لمات كمداً بعد أن مات اغتيالاً!" يوم جنازة السادات كان بمثابة تبادل أدوار بين "الاسرائيلين" والمصريين، شيَّع اليهود الرئيس المصري، وأدى المصريون طقوس السبت بدلا منهم

ص. م

مسرح السادات... العرض الأخير

في غرفة صغيرة وراء مكتبه بمقر اللواء 333 مدفعية، شرق القاهرة، جلس الرائد مكرم عبد العال منشغلاً بالتحضير للعرض العسكري الذي اقترب موعده. بينما كان يتفحص عدة ملفات سمع طرقات خفيفة على الباب وصوت يستأذن بالدخول، بإيماءة منه دخل الملازم خالد الإسلامبولي، والذي استُدعي للحضور قبل قليل، أدى خالد التحية العسكرية وبإشارة من يد قائده جلس أمامه على كرسي حديدي متهالك. جاء خالد متعشماً في موافقة قائده على طلب الإجازة الذي قدمه لإعفائه من حضور العرض العسكري لقضاء عيد الأضحى مع والدته بعد اعتقال شقيقه الأكبر محمد مع من اعتُقلوا فى مطلع الشهر يوم 3 أيلول/ سبتمبر. غضَّن مكرم حاجبيه وقال: للأسف يا خالد، لن أستطيع الموافقة على طلبك، فنحن بحاجة إلى وجودك خاصة أن النقيب عبد الرحمن سليمان لن يستطيع الحضور لأن زوجته متعثرة فى الولادة واضطر إلى مرافقتها، وأضاف: بعد انتهاء العرض سأعمل على منحك إجازة طويلة لتستريح وترى عائلتك. كانت حالة خالد النفسية سيئة للغاية، ولم يكن يطيق فكرة المشاركة فى العرض، وما يتطلبه ذلك من تجهيزات وتحضيرات، والأهم، لم يكن يطيق رؤية قيادات الدولة التي ستحضر العرض، والرئيس السادات على وجه الخصوص. بدا الوجوم على وجه خالد لكن الرائد مكرم لم يمهله ليتوسل أو يكرر الرجاء وبادر بالسؤال عن أحوال شقيقه محمد ظنا منه أن التطرق إلى هذا الأمر الشخصي سيكون بمثابة إقرار لحضوره العرض وتنحية لفكرة الإجازة جانبا. تمتم خالد ببضع كلمات وهو مستغرق فى التفكير، بدأ يتلاشى صوت محدثه ويحل محله صوت جاءه من بعيد يقول: "يا خالد؛ إن أمامك مهام كثيرة في خدمة الوطن، وإني لواثق إنك لن تخيّب الرجاء". كانت تلك الكلمات التي سمعها خالد من قائده أثناء تقليده شارة التميز عند تخرجه سنة 1978. انتبه خالد مجدداً عندما ارتفع صوت مكرم عبد العال متسائلاً: ما بك يا خالد؟ أجابه خالد: "ولا حاجة  كله تمام يافندم"! تلألأت قطرات العرق فوق جبين خالد وتسارعت ضربات قلبه، فلم تكن ذكرى يوم تخرجه وحدها هي التي قفزت إلى ذهنه، بل اجتاحته موجة من الأفكار التي ستغير وجه مصر، وأمسك ببداية الخطة. لم يكن مكرم عبد العال يعلم ما يدور برأس الجالس أمامه، و بدأ يتحدث معه حول ما سيتم يوم العرض، بادله خالد بعض الكلمات وقال وهو يستأذن بالإنصراف: "لتكن مشيئة الله".

 

يوم نسي مفتاحه

تخرج السادات من الكلية الحربية يوم 6 شباط/ فبراير 1938. اشترك في اغتيال أمين عثمان يوم 6 كانون الثاني/ يناير 1946، عاد إلى الخدمة في الجيش يوم 6 كانون الثاني/ يناير 1950، قاد الحرب يوم 6 تشرين الأول/ اكتوبر 1973، وصدرت الأحكام في قضية اغتياله يوم 6 آذار/ مارس 1982. لم يكن هناك ما يشي بأن هذا اليوم سيكون الموعد الأكثر درامية مع الرقم 6.

