Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

كانو يعطونا في الصباح حبوب الصحوة لإيقاظ الأطفال من غفوتهم. وفي الليل يعطونا حبوب التطهير كي نزيل عنّا تعب النهار وإبعاد الرجس عن النفوس. في تلك الليلة لم آخذ المخدر ورأيت. لا أعرف الغاية من هذا التسجيل. هل سيأتي أحدهم بعدي ويمحي ما تبقى منّي

محمد بزي

لم أعد أثق بشيء

أعرف هذا الصوت، أنا أتنفس، شهيق، زفير، شهيق. انها عملية معقدة في بعض الأحيان. يبدو أنها "نهاية اللعبة". كانت أمي تقول دائماً أن ولادتي كانت عسيرة ولم أخرج إلى الحياة لحين موت والدي في فرع 235. هكذا أُخبرت، لكن ما أنا متيقن منه أنه قد مات والموت احتار بيننا.

***

ما لذاكرتي تنجب ما دُفن من جديد؟. أهكذا تكون النهايات! ذاكرة كثيقة تملأ المكان. ذاكرة ثقيلة كطيور جارحة تنهشني. لكني سأنجو. سأنجو من بين كل هذا الركام. سأعود للبداية وأسجل ما تاه منّي. سأسجل "نهاية اللعبة". سأسجل صوتي، كلماتي، طفولتي، سأسجل اسمي إلى أن ينتهي الشريط.

ما الذي يحدث؟ أشعر أن وجهي صار شاحباً وسال لونه على يدين باردتين. هنا، على هذه البقعة من الأرض يرمون الجثث باردة عارية دون أكفان، قبل ذلك تبقى شاهدةً في الشوارع والساحات أياماً بعيون ثابتة، جافة، تراقب أرواح المارة الخائفة. لا، لن أُقتل اليوم يمكنني الإنتظار. لا أشعر أن الموت ملاقيني اليوم. سأسجل صوتي، ذاكرتي، اسمي، إلى أن ينتهي الشريط. في المسجل شريط في وضع ثابت، شريط قديم. أعتقد انه لذاكرة أحدٍ قد سبقني إليه. سأبد التسجيل على ذاكرته. لامفرّ، وهذه بداية الموت الأخير.

كان صوت زرّ التشغيل فاضحاً لشدّة الصمت المتفشي في الأرجاء. اسمي محمد عبد الخالق قنبر. وكان عمري13 عاماً عندما انطلقت الثورة السورية، وها نحن اليوم وقد اجتزنا العام السابع وما زلت حيّاً. جفّ تراب قبري. أنا لا أموت ولا أترك أثراً. إني أتنفس بشراهة والفراغ يغمرني. سأشعل سيجارة. هذا النفس سيكون طويلاً. سأكمل. كنا أصدقاء، أنا، حسن الأحمد، هاني الشويخ، وعبدالله السلّوم. جمعتنا المدرسة وكرة القدم. نلتقي كل صباح عند الساعة السابعة للذهاب إلى المدرسة أو للعب كرة القدم. كان هاني يطمح لأن يلعب في المنتخب الوطني العراقي، هذا كان وعد أبيه له قبل ان يختفي في فرع 271 (فرع المخابرات العسكرية). كان للمدرسة طرقٌ عدّة. كنا نهوى الطريق الطويل. نمرّ بمحاذات الفرات وكان عبدالله يطلق علينا تحدٍّ: من يستطيع أن يشرب ماء الفرات كلّه؟. كنت أُلصق يساري بيميني جيداً لجمع ما تيسر من الماء وأشرب، وأظل أشرب حتى أهزمهم، أهزمهم دائماً، فهم يسقطون سريعاً. لكن الفرات لم يجف بالرغم من أننا كنا نشرب منه كل يوم. يوقفنا اللعب دائماً وبالأخص عندما نقطع ملعب كرة القدم الذي صنعته أرجلنا، غير آبهين بعقاب الأستاذ ابو عديّ المنتظر مع قضيب الرمان العزيز على أجسادنا. أبو عديّ توقف عن الانتظار. لقد اختفى. اختفى مع دخول جنود الخلافة إلى البوكمال في محافظة دير الزور؛ المدينة التي انضمت إلى المناطق "المحررة".

