يعود بابيه، في محاضرةٍ بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ ليقرأ حدثَ 7 تشرين الأول/ أكتوبر من السّياقِ التاريخي العميقِ الذي تطرّقَ إليه في كتبه وأبحاثه، ومنه التّركيز الحاذق الذي بلوره في تقديمه لكتاب أريغوني حول غزّة ومذابح الإسرائيليين الحديثة فيها
إيلان بابيه: نموذج "غزة" في مواجهة استراتيجيّة "الحدث المنفصل"
حدّد إيلان بابيه نظرة "إسرائيل" إلى غزّة، في العام 2005، على أنّها "قاعدة ضخمة للعدو"، فلم تكن تنظر إليها قطّ على أنّها "مكان يعيش فيه سكّان مدنيّون" ("غزة.. حافظوا على إنسانتيكم"، فيتوريو أريغوني، تقديم إيلان بابيه، ص 9). من هذه الخلفيّة، وقبل حرب 2006، كان الإسرائيليّون يجهّزون للحربِ (الحروب) على غزة، وبدأ الجيشُ الصّهيوني، العام 2004، بناءَ مدينةٍ حقيقيّة "نموذجيّة"، تدرّبَ فيها جنوده على سيناريوهاتِ القتال المتوقّع في مدن غزّة وشوارعها وبين أبنيتها المتلاصقة، بما في ذلك التدرّب على الحرب البريّة (وهي الشّبح الذي لم يغادر الكيان حتّى اليوم). في ذلك الوقت، على الأرجح، كان قادة الصّهاينةِ مأخوذين بنشوةٍ وهميّة وهم يتابعون العمليّات الافتراضيّة التي أدّتها القواتُ البريّة في المدينة المصطنعة، والتي كلّفت قرابة 45 مليون دولار أمريكي. إنّ هؤلاء القادة يجدون أنفسهم، اليوم، أمام واقع آخر، وهم واثقون بأنّ شيئاً مختلفاً (ومن هويّة الحدث في 7 أكتوبر) ينتظرهم من تحتِ ركام الدّمار غير المسبوق الذي حلّ على غزة.
في حرب 2009 على غزة؛ كان الصّهاينة تحت تأثير "الذل"، بتعبير بابيه، الذي أوقعته المقاومة في لبنان، العام 2006، وكانت السّياسة المعتمدة بسبب ذلك هي "إبادةٌ جماعيّة"، وبأقصى ما يمكن، وصلت ذروتها في يناير 2009. وكالعادة، لم تغفل "إسرائيل" اعتماد الغطاء اللازم، الذي حملَ حينذاك عنوانَ "الرصاص المصبوب". في ذلك العام، استخدم الإسرائيليّون كلّ أنواع الأسلحة المحرّمة، وحاولوا تطبيق ما تدرّبوا عليه في المدينة "الشّبح" قبل سنوات، وبتجميعٍ هائلٍ من أعمال الذّبح والتّدمير والتّطهير (بما لا يُقاس، بالطّبع، مع ما يحصل منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023). واستعانت "إسرائيل"، على سبيل التّغطية المشار إليها، بما يصفه بابيه بـ"غضب الصالحين"، لترويج السّرديّةِ المحفوظة، بشأنِ دفاع "إسرائيل" عن نفسها، في مواجهة "أسوأ أنواع البشر" (ص 16).
إنّ القتلَ الجماعي، والمذابح ضدّ الأطفال والنّساء، والتّطهير العرقي، والتّهجير تحت أعمال الإبادة؛ هي صورٌ ذهنيّة لصيقة في العقل الإسرائيلي، وهي تتشكّل بنيويّاً بدرجةٍ عاليةٍ من الأريحيّة، وبدون ضغوطٍ نفسيّة، أو استصعابٍ في صياغةِ التبريرات الهشّة، والاطمئنان الكامل بها أثناء الجدال. إنّ الأمر، في جوهره، يعود إلى أنّ "الصّهيونية هي أيديولوجيا" تُبيح المذابحَ الجماعيّة والاحتلال، كما يؤكّد بابيه (ص 17)، الذي سجّلً في نهاية تقديمه للكتاب المذكور (آب/ أغسطس 2009)؛ ما يمكن أن يشرحَ الغلافَ الأسود الذي يكتنفُ، اليوم، "الرأي العام الغربي" وهو يتابعُ النسخة الأبشع من الهولوكوست الصّهيوني على غزة وأهلها. فقد كان بابيه يجادل، أوّل الأمر، بأنّ العالم – وإنْ متأخّراً - سيواجه وحشيّة "الدّولة اليهوديّة"، وسيفرضُ عليها المقاطعة والعقوبات، على أمل إنقاذها من نفسها المدمِّرة. يستدركُ بابيه، بسرعة، بأنّ ذلك لم يتحقّق، وأنّ الدّماء الغزيرة ظلّت مجرّد "حدث منفصل" لا صلة له لا بالماضي المفبرك، ولا بالأيديولوجيا الملطخة بالمذابح المتنقّلة. وعلى هذا النّحو، تعيد "إسرائيل" توليدَ ماضيها الدّموي، في حين تظل أيديولوجيّتها في الاحتلال والاستئصال؛ مدعاةً للفخر بين يدي العالم المتحضّر![1]
يعود بابيه، في محاضرةٍ بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ ليقرأ حدثَ 7 تشرين الأول/ أكتوبر من السّياقِ التاريخي العميقِ الذي تطرّقَ إليه في كتبه وأبحاثه، ومنه التّركيز الحاذق الذي بلوره في تقديمه لكتاب أريغوني حول غزّة ومذابح الإسرائيليين الحديثة فيها. يؤكّد بابيه بأنّ كلّ ما سبق تاريخ ٧ أكتوبر، والذي تراوحَ بين الإنكار والإخفاء (مذابح الكيان ضد الفلسطينيين)، وبين التّلاعب والهروب إلى الأمام (معركة مستقبل "إسرائيل" والثورة القضائيّة في الكيان)؛ تلاقى كلّه في منحدرٍ واحد، وسرعان ما انفجرَ في وجه الإسرائيليين، ما جعلهم يعانون من الصّدمة المجنونة، والإصابة بالوهم البصريّ كما يقول بابيه، والذي أعماهم عن رؤيةِ الشّقوق التي تنتشر في الصّرح الصّهيوني المترنّح.