في بيت الجيزة المطل على النيل، صعدت الطفلة ياسمين لإيقاظ جدها "أنور" قائلة: "إصحى يا جدو انهرده العرض العسكري". احتضن الجد حفيدته ومسد شعرها وطبع قبلة على جبينها قبل أن تنصرف. استيقظ السادات مبكراً هذا اليوم مقارنة بأيامه العادية، وفور مغادرة ياسمين اعتدل ومد يده وتناول ملعقة عسل مع رحيق الملكات، احتسى بعدها كوباً من الشاي بدون سكر، ثم اطلع سريعاً على صحف اليوم سيما ما يتعلق بأخباره وصوره. نهض السادات من فراشه، ووفقاً لبرنامجه اليومي دخل عليه مدربه الخاص لتأدية بعض التمرينات الرياضية والتدليك، وفي العادة تستغرق هذه الطقوس الصباحية نحو ساعة وتنتهي بحمام دافئ، لكنه اختصرها نظراً لاستثنائية اليوم، بعدها يحضر الإفطار، ويكون عادة من الجبن وخبز خال من السعرات الحراريه يصنع من دقيق يستورد خصيصاً للرئيس. اليوم هو يوم "الريس"، بهذه الكلمات حاول ضابط الأمن الذي كان على الهاتف مع جيهان السادات إقناعها بحضور العرض العسكري بعد أن قررت عدم الذهاب والاكتفاء بمشاهدته عبر التلفاز، وذلك جراء شعور بعدم ارتياح ونوبة من الأفكار السلبية، لكنها تراجعت عن فكرتها وبدأت في تجهيز أحفادها الذين سيرافقونها فى الذهاب إلى هناك. فى الطابق العلوي حيث غرفة السادات كان فوزي عبد الحافظ يفتح الستائر ويشغل سورة يوسف بصوت الشيخ محمد رفعت، فمؤخراً كانت سورة يوسف هي المحببة للسادات. ولم لا؟ ألم يكن يوسف هو من أنقذ مصر من براثن القحط والجوع، ألم يكن يوسف مؤسساً لعلاقة بني اسرائيل مع مصر! بدا السادات فى الآونة الأخيرة وكأنه يستقبل وحياً، ويسير بإشارات ربانية، وتجلى ذلك عندما كانت زوجته تبوح له بتخوفاتها حول أمنه الشخصي فكانت إجاباته عليها أقرب لإجابات متصوف مصيره في يد ربه ولا يخشى شيئاً، لأنه فى مهمة إلهيه وسوف يحرسه من كلفه بالمهمة! قال السادات لفوزي بطريقته المسرحية: أخبارك إيه يا فوزي، عندك إيه انهرده؟ راح فوزي يسرد على رئيسه جدول اليوم، استفسر السادات منه عن نقل حقائبه إلى وادي الراحة حيث يستجم ويعتكف ليتخذ قراراته المصيرية بالقرب من المكان الذي كلم الله فيه موسى، فوفقا لقوله: "مفيش راحة إلا فى وادي الراحة". لقد تراكمت أسباب عزلة السادات فى آخر عامين، مما جعله يسير على هدى من نفسه أو زوجته أو صديقه عثمان أحمد عثمان، راكم أسباب انفصاله عن الحقيقة وعن الواقع بنفسه، لدرجة أنه حتى لم يكن يطلع على تقارير أجهزة الدولة! قال فوزي وهو يساعد السادات في ارتداء بدلته العسكرية التى جاءت من لندن: "كله تمام يا ريس". نزل السادات بعد أن ارتدى وشاح القضاء، بدا متأنقا وبأفضل حال، ليجد نائبه مبارك ووزير الدفاع أبوغزالة فى انتظاره. وخرجوا جميعاً من البيت متوجهين إلى مقر وزارة الدفاع  ومنها إلى مكان العرض العسكري وفقا للبرنامج المقرر سلفاً. وهنا لاحظت جيهان أن زوجها نسي عصا الماريشالية التى كان حريصاً على الظهور بها فى كافة المناسبات وكأنه الفرعون الذي يحمل مفتاح الحياة، وكان ذلك فأل شؤم سيطر عليها.