صوتي يرتجف وأطرافي مضطربة منذ أن توقفتُ عن تناول دوائي. سآخذ تنهيدة عميقة وأكمل، أنا هالك، انعدم الرجاء. لا أقوى على الجلوس. أجلس في الزاوية الأكثر أماناً لا مفرّ. على مدى سنوات تعلمت تكتيك الاختباء. أحدد الزواية الأقوى، وأجلس كجثة هامدة وفي كثير من الأحيان صدّقَت روحي هذه اللعبة وماتَت للحظات. اليوم لا مفرّ لا أملك غير هذه الزاوية. لذا سأكمل:

لم يبقَ في المدرسة أحد. بضعة أولاد مصابين بمسوخ و تأخر عقلي. المدرسة بطلاء أسود و"عبّاد" يقف بسيفه قرب بوابة المدرسة. في البداية انتابتني نوبة ضحك، فالمدرسة قد انتهت للأبد؛ هكذا أُخبرت. استجاب الله لرجائي، لن أركع بعد اليوم في زاوية الصف، لن يشد أبو نزار شعر سالفي مرة جديدة. كانت المدرسة تعرفه بهذه الحركة الغريبة. سأذهب للمدرسة لألعب كرة القدم في ملعبها المهترئ فالأستاذ اسماعيل لن يشق كراتنا بعد الآن. سأنتقم. لا أعرف ما يدفع شفتاي لصنع ابتسامة. ربما الانتقام. اجتمعنا صباح يوم السبت، أذكر أنه كان السبت وبقي السبت.

لم يتغير هذا اليوم 7 سنوات مضت وأنا في السبت ولم أعرف يوماً سرّ السبت في ذلك. كان الصباح غريباً. لم أفرح ولم أحزن، كنت هادئاً على غير عادة. أذكر أني بقيت صامتاً بعد هذا الصباح عدة أشهر. أطرافي ترتجف، أشعر بالغثيان. سأقف قليلاً قرب النافذة. لن أجرؤ على فعل ذلك، أنها مجرد نزوة عابرة فالوقوف أمام النافذة موت محتّم. إنها السيجارة الأخيرة. سأشعلها. قمة المتعة. أسمع صوت احتراق التبغ مع لفافة الورق الهشة التي تحمل الأمل الباقي في هذه اللحظات. إنه أمل النشوة الآتي من آخر ما نملك. كوب الماء الأخير يكون بارداً منعشاً، لقمة الخبز الأخيرة تشتم منها قمح الحقول عند الحصاد، الرصاصة الأخيرة أو رصاصة النصر. لكن الخذلان كبير مع انتهاء آخر ما نملك فهذا وهم النشوة الممزوج بالأمل قبل السقوط.

توجهت انا وعبدالله إلى المدرسة سلكنا الطريق الطويل كعادتنا. حسن وهاني لم يسمح لهما والدهما بالذهاب. يقولون أن جند الخلافة منعوا الناس من التجوّل أو الخروج من منازلهم. وما دخلنا نحن بالناس؟، نحن أطفال سنلعب كرة القدم في باحة المدرسة. انطلقنا أنا وعبدالله نحو انتقامنا الذي لم نحلم انه سيأتي يوماً.

شعرت بحرقة في عيناي. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها أمواج الفرات. صرخت عالياً: سأشرب الفرات كلّه حتى يجف. كان بلون التوت. بقع التوت هنا وهناك. أطراف بشرية تطوف مرة واحدة. كان الأسى في كل مكان. رائحة كريهة التصقت بي لم تفارقني. كنت في المكان الخطأ في اليوم الخطأ. سألت: هل نكمل؟ ظلي حاول هجري فأكمل المسير.

لم نتوقف.

كنّا نتنفس الجثث العائمة.

كنّا نتغير، كنّا نفقد شعر رؤوسنا.

كانت أظافرنا تسقط، كنّا نشيخ.

شعرت بنزيف بين أسناني وتيبَّس الصراخ الذي أراد أن يخرج من حلقي.

كان الدخان يخفي ملامح ملعب كرة القدم.

رؤوس تنتظر المباراة. جامدة لا تتحرك.

كانت تنظر إلينا.

أين نحن؟ هنا كنّا نلعب؟ المكان صار مختلفاً. سألت: هل نكمل؟

أسأل و أمشي. أين عبدالله؟ كان قد سقط خلفي.

شعرت بالوحدة. كنت أريد العودة.

صرت أتمنى العودة. صار رجائي العودة.

نظرت خلفي، كنت قد محوت خطواتي وأنا أمشي. لن يهتدوا إلىّ. وصلت الى المدرسة. مسوخ في كل مكان، مسوخ ضاحكة معدية. صرت واحداً منهم. أنا من جند الخلافة. دخلت باحة المدرسة، لم تكن مهترئة. أخذ مني أحدهم الكرة، رماها في الهواء عالياً وكأن ظلاً إلى جانبه أطلق عليها رصاصة فمزقتها.

لم اسمع صوت الرصاص. ضحك كثيراً.

