Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم أرَ في السابع من تشرين خروجاً عن السياق التاريخي لجرائم الكيان الصهيوني والإمبريالية في المنطقة، فإبادة المنطقة صيرورة كاملة ومستدامة، وعلينا هنا أن نعي مسألة مهمة ها هنا. إن الكيان الصهيوني لا يستقصد في عدوانه فلسطين، بل "العالم الثالث" بأسره. فـ"إسرائيل" جزء من تركيبة القوة الإمبريالية

بشار اللقيس

حوار مع المفكر العربي الدكتور علي القادري

في هذا النص تقدم الخندق المفكر والأكاديمي العربي الدكتور علي القادري، في حوار حول "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، آملين أن يكون هذا الحوار إسهاماً متواضعاً في النقاش الثقافي والسياسي حول هذه الحرب (الحدث الأبرز لهذا العام في منطقتنا)، ورافداً من روافد إنضاج فكر عربي بديل، لطالما نادى به مفكّرنا وهو ما سنلتَمسه في ثنايا الحوار معه

أجرى الحوار: رئيس تحرير موقع الخندق بشار اللقيس

***

سؤال: دكتور علي القادري اسمح لي بداية أن أبدأ حواري معكم حول "طوفان الأقصى" من لحظة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما حصل فيها، بداية كيف قرأت 7 تشرين كحدث سياسي بسياقه وأبعاده وتداعياته على مجمل النطقة؟

علي القادري: شخصياً، لم أرَ في السابع من تشرين خروجاً عن السياق التاريخي لجرائم الكيان الصهيوني والإمبريالية في المنطقة، فإبادة المنطقة صيرورة كاملة ومستدامة، وعلينا هنا أن نعي مسألة مهمة ها هنا. إن الكيان الصهيوني لا يستقصد في عدوانه فلسطين، بل "العالم الثالث" بأسره. فـ"إسرائيل" جزء من تركيبة القوة الإمبريالية. والقوة الإمبريالية - كما نعرّفها - هي إعادة إنتاج التراكم ورأس المال وكل شيء. هذا يعني أن القوة والسلطة الإمبريالية المنعكسة بمؤسسات تعمل لخدمتها وبفكر يتحكم برأس هرم العالم أيديولوجياً، إنما وُجدت كلها من أجل تشويه الواقع حتى لا ترى الناس الواقع على حقيقته. هذا يعني أن الكيان الصهيوني هو جزء من مركّب ونسيج القوى الدولية التي تخدم الحالة الإمبريالية التي تمارس على الدوام إبادة بنيوية للناس والمجتمعات والبيئة

إن الكيان الصهيوني مولود غربي مصطنع، ترتبط حياته، وحبله السري، عضوياً بالكولونيالية الغربية التي ورثتها أمريكا. من هنا، يجب رؤية الأمور في سياقها التاريخي وبأبعادها المنظورة. فالكيان جزء من التركيبة الفكرية الكولونيالية، التي تتمظهر على الأرض بالإبادة البنيوية، والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح: كيف نحدد الإبادة البنيوية وما معنى الإبادة البنيوية؟

تكمن الإبادة البنيوية في تقليص عمر الإنسان. فالإنسان الذي من المفترض أن يعيش لمئة عام في ظل المعطيات التقنية والعلم المعاصر وقدرات الرفاهية المتوفرة، وفي ظل فائض الإنتاج الهائل الموجود في العالم، نجده يعيش في غرب أفريقيا وفي اليمن وأفغانستان والدول العربية ستين سنة فقط. هذا ما يدفعنا إلى القول أن عملية الإبادة البنيوية هي عملية قتل للإنسان ما قبل عمره المفترَض تاريخياً. والإبادة بالحرب، إنما هي إرداء الإنسان قتيلاً ما قبل العمر المتوقع له. لذا، نحن نرى عملية الإبادة الجماعية جزءًا لا يتجزأ من فكر وممارسة الإمبريالية على امتداد التاريخ. وهنا علينا التنبّه أن الكيان الصهيوني جزء لا يتجزأ من هذه التركيبة. فهو يمارس القتل في زمن أمست فيه الإبادات الجماعية محرمة دولياً - بسبب انقلاب موازين القوى والإرث الإنساني الذي اكتسبناه في القرن الماضي -، والكيان الصهيوني هو الوحيد القادر على مماسة الإبادات المباشرة ناهيك عن الإبادات البنيوية. فلا ننسى أن الكيان الصهيوني هو من كان سيعطي سلاحاً نووياً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو الذي سلّحَ قوّات التمرد ضد الشعوب، وأينما وُجِد خرقٌ لحقوق الإنسان نراه موجوداً

لذا، نحن لسنا أمام ظاهرة مستثناة عن هذا السياق التاريخي، إنما أمام حالة هشة من هذه الظاهرة. والهشاشة لا تطال الكيان الصهيوني وحده فحسب، بل التركيبة الإمبريالية بأسرها. فرأس المال هشٌّ، ذلك أنه رأس مال خيالي. والهشاشة ليست خاصية له وحده فحسب، بل هي تطال كل متناثراته الواقعية (من سلاح وقدرات أخرى) فهي الأخرى خياليّة وهشّة أيضاً. كما أن العلاقة الاجتماعية الحاكمة للعالم، والتي تفرض نفسها كنمط وحيد لتنظيم الحياة دون غيرها، هي علاقة خيالية وهشة أيضاً، ذلك أنها تقوم على أساس رأس المال