أربعون ثانية

تبين لخالد بعد أن استقر رأيه على وجوب استغلال الفرصة أنه بحاجة إلى مساعدة عبد السلام فرج. ولكن كيف سيعثر على عبد السلام فى مثل هذه الظروف؟ فالرجل مطارد مع آخرين بعد اعتقالات الثالث من أيلول/ سبتمبر، بعد إجهاض عملية اغتيال الرئيس أثناء زيارته للمنصورة قبل أيام، وكل من تبقى من هذه التنظيمات ضُيّق عليهم الخناق وهبطوا تحت الأرض! لكن للمقادير دائماً أقوال أخرى. بعد إتمامه الصلاة فى أحد المساجد التي اعتاد خالد الصلاة فيها، وجد من يربت على كتفه ويخبره همسا أن عبد السلام يريد لقاءه. ذهب خالد؛ لكنه وجد عبد السلام فى حال يرثى لها، ساقه موضوعة فى الجِبس، شعره أشعث وباد علي سحنته الإنهاك والتعب! وبعد أن أخبر كل منهما الآخر بما لديه اتفقا على البدء فى التخطيط لعملية اغتيال السادات أثناء العرض العسكرى، وذلك بعد انتقال عبد السلام بمساعدة خالد إلى منطقة الألف مسكن شرق القاهرة. ووضِعت الخطة التي تكمن قوتها فى بساطتها، واستعد المنفذون .

وصل موكب الرئيس إلى منصة العرض في الموعد المقرر، الإجراءات الأمنية مشددة، وتبدو صارمة، لدرجة أن العملية برمتها كانت عند لحظة ما مهددة  بالانكشاف، وذلك عند مرور أحد الضباط  للتأكد من عدم وجود إبر الضرب فى الأسلحة. ومرة أخرى تضامنت معهم المقادير ونجا خالد ومن معه.

بدأ العرض وكل الأنظار معلقة بطائرات الفانتوم الأميركية المشاركة للمرة الأولى، والرئيس منهمك فى حديث مع نائبه ووزير الدفاع حول التحضير ليوم استرداد آخر جزء من سيناء فى الربيع القادم، وكان يطمئن على وصول صفقات الأسلحة الأمريكية الجديدة التي كان يعتبرها إنجازاً له. فى الأثناء أعلنت الإذاعة الداخلية للعرض دخول سلاح المدفعية، بدأت عربات المدافع  تمر أمام المنصة، وفجاة توقفت واحدة، قفز منها ضابط، وبينما يقول المذيع الداخلي: "إنهم فتية آمنوا بربهم"، كان خالد ومعه عطا طايل وعبد الحميد عبد السلام على الأرض يقذفون قنابل يدوية باتجاه المنصة. انتبه السادات لما يحدث أمامه، ها هو أسوأ كوابيسه يتجسد حقيقة بين عينيه، التفت خلفه التفاتة يائسة لعل أحد حراسه ينهي هذ الكابوس، لكنه وبروح الممثل التى كانت تلازمه أبى إلا أن يتقمص دور البطل التراجيدي الذي ينظر فى عين قاتله، انتصب واقفا يردد: "مش معقول...مش معقول"، في نفس اللحظة، وبعد أن صار هدفاً واضحاً، جاءته رصاصة من بندقية (كارل جوستاف) يحملها بطل الرماية فى الجيش المصري لسنة 1975 (حسين عباس)، الذى كان فوق العربة لم ينزل بعد. اقتربوا جميعاً من المنصة بوابل من الرصاص الذي أصاب معظمه هدفهم الرئيسي. ساد الهرج والمرج، قُتل من قُتل وأُصيب من أُصيب، لكن ذلك لم يمنعهم من التقدم للتأكد من موت السادات، وقد تأكدوا. لم يستغرق الأمر أكثر من أربعين ثانية من لحظة توقف السيارة حتى بدأوا بالانسحاب من مسرح الحدث ووراءهم طلقات يائسة من الحرس الرئاسي الذى هالته الصدمة واستفاق بعد فوات الأوان. وكان ذلك موعد السادات الأخير مع الرقم 6.