وفي حين أنّ الصّراع الدّاخليّ في الكيان لن يختفي، بلا شك، بسببِ الأتربة المتصاعدة من حرب الإبادة الجارية في غزة؛ إلا أنّ بابيه يومئ إلى أنّ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر أسهمَ في تبديدِ المناقشات الموجَّهة التي كانت تسيطر على المشهدِ المحلّي في الكيان، وعلى نحو مكثّف، قبل تلك التّاريخ القاطع. وبمعزل عن تلك الجداليّات السّياسيّة، وتجاذبات السّلطة، ومشدّات الصّراع المؤدلج؛ فإنّ بابيه لا يُخفي انزعاجه من فشل الكثيرين، وبينهم "طيّبون" بحسب تعبيره، في اجتياز الاختبار الأخلاقي الذي تُحِيطُ مذابحُ غزّة العالمَ به. ولكن المؤرّخ المعروف بفضْح أكاذيب الوثيقة الصّهيونيّة؛ لا يجد غضاضة في إبداء المعالجة الآمنة، بالمعنى الأخلاقي والأكاديميّ، وذلك بتحذير الذات العارفة من الوقوع في فخ (أو أفخاخ) ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث جرى التّحريض المؤسَّس على الانسحابِ الفجّ من السّياق التّاريخي برمّته، والعودة إلى ما سبقَ أنْ وصفه بابيه بـ"الحدث المنفصل".
لا يبدو أنّ بابيه في وارد التّساهل مع الكارثة ومرتكبيها الصّهاينة، فهو تحت تأثير الاستياء من الزّيف الصّهيونيّ النّزق، ونفاق الدّعايةِ والدّبلوماسيّة الغربيّة، وتشويه الحقائق الممتد الأطراف؛ يُعاوِد – مثل كلّ مرّة - لإبداءِ الحرص على تثبيتِ البوصلةِ الأخلاقيّة، وكأنه بذلك يلوّحُ بالسّلاح الأخير المتبقّي، أو وبذخيرةِ الإنقاذ الأكثر تأثيراً. من هذه الزّاوية؛ يربط بابيه حدثَ 7 تشرين الأول/ أكتوبر بجوهر النّضال الفلسطيني المتواصل، بما هو نضالٌ حقيقيّ في مواجهةِ أشدّ تجارب الاستعمار الاستيطاني، والذي يجعله، بلا تردّد، نضالاً إنسانيّاً، ومن شأن الجميع.
إنّ هذا الشّأن الإنساني الذي يمثّله الكفاحُ الفلسطيني ضدّ الصّهيونيّة الاستيطانيّة، وفق تصوير بابيه، هو ما يوفّر الفهمَ التّاريخي للنّضال ولظروفه المعقّدة، بما في ذلك استيعاب المراحل المعقّدة التي يمرّ بها الصراعُ في مواجهةِ الاستعمار الذي تتركّز فيه أوجُ خبرات الاستيطان والتّهجير الجماعي. فمن الطبيعي أنّ هذا النّوع من الصّراع له لحظاتُ صعودٍ من "المجد" والانتصار، ولحظاتٌ أخرى صعبة من "العنف"، وليس ذلك إلاّ لأنّ إنهاء الاستعمار الاستيطاني، يشرحُ بابيه، ليس "عملاً صيدلانيّاً، ومعقّماً بالكامل"، بل هو "عمل فوضوي"، بمعنى من المعاني، لا يضرّ صوابَ النّضال الفلسطينيّ وأحقيّة الدّفاع عنه.
إنّ التّرابط الفكريّ بين البوصلةِ الأخلاقيّة، والسّياق التّاريخي للحدث؛ هو الذي يجعل بابيه قادراً على الوقوف ثابتاً في مواجهةِ التّغطيةِ السّائدة لوسائلِ الإعلام والوسائط الأكاديميّةِ على حدّ سواء، وتحديداً في الغرب (أو الشّمال الغربي). وعلى الأغلب، فإنّ حرب غزة هذه المرّة ستكون الأخيرة من حيث نتائجها الحاسمة، أي إنّها الحربُ التي سوف تُتمّم الانشطار الكونيّ، وتُنهي الفجوات المتبقّية بين العوالم والبشر، وتكشف كاملَ الألوان والأوصاف للعاملين في مجالات التّأثير العام، وصناعة الأحداث والقرارات. إنّ هذا الانشطار المحمود، وبالاستفادةِ من إيلان بابيه، سيضعُ خرائط واضحةً بين الذين ينظرون للحدثِ وكأنه جغرافيا طارئة، منفصلة عن التّاريخ والأخلاق، وبالتّالي ليس له من ثمرةٍ أو نتيجة متوقعة، وبين الصّنف "الآخر" من البشر غير المهادنين مع سطوة الاحتلال، والذين يُبادون ليل نهار في قطاع غزّة، وبتأييدٍ من هذا العالم المنفصل الذي يُعطي "إسرائيل حقّ الدّفاع عن نفسها".
Related Posts
باحث في الفكر السياسي وكاتب سياسي من البحرين