Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

قلما يتحدث هذا الرجل وكثيراً ما يغلب عليه الصمت. ملامحه العادية لا توحي أنه حاد الطباع. لم يدخل الضيف كلية عسكرية من قبل ولم يتدرج في سلك العمل الأمني البتة. الضيف هو الضيف، كأحدنا في ملامحه ولا يشبه مع أحد منا في آن. لا شيء في مكتبه، لا أوسمة ولا شارات عسكرية، لا صور تشير إلى حِقب أو لقاءات من تاريخ عمله وحياته

بشار اللقيس

حوار مع محمد الضيف

قلما يتحدث هذا الرجل وكثيراً ما يغلب عليه الصمت. ملامحه العادية لا توحي أنه حاد الطباع. لم يدخل الضيف كلية عسكرية من قبل ولم يتدرج في سلك العمل الأمني البتة. الضيف هو الضيف، كأحدنا في ملامحه ولا يشبه مع أحد منا في آن. لا شيء في مكتبه، لا أوسمة ولا شارات عسكرية، لا صور تشير إلى حِقب أو لقاءات من تاريخ عمله وحياته. الضيف كأحدنا، عربي السُّمرة، إسلامي المحيّا، لطيف القول، كثير التهذيب، وهي كلها أمور عرفناها عنه قبل لقائنا به. في هذا اللقاء الذي جرى بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كنا (فريق التحرير) قد التقينا محمد الضيف في مكتبه في مكان ما من غزة، علماً أن هذا اللقاء مُتخيَّل بكامله، ونحن لا نحاول فيه غير محاكاة شخصية الرجل بأبعادها المختلفة، في محاولة لفهم أبعاد عمله ومعرفة منطق فكره وتجربته العسكرية في فلسطين، ونظرته السياسية لعموم المنطقة.

***

لا يملك الضيف في مكتبه غير كرسي متواضع ومصحف جيب يحمله معه. لقّب الرجل بالضيف لكثرة ترحاله ونزوله في بيوت غريبة عنه. وهو يفضل افتتاح الحديث بآيات من القرآن. بعد السلام علينا جلس الرجل مفتتحاً لقاءنا بآيات أربع من سورة الأنفال: وإِن يُريدُوا أَن يَخدَعُوكَ فَإِنَّ حَسبكَ الله هو الذي أَيّدَكَ بِنَصرهِ وبِالْمُؤمنينَ  (62) وأَلّفَ بَينَ قلوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا في الأَرضِ جمِيعاً ما أَلفتَ بَينَ قُلُوبِهِم ولَكِنّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم إنّهُ عَزيزٌ حَكيم (63) يا أَيّهَا النبِيُّ حَسبُكَ اللهُ ومَن اتبَعَكَ منَ الْمُؤمِنِينَ (64) يا أَيّهَا النّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إن يَكن منكُم عِشرُونَ صَابِرُونَ يَغلِبُوا مِائَتَين ۚ وإِن يكُن منكُم مّائَةٌ يَغلِبُوا أَلْفاً منَ الذِينَ كفَرُوا بِأَنّهُم قَومٌ لا يَفقهُونَ (65). يحرص الرجل عند بدء كلامه استحضار كتاب الله. فللضيف علاقة خاصة بالقرآن، ويحتفظ بقرآن أعطاه إياه والده منذ أكثر من عشرين عاماً؛ "وحده الله الحامي أيها الإخوة" يقول.

والضيف يستحسن لقبه. هو اسم محبب له. الضيف ضيف الله عند العرب، والأرض بساطه أنّى نزل. "نحن ضيوف الله" يقول، "وإني لمن الشاكرين أن خصني الله بأرض فلسطين وأهلها". لفلسطين في قلب الضيف مكانة مركزية. هو لا يراها وطناً فحسب، بل منطلقاً وغاية للعمل الإسلامي الدعوي والجهادي. كل عمل لا يبدأ بفلسطين ولا ينتهي بها لا أصالة له. من هنا أسرى نبينا الكريم، ومن هنا نحمل رسالة الإسلام إلى العالم أجمعين.