 

الباريه الأحمر

الجو حار فى العاصمة طرابلس، داخل أحد المكاتب في المقر العسكري بمنطقة العزيزية دق جرس الهاتف مراراً، لكن إبراهيم حونيش (مدير مكتب القذافي) كان مسترخياً ولا يريد أى إزعاج، ألحّ المتصل، اضطر حونيش لرفع السماعة أخيراً، كان المتحدث مدير وحدة الاستماع فى الاستخبارات الليبية، طلب من حونيش إيصاله بالعقيد القذافي لأمر ضروري. لكن القذافي كان فى جولة خارجية على تخوم العاصمة طرابلس، استشعر حونيش أن الأمر جدياً وخطيراً فأمر مسؤولي الاتصالات بالعثور على القذافي فوراً.

بعد دقائق وبينما كان حونيش يمشي في الغرفة قلِقاً دق الهاتف، وكان المتحدث العقيد القذافي، أبلغه حونيش بالأخبار التي نُقلت إليه، ما إن سمع القذافي من محدثه خبر إطلاق نار صوب المنصة أثناء العرض العسكري واحتمال بإصابة السادات حتى انتابته حالة من جنون الفرح ولم ينتظر أن يكمل حونيش ما كان يود قوله عن عدم وجود معومات إضافية، وراح العقيد يردد بصوت مرتفع: "قتلناه..لقد قتلناه"، وقال لحونيش: "الآن اسجد شكرا لله".

لم يتوقف العقيد القذافي عن طلب خطة من مساعديه لاغتيال الرئيس المصري، سكنه الأمر لدرجة جعلته يرى في منامه أنه يقود طائرة ويضرب بيت السادات! وأخيراً، عرض عليه مساعده وابن عمه (سيد قذاف الدم) خطة بدت جيدة ويمكن تنفيذها. تعتمد الخطة على شقين، الأول: تجنيد مجموعة من الطلبة المصريين المعارضين لسياسات السادات وتدريبهم تدريباً جيداً وتزويدهم بأحدث الإمكانيات التى تسهل لهم تنفيذ مهمة اغتيال السادات، وذلك بعد أن تواصلت معهم الاستخبارات الليبية عن طريق اللجنة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي كانت على علاقات جيدة بسيد قذاف الدم، وتربطها علاقات بالمصريين المعارضيين للسادات في أوروبا، فبعد تهديد هؤلاء بسحب الجنسية منهم إن لم يعودوا لتأدية الخدمة العسكرية قرروا العودة إلى مصر، وهنا كانت فرصة تدريبهم في ليبيا قبل الذهاب إلى مصر. الشق الثاني: يعتمد على الفريق سعد الدين الشاذلي الذى كان فى منفاه بمدينة الجزائر بعد وصول الأمر بينه وبين السادات إلى نقطة اللاعودة.

قضت الخطة بأن يُقتل السادات، وسيتبع ذلك - وفقاً لتصورهم - حالة من التحرك الجماهيري داخل مصر يتم استغلالها ودعمها عبر الإعلام الليبي بمساعدة الفريق الشاذلي الذي سيكون له أنصار داخل الجيش يساعدوه على تنفيذ ما يريد هو والقذافي. وبالفعل، بارك القذافي هذه الخطة وأمر بالشروع  في تنفيذها.

عندما وصل القذافي برفقة سيد قذاف الدم وعبد السلام جلود إلى مقره في العزيزية، لم يكن هناك أخبار جديدة بانتظاره، أبلغه حونيش: "لا شيء أكيد، ولم تصلنا أي معلومة تفيد بأن مجموعتنا هي التى قامت بإطلاق النار". كان القذافي لا يزال تحت وقع صدمة الفرح ولم يتوقف عند ما قاله حونيش، بل سأل عن الشاذلي، عندها أجابه سيد قذاف الدم: "إنه في طريقه إلينا". أضاف القذافي: "إبدأوا فى تنفيذ الجزء الإعلامي من خطة "الباريه الأحمر" إلى أن يصل الشاذلي وتصلنا التأكيدات. ولكن عندما وصل الخبر اليقين اكتشف العقيد أن خطته لم تكن إلا أضغاث أحلام.