أذكر صوته، كلماته: "سدد يابن الوليد" اقترب مني قائلاً: لدينا ما هو أجمل من الكرات. أوليست كرة القدم حرام؟ هززت له رأسي ايجاباً وذهبت إلى الصف بطريقة ميكانيكية وكأن شيئاً لم يتغير. كان هذا الجندي أكثر لطافة من الأستاذ اسماعيل كيف لم يخبرونا أن كرة القدم حرام! دخلت الصف وكانت الطاولات ما تزال في مكانها. لم يتغير شيئ غير حجارة باطون مسلح سدت بها الشبابيك، رايات الخلافة مزدحمة في الصفوف وأكياس الرمّل في كل مكان. لم أخف بقيت صامتاً. لم أطلب هذا الكم من الإنتقام من المدرّس. لم يكن رجائي الخاص. اجتمع الأطفال جميعهم على أساتذتهم ومدرستهم. رحل من وقعت عليه تهمة معلّم وابتُلعت مدارس المحافظات.

إنه دعاء الأطفال فاحذرونا. أتمنى لو أنام. تكثر الأمنيات في الدقائق الأخيرة. إنها متعة النهاية. يتحول روتينك اليومي إلى أمنية. لن أستطيع تحقيق إرادتي في النوم ففيه العذاب متربص. النوم هوغياب ورحيل مع الضوء المتسرب من نافذة لا استطيع الوصول إليها. لم أعد أقوى على الجلوس. لا، لن أتنازل عن هذه البعقة الآمنة من الغرفة. العتمة اطبقت على بصري وسمعي. صوت نفسي يرهقني. لم يعد باستطاعتي أن أقوى على مجاراة ذاكرتي.

كانت الحصة الأولى أن أتنازل عن ابتسامة أمي الكافرة في الصباح واهتمامات والدي المنحرفة الذي أعمى بصيرتي وإصراره على دخولي المدرسة. إن الله ينتظرني في جهنم. الجحيم متعطش لنا وعليّ أن أختار من يرحل مكاني فقتلت. نزلنا إلى باحة المدرسة ورجال اصطفوا أمامنا راكعين. ثيابهم ملطخة بالتراب والدم. كان المكان بلا رائحة. صوت أنين وبكاء. في الزاوية الأخرى أكوام من النساء أصوات الحديد في أيديهم يعلو كلما لطموا وجوههن. وزعواعلينا المسدسات و"كمشة" من قطع نحاسية صغيرة تصدر نغماً عندما تنهمر بين أيدينا. القطع في كل مكان. لا يمكن أن تعرف وجهة مسارها. لم أعرف كيف أدخلها في المسدس. إنه يختلف عن مسدس الماء الأخضر الذي اشتراه لي والدي. سمعت ضحكة وطلقة رصاص. صمتٌ اغتال المكان. كأن شيئاً لم يكن. أتى من ساعدنا في وضع الرصاصات داخل مشط المسدس وطلب منا إصابة الهدف. أمامي رجل يلبس كيساً أسوداً في رأسه. كان يلتفت مع كل سقوط لجثة على الأرض. هذا الالتفات يعني أنه حيّ. تذكرت والدي في صلاته يلتفت يميناً ويساراً في كل نهاية. هل كان يصلي داخل كيسه الأسود؟. تمنيت لو استطيع أن أرجو الله ليسمح لنا بلعب الكرة فقط. فأنا مسامح لما اقترفته مدرستي، لكن الأوان قد فات. أطلقت رصاصاً كثيراً. لا أعرف أي رصاصة أصابت الهدف. كان "ابو عديّ". قتلت كل من حظِي بجزء من ذاكرتي.

كانو يعطونا في الصباح حبوب الصحوة لإيقاظ الأطفال من غفوتهم. وفي الليل يعطونا حبوب التطهير كي نزيل عنّا تعب النهار وإبعاد الرجس عن النفوس. في تلك الليلة لم آخذ المخدر ورأيت. لا أعرف الغاية من هذا التسجيل. هل سيأتي أحدهم بعدي ويمحي ما تبقى منّي. أريد علبة سجائر. مهمّة مستحيلة. تكثر الأمنيات في اللحظات الأخيرة. كانت أمنيات بديهية خارج نطاق العقل وعملياته الحسابية لأفعالنا اليومية.

كنّا كثر وصار الغبار يلتف حولنا بلا صوت ويسحقنا. قالوا لنا أبناء الفاروق لا يموتون. صرنا نموت بلا ظلّ. في الأنفاق نذبل والكومبريسور يخفي الأثر. المهمة حفر نفق للالتفاف حول مطار دير الزور وتأمينه. لم أعرف السفر يوماً. كنا نعمل بعدد الأنفاس. مئات الاطفال يلتهمون التراب وكأنهم نمل أحمر هائج على جلد العدو. إننا المرضى. عيون متفجرة وحركات ميكانيكية تنهش الأرض، أدمنّا الغبار وظلام الأنفاق. صرنا بلا ظلّ. غرباء عن شمس دير الزور.

 

كاتب مسرحي لبناني