هذا ما أثبتته المقاومة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عندما أظهرت أنها قادرة على تبيان هذه الهشاشة، من خلال خرق الفارق التكنولوجي الشاسع بقدرة الإيمان والعقيدة القتالية الناتجة عن الظروف التي يعيشها قطاع غزة، وأنها قادرة على قلب موازين القوى، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على ترابط قوى المقاومة وقدرتها على قلب الموازين التي كان ينبغي أن تنقلب من قبل. كان ينبغي أن تكون هذه الظروف متوفرة منذ زمن بعيد. لكن للأسف، الأنظمة العربية لم تسمح بذلك

سؤال: دكتور علي، في إطار استقرائنا لسياق الحدث، وإذا ما عدنا إلى ما قبل 7 تشرين - أي 6 تشرين وما قبل - سنجد أن المنطقة كانت على شفا سلام سعودي - إسرائيلي، أو خليجي - إسرائيلي، وكان هناك من يقول بأن الشرق الأوسط سيصير أوروبا الجديدة، وأن رخاءً اقتصادياً قادماً للمنطقة كلها؛ بناءً عليه كيف يمكن أن نفهم الرأسمالية بما هي تراكم هدري للإنسان والطبيعة في ما لو لم يحدث 7 تشرين؟

علي القادري: أولاً ينبغي لأحدنا التوقف عند المعايير الأيديولوجية التي تحكم فكر من يتحدث بهذا المنطق. فعندما نقول أن أوروبا هي التقدُّم، وأوروبا هي الظاهرة التي نسعى لأن نكون على صورتها. فهذا ضرب من الجهل لا مثيل له. لماذا؟ لأن أوروبا كانت على رأس هرم العلاقات الرأسمالية منذ ولادتها في القرن السادس عشر. وكما نعرف، فإن الحقبة الرأسمالية تختلف عن الحقبات التاريخية السابقة في أن إنتاجها ينحصر في الربحية لا في المنفعة الاجتماعية، وهذه أحدى الركائز الأساسية للعلاقة المنظّمة للحياة الاجتماعية في الحقبة الرأسمالية

فالأشياء في الحقبة الرأسمالية تُنتج لكي تُباع لا من أجل إفادة المستهلك، ولكي تُنتج أشياء قابلة للبيع عليك أن تُخفضَ تكاليف إنتاجها، وعليك أن تُحمّل المجتمع تكاليف انتاج أي سلعة. فأنت في إنتاجك أي سلعة بحاجة للحصول على الأشجار والبترول والمعادن والمُدخلات اللازمة بأقل الأسعار. وبما أن الطبيعة ليست موجودة في فضاء خارجي مستقل بل يسكن فوقها بشر وشعوب (أي أن الطبيعة لا توجد دون فاعل اجتماعي أو ذاتاً فاعلة هو الإنسان) وأن علينا كرأسماليين أن نخفض التكاليف والمدخلات البشرية وغير البشرية كي ننتج شيئاً ما، يصير حتماً علينا هدر الإنسان قبل استخراج المدخلات البيئية، ويصير ضرب الإنسان وإعادة تدوير عقله بما يخدم الرأسمالية أمراً واجباً

يُهزم الإنسان في المنظومة الرأسمالية في عملية مزدوجة عسكرية وأيديولوجية. ففي الرأسمالية نحن بحاجة إلى هزيمة الإنسان عسكرياً أول الأمر، وفي مرحلة أخرى علينا أن نهزم من يبقى على قيد الحياة ليقدم روحه قرباناً لعملية الإنتاج الربحية دون أن أضغط عليه. هذا يعني أنه ينبغي أن نخلق أيديولوجيا يرتضي الإنسان معها بأن لا بديل له عن المنظومة الربحية الرأسمالية المستغِلّة له

حصيلة ذلك تبدّت منذ القرن السادس عشر، أي منذ أن دخلنا هذه الحقبة، وعندما أمسى الإنسان فائضاً يمكن أن يُهدر أو يمكن الاستغناء عنه. فالرأسمالي ليس له غرضٌ بالإنسان إلا الهدر من أجل أن يحتكر الموارد التي يسكن فوقها الإنسان، سواءً كانت غابات أو معادن أو نفط أو غيرها. وأن يستغله في عملية إنتاجية ربحية في المركز كي يبيع لفئة أخرى في هذا التدرج الهرمي في منظومة الإنتاج

في هذه الحالة يصير الإنسان فائضاً، وتصير عملية الاستغناء عنه وتدميره ودحره عمليةً إنتاجيةً كذلك. من هنا كانت العسكرة أولى العمليات الصناعية. فإذا كانت الحقبة الرأسمالية تُحدد بظاهرة العمل المأجور للإنسان، فإن أول العمال المأجورين كانوا العسكر الذين يصعدون إلى السفن كي يحصلوا على جزء من فائض القيمة المستغلة كأُجراء، ومن هنا بدأت منظومة الأجور