 

"محمد.. هاتولي محمد.."

أظهرت جيهان السادات رباطة جأش وتماسك، لكنها كانت تريد الخروج من مكان تواجدها فى منصة العرض محاولةً الوصول إلى زوجها للاطمئنان عليه، فقد شاهدت كل ما حدث بالتفصيل، لكن ضابط الأمن منعها بالقوة وطرحها أرضاً. كانت رفيقتها المطربة فايدة كامل في حالة هستيرية، تصرخ مردّدة: "محمد..محمد.. هاتولي محمد.... يا خرااابي يا محمد"، كانت تريد الاطمئنان على زوجها (محمد النبوي اسماعيل وزير الداخلية)، نهرتها جيهان قائلة: "إذا كنا سنموت، فلنمت بكرامة".

في الجو حلقت المروحية التي تحمل الرئيس السادات إلى المستشفى العسكري بالمعادي لإنقاذه، وعلى الأرض كان نائبه مبارك يقود بأقصى سرعة سيارة حكومية كانت موجودة بجوار المنصة، وفور تعرف حرس المستشفى على هوية قائد السيارة سمحوا له بالدخول. انتابت مبارك وأبوغزالة حالة من الهلع وقررا أن يذهب مبارك إلى المستشفى ويذهب أبو غزالة إلى مقر قيادة الجيش للاطمئنان على أوضاع الجيش مخافة وجود  تمرد داخل صفوف الجيش وللتأكد خصيصاً من سلاح الطيران، وكان هاجس القذافي حاضراً، وتحسبوا من أي تحركات ممكنة.

بمجرد وصول مبارك إلى المستشفى علم بحقيقة الوضع، مات الرئيس.. وأذيع أول بيان للناس: "اليوم، وفي حوالي الساعة 12:40 أطلقت جماعة رصاصاتها تجاه المنصة الرئيسية، جُرح الرئيس وبعض معاونيه، وتم نقل الرئيس إلى حيث يشرف على علاجه الأطباء، ويتابع نائب الرئيس جهودهم بنفسه".

بعد أن بدَّل أبوغزالة ملابسه التي كانت ملطخة بالدماء ذهب إلى مقره، وقد اطمأن إلى أن الأوضاع تحت السيطرة، والاغتيال غالباً تم بتخطيط من الجماعات الإسلامية، والجيش متماسك تماماً ولا يوجد ما يثير القلق، أمر بإغلاق المجال الجوي المصري تماماً وأجرى بعض الاتصالات مع الأميركان، وبالفعل قاموا باستنفار بعض قوات التدخل السريع في الشرق الأوسط وحركوا قطع الأسطول السادس فى المتوسط كردع مسبق للقاذفي لو فكر في فعل شيء.

"صدمة عصبية شديدة مع نزيف بتجويف الصدر، وتهتك  بالرئة اليسرى والأوعية الدموية الكبرى بجذر الرئة اليسرى". تحت هذه الكلمات التي سبقها شرح مفصل لمحاولة إنقاذ الرئيس وقَّع فريق الأطباء وعلى رأسهم الدكتور أحمد سامي كريم (مدير المستشفى العسكري بالمعادي)، معلنين بذلك موت الرئيس المصري. فور انتشار الخبر في جنبات المستشفى وطرقاته ارتفعت الأصوات بالبكاء والصراخ. خرج مبارك من المستشفى متوجهاً إلى منزله في مصر الجديدة، بدّل ثيابه، ورتب مع أبوغزالة لاجتماع فوري بالحكومة. على عجل تم الاتفاق على خطوط عريضة، وبعد التأكد من سلامة الموقف الأمني داخلياً وخارجياً، خرج مبارك فى حوالي السابعة مساء معلناً الخبر لمصر والعالم.