لقد خصنا الله أيها الإخوة في هذه البلاد بمسائل ثلاث: أكرمنا بالجهاد والذود عن مسرى نبيه، وشرفنا بقضية باتت محل إجماع أحرار العالم، ومنحنا عدواً يمثل ذروة قبح الاستعمار في التاريخ، وإني لمن الشاكرين. "إسرائيل" أيها الإخوة ليست كياناً مستعمِراً فحسب، هي أنموذج احتلالي عدواني بطبيعته. وإني أدعو العالم لقراءة هذا النموذج في أصل بنيته ومنطقه. "إسرائيل" ليست طارئاً على حداثة اقتلعت الإنسان من جذوره وتاريخه وثقافته. "إسرائيل" ليست غير ذروة في النموذج المعرفي لعالم اليوم. وإننا إذ نقاتل هذا النموذج في فلسطين، فإننا ندفع الأذى عن كل مضطهدي العالم في الأمريكيتين، وأفريقيا، ودول الجنوب، معرفياً وسياسياً واقتصادياً. وعلى شعوب العالم الحرة إدراك أبعاد هذا الصراع.

يحتم هذا الفهم للصراع إدراك المسؤولية الملقاة على الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين. فهي ليست كغيرها وإن تقاطعت مع قرائنها في غير بُعد. فلسطين مدخلنا إلى "العالمين"، فلسطين مدخلنا لإعادة استدخال مسألة الحق والأخلاق في صلب العمل السياسي والدولي. فلسطين مدخلنا لإعادة فهم مسألة العدالة بنحو أكثر جذرية، ونافذتنا لفهم التجربة الدينية بنحو أكثر ثورية اليوم.

في عمله الجهادي يتوقف الضيف عند تجربته الجهادية الأولى مع كل من صلاح شحادة وزكريا الشوربجي في التخطيط للأسر. يقول: كنا قد عزمنا على العمل باستقلالية عن الجسم الدعوي لحركة حماس منذ أواخر الثمانينيات، ووضعنا هدفاً محدداً لعملنا؛ الأسر. لكن الإجراء الفعلي الأول من قبَلي جاء سنة 1994 بُعيد تواصلي مع الشهيدين يحيى عياش وسعد الدين العرابيد (وإن كانت أول عملية أسر لنسيم تولدانو قد وقعت عام 1992). أسرنا "نحشون فاكسمان" من محطة من محطات وقوف جنود جيش العدو داخل الـ48، واصطحبناه إلى منزل في "بير نبالا" (قضاء رام الله). لكني سريعاً، وبعد أيام ثلاثة أحسست بأن الإسرائيليين قد عرفوا مكان احتجاز الأسير، فاخترت خمسة شباب من الاستشهاديين هم: صلاح الدين جاد الله، وحسن النتشة، وعبد الكريم المسلماني وجهاد يغمور، وزكريا نجيب، وأعددتُ كميناً للجيش الإسرائيلي محل أسره.

-نجح الكمين.

-نعم، نجح الكمين وقتلنا فاكسمان وقائد وحدة الاقتحام الاسرائيلية ومساعده، وأوقعنا القوة الإسرائيلية بين قتيل وجريح.

-أفادتك تلك التجربة صحيح؟

-كان ينبغي أن تُفيد الإسرائيليين وقيادتهم السياسية. كان عليهم أن يتعلموا السياسة بدلاً من المكابرة. لكن عدونا أعجز من أن يتعلم من أخطائه.

-هل سيواجه الإسرائيليون المختطفون مصير فاكسمان نفسه اليوم إن لم ترضخ "إسرائيل" لشروطكم.

-لا، نحن نعد لما هو أقسى وأمر، وأقول لهم: الأيام بيننا.