لذا، عندما يُقال أن أوروبا حضارية، ينبغي لنا ألا ننسى أن أوروبا وأميركا تجلسان على رأس هرم اتخاذ القرار في هذه المنظومة الربحيّة الرأسماليّة الهدريّة. فمنذ القرن السادس عشر، أهدرت أوروبا في حروبها حياة قرابة تسعمئة مليون إنسان (400 مليون منهم بين عامي 1500 و1900، و500 مليون في حروب القرن العشرين)، هذا يعني أننا نتكلم عن قرابة المليار نسمة "مهدورة". وإذا أخذنا المضار البيئية بعين الاعتبار، فإن أوروبا خلقت ظروفاً بيئية وتلوّثاً إلى درجة افتقاد الطبيعة القدرة على إعادة إنتاج الإنسان. لقد أنتج الأوروبيون من الأوساخ والتلوث ما قد يفني الكوكب بعد مئة وخمسين عاماً. وفي هذه الحالة، ستكون أوروبا قد خلقت هدراً بيئياً وتلوثاً وأوساخاً تفوق الأشياء المفيدة التي خلقتها بمئات المرّات حجماً

إننا نعيش إبادات جماعية بشكل يومي بفضل الغرب، ويموت الأطفال تحت العشر سنوات من الجوع فيما يُنتج الكوكب طعاماً لـ12 مليار نسمة. هذه ظاهرة ملفتة، نحن إزاء فائض إنتاج وقتل اجتماعي في الآن عينه، بسبب قانون القيمة الذي يوزع الموارد ويفرض قتل الإنسان. لقد أمسى قتل الإنسان غاية في ذاته ضمن عملية الإنتاج. فالغرب يرسل الجيوش كعمال مأجورين، ويرسل الـNGO’s لتهيئة الأرضية له، وهؤلاء كلهم عمّالاً مأجورين الغاية منهم الاستمرار في عملية قتل الإنسان، وهذه هي الصناعة الكبرى؛ إنها صناعة الهدر، صناعة القتل بما هي هدر صافٍ (أي الأكثر هدراً). ففي كل سلعة تستهلكها، ثمة يد عاملة تُهدر طاقتها. وفي الوقت الذي تُهدر فيه طاقة عامل في الغابات الإفريقية لإنتاج الكوكا كولا، ثمة رأس مال خيالي محصَّل غير ذاك المرتبط بالدورة السنوية للأرباح. فعندما تدفع دولاراً بدل ثمن عبوة "الكوكا كولا"، ستجد أنك لا تدفع دولاراً في الحقيقة، بل تدفع أموالاً أخرى بدل الهدر الناتج عن رمي البلاستيك في البحر، وبدل تلويث البيئة، وبدلاً عن صحتك المنقوصة نتيجة آثارها الصحية والأمراض الناتجة عنها، وبدلاً عن ضرائب الحرب التي كانت جزءًا من دخول الكولا إلى السوق والفقر الناتج عن هذه الحروب، وكل هذه الفواتير يدفعها المجتمع من عمره، وهي عين ربحية الكوكا كولا

لذا، فعندما يحكون اليوم في COP28 عن البيئة مثلاً، وعن ضرورة إيقاف التلوث وإنقاذ الطبيعة، سيظل هذا الموضوع منقوصاً ما لم نحكِ عن إيقاف الربحية التي هي أساس الهدر. الموضوع هنا معقّد بعض الشيء، فالربحية ليست شرطاً لإيقاف الهدر ما لم تعالج مسألة الملكية الخاصة، والملكية الخاصة هي الانعكاس الرئيسي لرأس المال والوجه الرئيسي له. والملكية الخاصة لا تعني الملكية الفردية (البيت والسيارة وغيرها من الممتلكات الخاصة)، بل تعني ملكية أدوات الإنتاج (المعامل والمصارف وغيرها). ونحن هنا نحكي عن الملكية الخاصة بما تُفضي لاستثناء الناس من المأكل والمشرب والأمان الاجتماعي. فالملكية الخاصة علاقات اجتماعية وليست شيئاً، ونحن نتحدث عنها كعلاقة تستثني الناس من المنتج الاجتماعي. والمنتج الاجتماعي بالأخير هو منتوج العمل الإجتماعي

فالإنسان اجتماعي، والعمل هو مجمل العلاقات الاجتماعية، أي مجمل الحالة التاريخية التي تُنتج. والإنسان عندما يذهب إلى المعمل ليشتغل يوظّف ما استُثمر في عملية الإنتاج من خلال المجتمع. فالمجتمع هو المنتج بكل فئاته بمن فيهم العاطل عن العمل لأسباب فيزيائية. هذه كلها علاقات اجتماعية متداخلة في ظاهرة واقعية. وعندما نحكي عن عملية استغلال فنحن نحكي عن تقصير حياة المجتمع من خلال الإبادة البنيوية. والإبادة البنيوية هي شكل من الاستغلال، لكنه استغلال أقل بكثير من الاستغلال الهدري الناتج عن الحرب. لذا فما تقوم به "إسرائيل" أو الكيان الصهيوني في المنطقة وغزة بالذات، يتعلق بشكل أساسي بمعدل الأرباح الذي ستجنيه الرأسمالية فيما لو انتصرت "إسرائيل" في المستقبل، وهي لن تنتصر لأنها جزءاً من تركيبة رأس المال الخيالية، ولا بد للعالم في لحظة من اللحظات - في ظل اختلال موازين القوى - من أن يرى أن "إسرائيل" نمراً من ورق

