Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

عندما انتشر الفيديو الذي يظهر جريمة القتل الجماعي التي ارتكبها الجيش السوري في حي التضامن، لم تتجاوز الأعذار التي قدمها أنصار النظام السوري وحلفاؤه ثلاثة: إذ تراوحت ما بين الاحتجاج بأن الإعلام الغربي يثير هذه المسائل في أوقات بعينها لأغراض في نفسه، وأن هذه الجريمة تتضاءل بالمقارنة بجرائم "التكفيريين" في المعارضة السورية

أحمد الدردير

حزب الله والمعضلة السورية - الجزء الأول

عندما انتشر الفيديو الذي يظهر جريمة القتل الجماعي التي ارتكبها الجيش السوري في حي التضامن، لم تتجاوز الأعذار التي قدمها أنصار النظام السوري وحلفاؤه ثلاثة: إذ تراوحت ما بين الاحتجاج بأن الإعلام الغربي يثير هذه المسائل في أوقات بعينها لأغراض في نفسه، وأن هذه الجريمة تتضاءل بالمقارنة بجرائم "التكفيريين" في المعارضة السورية، أو أن ما رأيناه لم يكن سوى إعدام ميداني لعناصر تكفيرية تستحق الإعدام.

بعض هذه الأعذار لا خلاف عليه؛ فلا شك أن الإعلام الغربي يوظف الأخبار والصور والقضايا المحقة، في معظم الأحيان، لخدمة الاستعمار. وبعضها فيه ما فيه؛ فلا شك أن للطرف الآخر جرائمه ولا أريد أن أنجر الآن إلى سؤال أي الفريقين أكثر إجراماً (وإن كان سؤالاً لا مفر منه في بعض الأحيان). وبعضها يوظف مفهوماً ركيكاً للعدالة ليبرر العقاب الجماعي وقتل "التكفيريين" العُزَّل. هذه الأعذار كلها لا تنفي الجريمة.

لا بد للطرفين (النظام والمعارضة) أن يعترفا أن في صفوفهما مجرمين؛ أقول هذا، ليس فقط كمسألة أخلاقية أو لأن هذه أصبحت حقيقة واقعة يواجهها كل طرف بمقارنة جرائمه بجرائم الآخر، ولكن أيضاً لأن هذه الحرب استنزفت سوريا، واستنزفت الأمة، على مدى أحد عشر عاماً، من دون أفق للحل. منذ 2011 والمعارضة تتحدث عن سقوط قريب للنظام، والنظام يبشر بقرب الإجهاز على "آخر معاقل التكفيريين"؛ وكلما طالت الحرب، كلما استفحلت الجراح، المادية والمعنوية، التي تجعل الحل أصعب. ولهذا يصبح الاعتراف بالجرم لا ضرورة أخلاقية فحسب ولكن ضرورة سياسية وأحد أبواب الحل.

هذا من دون أن نساوي بالضرورة ما بين الطرفين أو ما بين عناصر كل طرف. لا أقبل، بطبيعة الحال، نعت حزب الله بالإجرام، لا لفائض رصيد اكتسبه من تاريخه الطويل في المقاومة (هذه لا تبرر بالضرورة تلك وإن كانت تعطينا فكرة عن نهج الحزب) ولكن لأنه لم تثبت مشاركة الحزب بشكل قاطع في جرائم النظام السوري ضد مواطنيه (ثمة تقارير هنا وهناك؛ وسنأتي على ذكر حصار مضايا في مقالة مقبلة). ولكن لا شك كذلك أن حزب الله قد تورط، ربما لاعتبارات وحسابات سياسية وميدانية جبرية، في مناصرة مجرمين.

ولا أقبل أيضاً أن يقال إن كل من عارض النظام السوري هو بالضرورة مجرم أو تكفيري أو عميل للصهاينة وللأمريكيين (هذه تفصيلة مهمة ومتشعبة سأفرد لها مقالا منفصلاً)، ولكن لا شك أن أبرياء المعارضة السورية قد تورطوا في مناصرة مجرميها.

ولهذا لن تحاول هذة المقالة، ولا هذه السلسلة من المقالات، أن تحاجج بأن أحد الطرفين هو أخف الضررين ولن تدعو قارئيها إلى أخذ موقف مع هذا الطرف أو ذاك؛ ولكن إلى تفكيك الخطاب الذي يجعل جرائم مثل جريمة حي التضامن مبررة، ويغلق أفق التفاهم بين أطراف الأمة، ويغلق معه أفق الحل، ولا يفيد سوى الإمبرياليين وأذنابهم، الذين يستثمرون في هذه الفتنة ويذكون نارها.

استباحة التكفيري

فرق كبير بين أن تقاتل تنظيماً مسلحاً لأن هذا التنظيم يصوب سلاحه نحو من يخالفونه في المذهب والفكر، وبين أن تستحل قتل الآخر الأعزل بحجة "تكفيريته" أو أن تجعل من الآخر "التكفيري" (أو "السلفي" و"الجهادي") سلالة أو فصيلة دون سائر البشر يحل امتهانها وقتلها.

في بداية ما عُرف بـ"الثورة السورية"، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، بين بعض المؤيدين للنظام السوري (بالذات من أنصار حزب الله العلمانيين في لبنان) فيديو يظهر شيخاً معمماً من شيوخ درعا وهو يذكر جرائم نظام الأسد ويدعو عليه. كان دعاء هذا الشيخ، وحديثه، بطبيعة الحال والسياق بالمصطلحات "الدينية"، بل ومحض ظهوره، كأنه يعني أن جرائم النظام مفبركة أو مبررة، أو كأن الاقتحام الدموي الذي كان وشيكاً طبيعياً ومبرراً.