استميحك عذراً سيد محمد للسؤال عن 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ما الذي فكرتم به عشية العملية؟ ثم ما الذي دفعكم للقيام بعملية من مثل هذا النوع في مثل هذا التوقيت؟

لقراءة عملية طوفان الأقصى أيها الإخوة لا بد من استذكار العقدين الأخيرين وما وقع فيهما على شعوبنا وعلى عموم المسلمين. لقد عملت الولايات المتحدة ومعها "إسرائيل" على كسر إرادة هذه الأمة وضرب أي أمل في قيامها وتحررها. في فلسطين كما في العراق وغيرها من دول المسلمين، عمل الإسرائيليون والأميركيون سوياً على تغيير الخارطة السياسية بما يمالئ مصلحتهم. وعندما تحركت شعوبنا ضد أنظمة الطغيان والاستتباع الأمريكي سارع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة و"إسرائيل"، لإغراق شعوبنا في الفتن والاقتتال الداخلي. من ليبيا إلى سوريا ومن اليمن إلى السودان، كانت هذه الأمة تنزف دماً وتوغل في جراح لم يستفد منها غير الأمريكيون والإسرائيليون. من هنا، كان على الإسلام الجهادي - الوطني تحديداً - إعادة توجيه البوصلة. إن تدنيس القرآن، وهتك محارم المسلمين وكرامتهم في بلاد الغرب مضافاً لما تقوم به "إسرائيل" من استهانة بحرمة الأقصى، وتخاذل القريب والبعيد، كلها تجعل من البحر الإسلامي طوفاناً هادراً يطيح العروش والجيوش والجبروت الأمريكي الإسرائيلي.

-هل تقصد أنك أردت الانتقام لكرامة الأمة في السابع من تشرين/ أكتوبر؟

-لم أفكر بغير كرامة هذه الأمة.

إن أمة يُحرق مصحفها مع ما يعنيه هذا الأمر، ويُعتقل رموزها وقادتها في سجون أنظمة الاستتباع للغرب لا بد وأن تنتقم... "نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد" يقول مبتسماً.

-إلى اليوم؟

-إلى قيام الساعة إن شاء الله.

-لكنك تقاتل دفاعاً عن الأمة بخيار حسيني!

-كان إحياء شعوبنا يحتاج إلى واقعة توقِف كلاً من أبناء هذه الأمة عند مسؤوليته. نعم كما فعل الحسين.

-وماذا عن رد الفعل الإسرائيلي؟ ماذا لو لم ينصر غزّة أحد من المسلمين؟ ماذا لو صارت غزة مقتلة العصر؟

-سنموت في أرضنا مبتسمين، وسنلقى الله وقد ذدنا عن كرامتنا وحسبنا الله... أيها الإخوة، ربما لا نكون جيل النصر... ربما. لكنّا حتماً سنكون جيل التمكين في وقفتنا هذه، وسيكون النصر حليف أبنائنا بعد جيل أو جيلين في أبعد تقدير... ثم ألا ترون أن فلسطين تكاد تذهب غثاء الاستسلام والمفاوضات العبثية! لا أكاد أعتقد أن ثمة خسارة أكبر من خسارة فلسطين وضياعها اليوم.

كان الضيف يتحدث إلينا، وكنا نسمع صوت زخات الصواريخ تنطلق من غزة عندما أشار إلى ساعته، فعرفنا أن وقتنا شارف على نهايته. لم نحرج الرجل المهذب بمزيد من الأسئلة، أملاً أن نعاود لقاءه والحوار معه بعيد انتهاء الحرب. سننتصر، قال مبتسماً، وهو يهم بالخروج.

تركنا الضيف يمضي مسرعاً، وما تركتنا كلماته؛ سيكون النصر حليف أبنائنا بعد جيل أو جيلين في أبعد تقدير.

رئيس تحرير صحيفة الخندق