سؤال: في حديث بيننا قبل ثلاثة أعوام، قلت لي بأن الكيان الصهيوني هو المحرك للإمبريالية المعاصرة، لكننا نشهد اليوم بعد "7 تشرين الأول/ أكتوبر" اهتزازاً في صورة "إسرائيل" في الساحة الدولية، وأنا غير قادر على تحديد معنى وأبعاد هذا الاهتزاز، هل هو اهتزاز لموقع "إسرائيل" في المنظومة الإمبريالية، أم هو اهتزاز للمنظومة الإمبريالية كلها نراه اليوم ماثلاً في "إسرائيل"؟

علي القادري: واقع الأمر، إن الظرف الدولي يتغيّر، هناك انتصار روسي ضد الناتو في أوكرانيا، وهناك الانتصار الأساس في كل الانتصارات العالم ثالثية؛ أي صعود الصين. فالمسألة الاستراتيجية الرئيسة لدى الغرب تكمن في إزالة الصين عن الخريطة، فالصين هي العملاق أو التنِّين الذي عاد إلى الساحة الدولية من جديد، والصين جزء من مشروع ستالين للشرق السوفياتي عندما أراد ستالين مدّ الاتحاد السوفياتي إلى الشرق. كما أن نجاح الثورة الصينية لم يكن منفكاً عن هذا الإرث الذي يجاهر بالقول: "نحن ضد الغرب". فحرب الشعب التي زاولتها الصين في الماضي (إن كان في الحرب الكورية أو في الحرب ضد الاستعمار الياباني) كانت حرباً بالمفهوم الذي نعيشه في لبنان، وشبيهة بمفهوم المقاومة الذي تمارسه المقاومة في غزة وفلسطين. فقد عنَت حرب الشعب تلازم مساري التنمية والسلاح (أي ليس هناك تنمية دون سلاح وليس هناك سلاحاً دون تنمية)، فكان الفلاح مقاتلاً في حرب الشعب. لكن حرب الشعب الحديثة التي تخوضها الصين ضد الاستعمار اليوم تكمن في اختراق النشاط الدولي وتوطين التكنولوجيا، حيث باتت الصين تمتلك الكثير من القدرات التكنولوجية القادرة على تحدي الغرب (ولو في بعض المشاريع المحددة)، ذلك أن تفوق الغرب تاريخياً كان لأسباب تكنولوجية، كما أن تفوقه التكنولوجي لم يكن يوماً لذكائه وتفرّده عن هذه الأمة أو تلك، فالماكينة التكنولوجية ليست بفاعل تاريخي (وقراءتها من ناحية المنتوج التكنولوجي حصراً فيه نوع من التشييء، والتشييء لا يفيدنا في استقرائنا إذ لا يمكننا من قراءة التطور الاجتماعي من خلال الشيء بل من خلال الفاعل الاجتماعي باعتباره مركّب من مادة وفاعل تاريخي، أي أنه علاقة اجتماعية)، ولعل الفعل التاريخي أو العلاقات الاجتماعية التاريخية هي التي مكّنت الغرب من حصر التفوق العلمي والتكنولوجي عنده، كما أن فعله التاريخي في منع التنمية في محيطه، وانتصاره على الآخرين، هو السبب في أن انحسار العلم والتقانة به

طبعاً، لا ينبغي أن ننسى صمود إيران وروسيا، والذي تحصّل بفضل اختراق الصين للحصار الذي تفرضه أمريكا على الكثير من هذه الدول. ربما لم تخترق الصين الحصار، لكنها قامت بنسج علاقات تجارية واتفاقات كبيرة مكّنت الكثير من الدول من النهوض والتحدي

إذاً، لقد اخترقت الصين النموذج الإمبريالي لإنها دولة سيادية، مارست أنواعاً من الحرب ضد الامبريالية، بدءًا من قدرتها على ألا تُجتثّ من الدورة الاقتصادية الدولية، ثم في تفوقها التكنولولجي، وأخيراً في مساعدتها الدول النامية والمحاصرة باختراق الحصار الإمبريالي، وهذا تحديث لفكرة حرب الشعب. وبرأيي، فإن للتفوق الصيني هذا انعكاساته على السوق الدولي، وعلى المجال الدولي عندنا وفي كل مكان. وكان من ارتدادات هذا التحول انتصار القوى المناوئة للإمبريالية الحالية في غير موضع ومحلّ

سؤال: لكن سؤالي كان عن الاهتزاز في صورة "إسرائيل" على المستوى الدولي

علي القادري: ما أريد قوله أن اهتزاز صورة "إسرائيل" أمر حتمي. ذلك أن "إسرائيل" جزءٌ من تركيبة رأس المال، وبما أن رأس المال مسألة خيالية كما قلنا، فإن مجرد سقوط وهم هذا الخيال، فإن قوته الخيالية بكل مفاعيلها ستسقط. وليس من الضروري أن ننتصر على هذا الوهم بالسلاح، بل إن الأمر يعتمد على وعي الناس أولاً وقبل كل شيء، فبمجرد أن ترى الناس أن "إسرائيل" وهم وضعيفة وهي جزء من تركيبة وهمية ستسقط "إسرائيل". ولإن كان هذا الشيء مهملٌ عربياً وإسلامياً، فإن ضعفنا يكمن في عدم قدرة الناس على رؤية وهن "إسرائيل". فـ"إسرائيل" كيان غريب عن المنطقة، وحتى هم – أي الإسرائيليون – عارفون أنهم مأجورين من الرأسمالية العالمية لضرب الشعوب العربية والإسلامية، وهذا أمرٌ مسلمٌ به