لم يكن هذا الفيديو حالة شاذة في صفوف بعض أنصار النظام السوري وحلفاء حزب الله الذين لجأوا للاختزالات الاستشراقية والاستعمارية المعادية للإسلام (التي هي من صلب ثقافة الغرب الحديثة وأحد رافعات الاستعمار، حتى من قبل أن تروج في الثقافة الأمريكية - العالمية العامة، مرة بعد الثورة الإسلامية في إيران ثم مرة أخرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ومع حرب أمريكا المستمرة على الإرهاب). رأينا الاستدعاء الركيك والعنصري لأفغانستان (أحيانا بتعميمات تنم عن جهل قائليها، تربط مثلاً ما بين مظاهر التدين الأفغاني من ناحية وبين الوهابية السعودية من ناحية، كأن منهج طالبان الحنفي هو نفس منهج الوهابيين، أو كأن وهابية أسامة بن لادن هي ذاتها وهابية النظام السعودي)، ورأينا محاكاة رعب الغرب من مظاهر اللحى والخُمُر، وما زال بعض أنصار النظام السوري ينعتون ما حدث في سوريا ازدراءً بـ"ثورة السواطير"، كأن القتل بالساطور أكثر وحشية من القتل بالصواريخ والمتفجرات والبراميل المتفجرة.

ثم انتشرت مصطلحات "التكفيريين" و"السلفيين"، وفي بعض الأحيان "الجهاديين" (بالعربية والإنجليزية) كأنها تعني شيئاً في حد ذاتها، وكأنها أيضاً في حد ذاتها صفات مستهجنة أو سفلى تسلب من حاملها حق المطالبة بشيء، وحق الحياة في بعض الأحيان (قد نتفق على نبذ منهج بعض الجماعات الإسلامية في التكفير على سبيل المثال ولكننا نجد أنفسنا هنا أمام معضلتين؛ الأولى أن حزب الله نفسه لا يختلف مع هذه الجماعات عقائدياً في كفر بعض من يكفرونهم؛ والثانية أن العلمانيين وبعض الإسلاميين بنزعهم الحقوق السياسية والإنسانية عن "التكفيريين" بما في ذلك حق الحياة فهم بذلك ينتهجون نهجاً تكفيرياً تصفوياً ضد من يخالفهم الرأي). ثم أصبحت هذه الكلمات رديفة لمصطلح "الإرهاب"، الذي راج هو الآخر في الخطاب الموالي للنظام السوري، إلى درجة جعلت تقارير بعض القنوات المؤيدة للمقاومة في بدايات الأزمة تتشابه مع نشرات الخارجية الأمريكية المتعلقة بالعراق أو أفغانستان.

قد تصل الخصومة الفكرية والسياسية، في ظروف الحرب الأهلية، إلى حد الاقتتال؛ إلا أن المفارقة هنا هي أن حزب الله يستخدم نفس مصطلحات وخطاب الحرب على الإرهاب التي استخدمت ضده وضد حلفائه والتي سيظل الاستعماريون يستخدمونها ضده وإن قاتل "التكفيريين" وهزم القاعدة والنصرة وداعش. والمفارقة الأنكى هي أن بعض أنصار حزب الله قد أصبحوا يستخدمون مصطلح "الجهاديين" كأنه وصمة بينما حزب الله ما زال يرى جهوده السياسية والعسكرية (بالذات) كلها جهاداً في سبيل الله.

 المسألة هنا لا تقتصر عن استغناء حزب الله عن شرح الوضع المقعد في سوريا بهذه التعميمات والاختزالات ذات المحتوى الاستشراقي، وهي ليست مسألة لفظية فحسب: ثمة خطاب كامل ينتج "المتدين" و"الإسلامي" و"التكفيري" (هذه المصطلحات الفضفاضة التي تنسحب على بعضها البعض) كأنه جنس أو فصيلة قائمة بذاتها، أو كأنه نوع أدنى من البشر يمكن استباحته؛ وهو، مرة أخرى، نفس خطاب حرب أمريكا على الإرهاب ونفس خطاب الصهاينة ضد المقاومة، ونفس خطاب بعض الأنظمة العربي القمعية ضد معارضيها الإسلاميين.

في عام 2016 انتشر خبر (من روايات مجهلة يعود معظمها إلى وكالة سانا التابعة للنظام السوري) عن رجل تكفيري أرسل ابنته التكفيرية لتفجر نفسها في مخفر للشرطة في دمشق؛ هذا الاستسهال في نشر روايات من دون ثبوت أي تفاصيل (لم تكن ثمة أنباء حتى عن هذا التفجير، فقط عن فيديو تظهر فيه الطفلة وهي تودع أباها وتبكي) يستلهم بوضوح الدعاية الصهيونية عن العرب والمسلمين الكارهين للحياة الذين يرسلون بأنبائهم إلى الموت (أحد "الممانعين" في لبنان قال وقتها علنا أننا تواطأنا على إنتاج هذه الحالة عندما صفقنا لأطفال الحجارة). هذا التناص مع الرواية الإمبريالية والصهيونية يجعل "التكفيريين" جنساً خاصاً ينشأ من كيان اجتماعي هو نقيض الأسرة (فالأسرة تنتج حياة أبنائها وتخرج إلى المجتمع ذواتاً صالحة، بينما هذه البنية الاجتماعية التكفيرية تدفع بأبنائها إلى الموت وتنتج ذواتاً تكفيرية وإرهابية)؛ وهكذا يصبح الرجل التكفيري والمرأة التكفيرية والطفل التكفيري هدفاً مشروعاً للموت أو للعقاب الجماعي والتقتيل على يد قوات النظام، وهو ما يجعل من الممكن تبرير مجزرة مثل مجزرة التضامن بأن ضحاياها ليسوا سوى تكفيريين.

 

باحث وأستاذ جامعي مصري