 

غليون السلام

في بيته  بحي رحافيا المقدسي جلس مناحم بيغن قرب الراديو منصتاً، وبجوار الهاتف مستقبلاً لتقارير أجهزته عما يحدث في مصر. سيل لم ينقطع من الأخبار عما حدث. أنباء متضاربة حول مصير السادات ونائبه ووزير الدفاع. الإدارة في "إسرائيل" تدرس جميع الاحتمالات والسيناريوهات وتطرح التساؤلات حول من قتل السادات؟ ومن يقف خلفه؟ وإذا تأكد خبر مقتله، فمن سيخلفه؟ هل سينطفئ غليون السلام؟.

في الثالثة بعد الظهر، دق جرس الهاتف في بيت بيغن. رفع السماعة، وكان محدثه الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر، طمأنه كارتر على حالة السادات وأوصاه بتأدية صلاة الشكر على سلامة صديقهم العزيز. لم يكن بيجن يعرف أن كارتر يستقي أخباره من أكثر المصادر تفاؤلاً (السفير الأميركي بالقاهرة)، الذي كان يعتمد بدوره على معلومات من وزارة الدفاع المصرية. لكن، وبعد سماع القرآن الكريم عبر الإذاعات المصرية، فقد بيغن الأمل نهائياً، وما أن سمع البيان الذي تلاه مبارك خرج بيجن أمام بيته إلى الصحفيين مكفهرّ الوجه كمن فقد رفيق سفر، وقرأ بتأثر عدة كلمات ينعي بها صديقه السادات. اجتمعت الحكومة "الاسرائيلية" لتناقش ماحدث وأفضل الطرق للتعامل معه. برزت عدة تساؤلات أثناء الاجتماعات مثل: من هو مبارك؟ وما موقفه من مسيرة السلام؟ والى أي اتجاه سيقود مصر؟. تذكّر بعض الحاضرين المقابلة الوحيدة له مع صحيفة معاريف، وتذكروا قوله: "إنني مخلص للسادات وسأظل سائراً على دربه". ثم بدأوا فى الإعداد لإرسال وفد رسمي لحضور جنازة السادات، كتكريم أخير لصديقهم الذي أشعل غليون السلام.

 

تبادل الأدوار

بعد صلاة الجنازة وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة وُضع النعش في المروحية التي كانت بالانتظار قرب مسجد المستشفى العسكري، صعدت جيهان السادات رفقة بقية أفراد الأسرة الى مروحية ثانية، انطلقت المروحيتان إلى نادي السكة الحديد بالقرب من المكان المقرّر دفن جثمان السادات فيه بجوار النصب التذكاري المقابل للمنصة التي اغتيل عندها. جلس الحاضرون  في المنصة بعد أن تم تنظيفها وإعادة إصلاح ما أُتلف يوم العرض العسكري. حضر نيكسون، كارتر، كيسنجر، فورد، ميتيران، جيسكار ديستان، المستشار الألماني، ولي العهد البريطاني، وغيرهم، إضافة إلى "وفد اسرائيلي كبير" على رأسه رئيس الوزراء مناحم بيغن، الذي أقام مع وفده فى نادي سكة الحديد نظراً لطقوس يوم السبت والتي توجب أشياء لم تسمح لهم بالتحرك كثيراً. لم يحضر من الدول العربية إلا وفدٌ واحد من السودان على رأسه جعفر النميري.