فهل اهتزت صورة "إسرائيل" في هذه المعركة؟، أنا أريد القول أنها اهتزت في هذه المعركة ومن قبلها في عدة معارك، وفي كل معركة قادمة ستهتز صورة "إسرائيل". لقد كان ينبغي لهذه الصوة أن تهتز من قبل، لكن ولفقدان القدرات، ونتيجة ترابط جزء كبير من الناس التي ادعت المقاومة مع النظام الرسمي العربي، كل هذا أدى لأن نجلب لأنفسنا الهزيمة بدل الانتصار، حتى مع وجود السلاح

سؤال: إذا أردنا ربط "إسرائيل" بمسألة العسكرة، فمن المهم الالتفات إلى أن العسكرة والسلاح مرتبطَين دائماً بالنفط والموارد الأوّليّة، ولكننا اليوم وكأننا نعيش لحظة انتقال للحداثة من حداثة النفط والطيران والعسكر إلى حداثة مختلفة تتعاطى الداتا والبيئة وغيرها من المسائل، وكأن مسألة العسكرة غير واضحة المعالم في حداثتنا الجديدة، أو لنَقُل أننا أمام نموذجين من الحداثة، حداثة القوة الصلبة، وحداثة تعتمد قوة أنعم، فهل نحن أمام حداثتين، أم أمام حداثة واحدة بمنطقين؟

علي القادري: هذه مفردات تستخدمها الأيديولوجيا الإمبريالية السائدة أو المسيطرة. ولا ينبغي لنا أن نستخدم هذه المفردات (القوة الناعمة، القوة الصلبة، والقوة الـ...الخ). فالقوة تتبلور حسب موازين القوى وحسب غايات رأس المال لكن القوة الرئيسية على الدوام كانت قوة العسكر. فعندما تقتل العالم وتهزمها يصير بإمكانك إنزال الهزيمة الفكرية بها. مثلاً نحن أمة مهزومة فكرياً، فالمعسكرات الأجنبية، مضافاً إلى الناتو وسلاحه المتواجد على أرضنا تجعل منّا مهاجرين إلى الشمال، في الوقت الذي نشهد فيه هجرة أساسية للعمال المأجورين/ العسكر إلى الجنوب، وهؤلاء يقومون باقتلاع مواردنا بما في ذلك مواردنا البشرية، فعندما يقولون أوقفوا الهجرة إلى الشمال ينبغي أن نرد عليهم أن أوقفوا هجرة العسكر إلى الجنوب كي تقف الهجرة إلى الشمال

خلاصة الأمر، ينبغي أن نفكر بنحو آخر مختلف. فالقوة الرئيسية والعنف هو العمل الأساس في كل ممارسات القوى الإمبريالية. وإذا لم تُضرب الشعوب وتثهزم "مرة، واثنتين، وثلاثة" لن تتمكن ماكينة الرأسمالية من الاشتغال. وهكذا، وإذا ما استقرأنا تاريخنا فإنه ما من مرحلة منه لم تُضرب فيها شعوبنا مرّات ومرّات، ولم يُعمل على هزيمتها في ظل التفوق العسكري والتكنولوجي للغرب. من هنا، سنجد أنه وعندما يقع أي خلل في الموازين الدولية فسينهض كل ما هو تحت هذا "المنظِّم الكلّي" لكي يستعيد قواه من أجل الحصول على كامل طاقته وقدرته على العيش، فيستعيد الإنسان عمره المهدور ويمسي قادراً على أن يعيش عمره الطبيعي في ظل ظروف أقل تعسفيّةً وعسكرةً

سؤال: من هنا يمكن أن نفهم الاختلاف بين اليمين واليسار في "إسرائيل" على أنهما توجهين مختلفين بشكل رئيس على حصة وآلية سحب فائض قيمة العمل من شعوب منطقتنا؟

علي القادري: في هذه العملية الإنتاجية، تُشكّل "إسرائيل" عنوان الحرب الدائمة على شعوب منطقتنا. والحرب الدائمة على شعوب منطقتنا هي الحجر الأساس في عملية التراكم، لأنه عندما تبدأ في عملية الإنتاج ينبغي أن تستحوذ على النفط والنحاس والبشر، وينبغي أن تُجهز على البشر، فإن أول ما تقوم به في الاقتصاديات الاستخراجية هو أن تستخرج حياة الإنسان، وهذا ما لا يُقال عادة في الأدبيات الاقتصادية السياسية. فأنت كرأسمالي ينبغي أن تستخرج حياة الإنسان أولاً قبل أن تستخرج أي شي آخر. لذلك كان ثمن استخراج النفط من المنطقة العربية عالٍ جداً بالنسبة لنا كشعوب، وكان أحد أثمانه وجود الكيان الصهيوني الذي لعب دوراً وظيفياً في آلية تأمين استخراج الموارد من هذه المنطقة. وللأسف، كان على رأس هذه الموارد حياة الناس فيها. لقد أرادت الرأسمالية تسليع حياة الناس في منطقتنا، لكي يصير لها ثمناً يقابلها؛ هو تدميرها في العملية الإنتاجية الكبرى

من هنا، تأتي الأموال لـ"إسرائيل" للقيام بهذه المهمة في المنطقة، وهذه هي الصناعة الأساسية في "إسرائيل". فعندما يقولون لك أن "إسرائيل" تصنع المنتجات الغذائية أو التكنولوجية، يغفلون عن القول بأن "إسرائيل" تصنع التدمير/ الموت الذي هو أساس تحديد القيمة في العملية الاقتصادية. لأنه ومن أجل تحديد القيمة يجب أن تهدر حياة الإنسان. فعندما تقلص حياته بالنسبة إلى طاقته في العمل على امتداد حياة كان من الممكن أن يعيشها، فإن الفارق بين حياته التي عاشها والحياة التي كان من المفترض أن يعيشها هي معدل فائض القيمة الذي تسعى الرأسمالية لتحصيله

سؤال: ثمة ملاحظة دكتور علي في أن الرأسماليات الطرفانية أكثر توحشاً على الدوام، من "إسرائيل" إلى رأسماليات شرق أوروبا، وليس انتهاءًا بالأنظمة الموالية للغرب في أميركا اللاتينية. نحن دائماً ما نجد في "مناطق التخوم" ما بين مركز رأس المال العالمي والأطراف أنظمة يمينية. هل لأن اليمين هو الأكثر وحشية أو أقل تساؤلاً في سحبه فائض القيمة من الأطراف؟

علي القادري: الرأسمالية ليست شيئاً مادياً بل علاقة اجتماعية. أو دعنا نقول هي مرحلة تاريخية يحكم فيها رأس المال العالم. وهنا لا نقدر ولا نستطيع القول بأن هذا الجزء أسوأ من هذا الجزء فيها، لأنها علاقة متكاملة تترابط فيما بينها. وهي تحاول أن توازن هنا وهناك من أجل أن تظل هي العلاقة السائدة في عملية التراكم. وعملية التراكم هي علاقة إعادة إنتاج الإنسان من يوم إلى آخر، (هي التي تحدد كيفية عمل المجتمع حتى يستمر في قدرته على العيش). ومن هنا ليس هناك رأسمالية جيدة ورأسمالية متوحشة، هي علاقة واحدة لها عدة أوجه

سؤال: دعني أوضح سؤالي بنحو آخر، هل الوجه الهوياتي منها يتصاعد اكثر فأكثر عند مناطق التوتر في الأطراف؟

علي القادري: لهؤلاء وظيفة محددة عادة. فهم متجانسون مع التكتل الرئيسي لرأس المال بالفكر السلعي الذي يحملونه بين ظهرانيهم. فالمتسلعين أو المتقمصين لفكر السلعة هم الطبقة الأكثر تماثلاً مع رأس المال لأنها – كطبقة - جزء رئيسي منه. وعندما تخرج هذه الطبقة إلى الأطراف تصير - نتيجة ارتباطها برأس المال الغربي - أكثر وحشية للحفاظ على مكاسبها لأنها في موقع خيانة واضحة يجعلها منبوذة من مجتمعها. وهذه الطبقة لا تشعر بالخيانة عندما تقول أنها ضد فلسطين وضد تحرير الشعوب، بل هي تتحدث مستندة إلى منطق القوة حتى في حديثها عن جلب الديمقراطية إلى العالم. لكن إذا تكلّم غيرهم من خارج الإثنية البيضاء بنفس منطقهم، سيظهر وكأنه خارج السرب

سؤال: بالرغم من تماسك نظريتك بالمعنى الكلي العام، لكن ثمة إشكالية تكمن فيها في عدم قدرتنا على قراءة الغرب إلا ككل واحد، فاليوم ثمة حركات في الغرب معارضة لسياساته، تعبر عنها طبقة وسطى جديدة عابرة للدول والأقطار، فأين موقع هذه الطبقة أو الشريحة من منظومتك التفسيرية؟

علي القادري: حركة السلام في الغرب موجودة منذ زمن بعيد. أقله، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. لكن عندما ننظر إلى رأس المال الذي يمتلك عنده عدة محدّدات، فإننا نُحدده كعلاقة استغلال للمنتوج العام والخاص من جهة، ونحدده من جهة أخرى من خلال قدرته على التفرقة الاجتماعية بين الناس. فمع أن رأس المال خيالي، إلا أنه لا يقوم إلا على أساس نظر الناس لنفسها ولبعضها البعض وفق الانقسامات الإثنية والطائفية ودون ضغط الناس بعضها بعضاً، وهذا أساسه استغلال المنتوج العام من أجل الخاص. وثمة أمر ثالث، هو يكمن في الهياكل التي يُنشئها رأس المال، ففي هيكله على الدوام ثمة مستهلِك ومستهلََك. في دول الجنوب عندنا ثمة هيكل يقوم على أكتاف عالم مستهلَك من أجل الشمال، والمسألة هنا ليست مفهوماً جغرافياً. فعندما نحكي عن هيكل شمالي وهيكل جنوبي إنما نحكي عن قدرة رأس المال على أن يُبقي جزءاً من الطبقة العاملة في الشمال مشاركة له في الريوع الإمبريالية أو ريوع ضرب الجنوب. هذه العلاقة تُبقي القدرة على إمداد الناس بشكل دائم بجزء من غنائم الحرب التي يستلبها الشمال من الجنوب