وقفت جيهان السادات أثناء الدفن تتلو آيات من القرآن بصوت خفيض، وبجوارها إبنها جمال، كانت حاسرة الرأس ومتأنقة كعادتها، لكن بلون أسود! قدم بيجن لها واجب العزاء قبل مراسم الدفن. بادلته بضع كلمات مجاملة، وأضافت: "بإمكانكم الاعتماد على مبارك، لقد أعده زوجي جيدا لهذا الأمر". بعدها توجّه بيغن إلى جمال قائلاً: "اعتبرني عمّ لك، وبإمكانك زيارتنا في اسرائيل وقتما تحب". انتهت مراسم الدفن، وانفض الجمع، وبقيت رخامة سوداء مكتوب عليها: "هنا يرقد الرئيس المؤمن/ محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، عاش من أجل السلام ومات من أجل المبادئ". لكن، هل كان هذا رأي المصريين؟ منذ أُعلن خبر موت السادات إلي ما بعد دفنه خيم الصمت على القاهرة، لم يكن صمت حزن، لكنه كان أقرب لصمت من استراحوا لتوّهم من فترة صخب طويلة، خلت شوارع العاصمة التي لا تعرف الهدوء. أُغلقت النوافذ. جلس الناس في أحياء مثل السيدة زينب والحسين وشبرا يدخنون النرجيلة ويشربون الشاي ويلعبون النرد فى صمت وهدوء، كانت الحالة المصرية مثار تساؤلات ونقاش، سيما خارجياً. ذهب البعض للمقارنة بين جنازة عبد الناصر وجنازة السادات، وكيف كان طوفان البشر الذي كاد أن يخطف نعش عبد الناصر. كيف خرجت الجموع من جبال أطلس إلى صنعاء لتشييع الرجل في جنازات رمزية، في الوقت الذي أُطلقت فيه أعيرة نارية في بعض الدول العربية احتفالاً بموت السادات! بل تمت المقارنة بجنازات أُم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش!

تعامل المصريون مع موت السادات وكأنه رئيس بلد بعيد، في آسيا أو أمريكا الجنوبية لا يعرفون اسمه. هذا الموقف جعل مقدمة البرامج الأميركية (باربارا والتز) تقول: "لو قُدر للرئيس السادات أن يرى من العالم الآخر إلى أي مدى كان المصريون يكرهونه، لمات كمداً بعد أن مات اغتيالاً!" يوم جنازة السادات كان بمثابة تبادل أدوار بين "الاسرائيلين" والمصريين، شيَّع اليهود الرئيس المصري، وأدى المصريون طقوس السبت بدلا منهم.

 

هوامش

* خضع خالد الإسلامبولي قبل عام من اغتيال السادات إلى تحقيق في المخابرات الحربية، وقد ذُيل التحقيق بتوصية تقضي بعدم حضوره لأي عروض عسكرية يحضرها قيادات عليا!

* اختلف عبد السلام فرج مع عبود الزمر حول جدوى هذ المخطط، إذ رأى عبود أنه من الأفضل تأجيل أي مخططات لمدة عامين على الأقل بسبب المطاردات والاعتقالات، وكان يفضل تجنيد أحد الطيارين للقيام بعملية انتحارية لتدمير المنصة بمن فيها.

* للاطلاع أكثر على نمط حياة السادات وطريقة عيشه يُفضل الرجوع لكتاب خريف الغضب للاستاذ هيكل، الطبعة المصرية الصادرة عام 1988 عن مركز الأهرام ابتداء من الصفحة 307.

* عوَّل القذافي في خطته على فكرة خروج الجماهير إلى الشوارع احتفاءً بمقتل السادات، تماماً مثلما عوّل أمراء الجماعات الاسلامية على نفس الفرضية، بل ذهب الإسلاميون في توقعاتهم إلى حد توقعوا معه استنساخ الثورة الايرانية! وبالفعل تحرّك "أمراء" الصعيد في أسيوط بالسلاح، وظلت أسيوط خارج سيطرة الدولة نحو يومين إلى أن استتب الأمرمجدداً. خيب المصريون توقعات القذافي كما خابت توقّعات الاسلاميين، تماماً كما خاب ظنّ السادات.

* غليون السلام: طقس من طقوس المصالحات بين الأعداء والخصوم عند الهنود الحمر، حيث تُعد مشاركة التدخين من الغليون إقراراً للسلام والصلح.

* ما ورد حول ردود الفعل "الاسرائيلية" وحوار جيهان السادات وجمال السادات مع بيجن  نقلاً عن كتاب "يوم قُتل السادات"، للكاتبين عوديد جرانوت وجاك ريننج.

كاتب مصري