هو بدأ بهذا النحو في القرن السادس عشر ولا يزال حتى يومنا الراهن على هذا النحو. لذا، ثمة تجانس عميق بين هذه الفئات ورأس المال. وبما أن فكر رأس المال هو فكر السلعة، فهو يحوز ديناميك السلعة بما هي ضرورة للسوق، فغاية السلعة في أن تُباع وتأتي بالأرباح، وأهميتها في أنها تعود لتعطي المنتج مؤشراً في مدى ربحية العمل الذي وظفه في العملية الربحية (هل كان ربحه كافٍ أم لا) وفق منطق السوق. ولذلك فإن قانون القيمة هو المؤثر في عملية توزيع الموارد من خلال المؤشرات والرموز التي يأخذها المنتِج من السوق

لن أدخل في الاقتصاد السياسي كثيراً، لكن ما أريد قوله يكمن في أن ثمة رأسمالية تحكم العالم اليوم، وهي تتقمص السلعة. والإنسان الرأسمالي فيها ينام ويستيقظ ولا يفكر إلا بالربح والسوق، فيمسي هو نفسه سلعة بمنطق تفكيره. ولأن السلعة لا تشعر ولا تحس وليس لديها إيثيقيا (أخلاق). ولأن الحرب هي التي تسلخ المنتوج من الناتج الأساسي (الفلاح والعامل) من دول العالم الثالث، تصبح كل إيثيقا الرأسمالية مرتكزة على الحرب باعتبارها فكرة ضرورية، ذلك أنها تحافظ على نمط حياة هذه الفئة في الشمال، وهذا مبرر قولهم على الدوام أنهم مضطرين إلى ضرب الجنوب. هم يقولون بمعنى آخر، ينبغي أن نحافظ على الاستهلاكية الهدرية التي تعدم الإنسان والبيئة حتى لو دمّرنا الكوكب بعد خمسين سنة واستنزفنا موارده. فلدينا "الحق في الحرب" من أجل الحافظ على نمط حياتنا. وهذا نمط جديد من فلسفة الحرب التي تختلف بنيوياً عما سبق، فمن قبل لم يكن هناك من مسوغ لفكرة الحرب العادلة، غير أننا اليوم نعيش في حداثة تقوم فكرة الحرب، و"عدالة الحرب" فيها قائمة على أنه ومن أجل الحافظ على مستوى حياتي، فإنه يحق لي أن أسلب الآخر حياته، وهذا هو عين الفكر السلعي

سؤال: إذاً، بالمحصلة نفهم أن حركة التضامن العالمية مع فلسطين التي يتوقع البعض أن تنبئ بوعي تضامني جديد، لن تستطيع إنجاز مهمتها في ظل استحكام الرأسمالية العالمية بوعي الناس

علي القادري: التظاهر في الغرب لا يعني شيئاً. لأنه وكما قلت لك من قبل، هناك جزء كبير من المجتمع الغربي متماثل مع رأس المال، ويعيد إنتاج نفسه من خلال الريع الإمبريالي، أي بالحروب. والضرائب التي تدفعها الناس هناك تذهب في جزء كبير منها إلى المجمع الصناعي العسكري كجزء من الاستثمار في المستقبل. هم يعلمون أنه كلما قويَت أمريكا و"إسرائيل" في عالم الجنوب، وفي منطقتنا بشكل رئيسي - لأن منطقتنا مفترق مركزي رئيسي في العالم الثالث -، ستتمكن هذه الفئات إعادة إنتاج ذاتها. بهذا المعنى، تأتي هذه المظاهرات كنوع من تجميل الديمقراطيات الغربية التي هي في عمقها "حكم الأقليات"، وهي أسوأ أنواع الديكتاتورية فعلاً، فالناس عندما تكون موافقة على قتل الآخر لا تعود الأنظمة معها في حاجة إلى سجناء سياسيين. فكل الناس متماهية مع رأس المال كما أن عملية فرض الضرائب مرتبطة بالظرف التاريخي وبالعلاقة الاجتماعية التي تعيد إنتاج المجتمع. من هنا، تصير هذه الفئات موقنة بقدرتها على إعادة إنتاج نفسها من خلال قدرة نظمها على ضرب العالم الثالث، ومن خلال "إسرائيل" التي هي اليد الرئيسية في هذه العملية. إن العالم الغربي متوحش، وهو إذ يسمح للمظاهرات فإنه يسمح بها بالقدر الذي يجمل صورته كما قلنا، وكنوع من رفع الذنب واستيعاب الناس "الطيبين"، لكن هؤلاء أقلية وسيظلون أقلية

أما في "العالم الثالث"، وفي عالمنا الإسلامي بشكل خاص فالوضع مختلف. هنا لا تعني المظاهرات شيئاً، وعملية مقاطعة السلع لا تؤثر على الرأسمالية حقاً. إن ما يؤثر عليها هو قلب الموازين السياسية ليس إلا. فعندما تكون عملتك ومالك وكل ثرائك مرتبط بالمصارف الغربية وبالدولار، فأنت في الحقيقة تعيش في وعاء إمبريالي، ويصير تظاهرك تأكيد على الفقاعة التي تعيش فيها

ينبغي لعملية النضال أن تُدرك أن هذه المظاهرات لا تعني شيئاً. إذاً كيف تتحمل الشعوب العربية والإسلامية مسؤوليتها تجاه نفسها؟ هل بالتظاهر والمقاطعة؟ لا، هذه لا تعني شيء. هي ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها بنحو أكبر من ذلك بكثير، لأن العنف هو العامل الأساسي والسيطرة الأيديولوجية للغرب وأدواته (النظام التعليمي والـNGO’s) هم عناصر أساسية في عملية الإنتاج الإمبريالي، ومن دون مقارعة العنف، ومن دون مقاطعة المسبّبين الأيديولوجيين الذين خلقوا هذا الفكر المتمحور حول المديونية مثلاً - الذي هو وهم من وهم أكبر خيالي هو رأس المال -، الذي يستعبد الشعوب ويقصّر عمرها كي يزيد التراكم ومعدل فائض القيمة، لا معنى لمقاطعتك ومظاهراتك

عندما تصير الأمور بهذا النحو ستعي الشعوب العربية والإسلامية أن مهمتها أكبر من ذلك بكثير. وعندما تقول قيادة المقاومة أنه ينبغي على شعوبنا تحمل مسؤوليتها، فإن الأمر أبعد من مسألة مظاهرةٍ ومقاطعة، ومشاهدةِ التلفاز في استلاب روحي وأخلاقي كامل دون عمل تنظيمي قادر على قلب موازين القوى داخل هذه المجتمعات كي يُطرد الغرب بفكره وعسكره وكل من يتبع له. لذلك، إني أجد الأزمة أزمة فكر، وأزمة فكر بديل. هناك غياب للفكر البديل أساسه الفكر الليبرالي الغربي الذي لوَّث فكر الشعوب في الجنوب ككل

سؤال: كلامك يوصلني لسؤال الأخير عن اليسار العربي، أين اليسار العربي اليوم مما يحصل؟

علي القادري: من زرع يحصد، فالضعف والوهن العربي في الشارع هو نتيجة ضعف الفكر. فحرب الفكر هي الحجر الأساس في المواجهة، وإذا لم نمتلك الفكر البديل الذي ينزع الوهم عن رأس المال بشكل يغيّر وجه المنطقة كلياً، ويغيّر موازين القوى في هذه الدول فما الذي نفعله في واقعنا. إن واقعنا العربي يمتلك قدرات هائلة للإنتاج، وفَرضِ البدائل، وفرض شروط شعوبنا على عملية التبادل التجاري الدولية، وإلغاء المستوطنات الغربية التي تستوطن الفكر أساساً من جامعات وطرائق تفكير، لكن المشكلة في اليسار العالمي كله وليس عندنا فقط

لقد وعى الغرب لخطورة اليسار في أنه الرحم المولّدَ لكثير من الأفكار الجديدة التي من الممكن أن تزعزع نفوذه. لذا، هو قوّض اليسار بمشاريع شراء اليسار وشراء الفكر الثوري، وما أكثر المأجورين خصوصاً من الأكاديميين. وأنا أعتبر أن من الألطاف بشعوبنا أن الأكاديميين ليسوا من يقود الناس والثورة، وإلا لكان الوضع وبالاً علينا. فأنت تحكي عن طبقة مأجورة لا تنتج إلا بما يشترطه رأس المال

سؤال: ختاماً، إلى أين نحن ماضين ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر برأيك؟

علي القادري: سينتصر الشعب الفلسطيني العربي المسلم والمسيحي، ومن المستحيل ألا ينتصر. وهذا ليس مفاجئاً لنا. المفاجئ هو كيف أننا لم ننتصر إلى اليوم؟ ما الذي أخر الانتصار؟. وقد لا يكون هذا هو النصر النهائي لشعوبنا، ربما، لكنه سيؤسس لانتصارات أكبر في القادم من الأيام في العواصم العربية، فإذا لم نعمل على تحقيق انتصارات في هذه العواصم إسناداً لهذا الانتصار سنضيّع هذا الانتصار حتماً

إن انتصار الشعب الفلسطيني في غزة اليوم أثبت للعالم كله أن الشعب الفلسطيني شعب جبار، وهو قادر على تقديم التضحيات. والأمر ليس مستجداً على الفلسطينيين فهم جزءٌ من شعوبنا العربية والمسلمة، وجزء من شعوب الجنوب وشعوب "العالم الثالث"، التي لطالما كانت قادرة على بذل التضحيات. لكن الأمور كانت تتأخر دوماً بسبب الوعي الذي زرعته الليبرالية الغربية، وبسبب أزمة البديل الفكري عند اليسار بشكل خاص الذين ما عادوا قادرين على الخروج من الوهميّات. إن "إسرائيل" أوهن من بيت العنكبوت، هذا أمر مؤكد، ولا نقاش فيه، وعلينا أن نقتنع بهذا الأمر

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق