على هذا النّحو، وباستحضار إدوارد سعيد، فإنّ الموضوعَ الأكثر تمثيلاً لضراوة الحدث المجلجل في قطاع غزة، ابتداء من السّابع من أكتوبر/ تشرين الأول وحتى اليوم؛ هو الموضوع الذي له علاقة بالإعلام وصناعة الصّورة، أي بالكيفيّات التي يعيد فيها الغربُ الإمبرياليّ استعادةَ مورثه الاستعماريّ القديم
حرب الصّورة والإعلام: استعادة لإدوارد سعيد
من غير السّهل توقّع ما سيقوله إدوارد سعيد لو كان حيّا اليوم! من المؤكّد أنّ المفكر الرّاحل أعطى ما فيه الكفاية لتسديد ضرباتٍ موجعةٍ للعقل الاستعماريّ، وملحقاته المتكرّرة. وكان من الطبيعي أن يتولى سعيد، فترة حياته، إكمال مجهوده الفكريّ ضد الصّهيونيّة وأنماطها الغربيّة، ليس فقط لأنّ ناقد "الاستشراق" الأشهر هو امتداد لضحايا الاقتلاع الصّهيونيّ، وأنّ الصّهيونيّة اختراع إمبرياليّ آخر (وأخير ربّما، بمّا يغري بإجراء "الاختبار النّموذجي"). إنّ ما يفوق أهميّةً؛ هو أنّ سعيد كان يُدرك أنّ الصّهيونيّة تتوفّر على صلاحيّة أن تكون المجال التّحليليّ الأكثر جدوى، من المنظور التّاريخي، لاستكشافِ البقايا الإمبرياليّةِ المختبئة تحت الجلود، وبين الأسنان، وبعد أن تسبّبَ تفكيكُ الاستشراق - وما جاءته دراساتُ ما بعد الاستعمار – في اللّجوء إلى الحيلةِ والمناورة، أي تدريبِ ورثة الحقبةِ الاستعماريّة على تحلية خطابهم الاستعلائي، وتلميعه ببريقِ مواثيق حقوق الإنسان العائدة إلى "فلسفات التّوبة" من الخطيئةِ الاستعماريّة، ولكن "من غير ندمٍ على ما فات". فما كانت "توبة نصوحة"، وهي لم ترق يوما لأن تكون "نكاية انتقاميّة" على ماض يتكرّر بطرائق مختلفة.
على هذا النّحو، وباستحضار إدوارد سعيد، فإنّ الموضوعَ الأكثر تمثيلاً لضراوة الحدث المجلجل في قطاع غزة، ابتداء من السّابع من أكتوبر/ تشرين الأول وحتى اليوم؛ هو الموضوع الذي له علاقة بالإعلام وصناعة الصّورة، أي بالكيفيّات التي يعيد فيها الغربُ الإمبرياليّ استعادةَ مورثه الاستعماريّ القديم، وطرائق توريده لها اليوم، وبنشوة السّياق الدّمويّ ذاته الذي صاحبَ البدايات الأولى للجولاتِ الاستعماريّة. وقد خلص إدوارد إلى القول بأنه في ظلّ "العالم المعولم"، فإنّ "السّياسة والإعلام يكونان متكافئين" ("إسرائيل، العراق، الولايات المتحدة"، ص 49) في شأنِ إدامة الاستعمار الاستيطاني وتوفير القوالب والأطر المنحازة لترويح توحّشه وإراحتهِ من الإدانة، ويتمّ ذلك – بفضل الإعلام - دون الحاجة إلى عتادٍ عريض من الوقائع أو خبرةٍ فكريّة عتيدة. إنّ السّهولة هنا، في النتيجة، لا تتأزّمُ أو تشعر بالحَرج مهما بلغت وحشيّة الحدثِ أو شناعة الخبر، وتظلّ على حالها تُردّد سلاحها التّقليدي في "التّعالي والتّغابي"، وبوسيلة المحاججة التي يوفّرها الإعلامُ وهو يُعيد تكرار "الإطار الدّعائي" ضد الفلسطينيين؛ بوصفهم "إرهابيين متعصّبين بشعين"، مقابل "إسرائيل" وصورتها: "دولة صغيرة جريئة تتصدّى لمحاولات الإبادة" (ص 49).
يؤكّد سعيد بأن "فلسطين تشكل حالاً استثنائيّة من بين قضايا الكولونيالية خلال القرنين الأخيرين" (ص 19)، ولكن الإطارات الدّعائيّة حوّلت "التّفكير في إسرائيل" على أنّها الضّحية الأولى والدّائمة التي لا يجبُ، مهما ارتكبت من جرائم، أن يتوقف عنها الدّعم والإسناد. إنّ جزءًا من الأسباب – بحسب سعيد - يعود إلى الإدراك الخاطئ من أنّ "انتفاضة باسلة مناهضة للاستعمار" يمكنها وحدها "أن تُعرِّف نفسها" (ص 75)، كما أنّ الأمر لا يعود فقط إلى أنّ "إسرائيل" تضخّ مئات الملايين لمشاريع الدّعاية (هسبارا)، إنّما أيضا إلى غياب "الجانب العربي"، وضعف مقاومة "التّشويهات الشّنيعة بأي وسيلةٍ ذات صور ورسائل خاصة بنا" (87). لقد قال سعيد ذلك في أواخر حياته، بعد أن نضجت رؤيته لطريقة الدّخول في الإعلام المقاوم، ويقينه المتراكم من عدم كفاية الجهود المبذولة لإنهاك استعلاءات الإمبرياليّة المبثوثة في الميديا الغربيّة. لم يكن علينا، بعد ذلك، أن نتعجّب من تمدّد الدّعاية الصّهيونيّة بعد السابع من أكتوبر، وكذلك أسباب اختياراتها للأوصاف المنمطة (حماس/داعش – الفلسطينيون/حيوانات) ورفع مستوى البكائيّة وأجواء الجنائز من خلال تركيب القصص المثيرة، واختراع صور "المظلوميّة التاريخيّة" المُعاد تكرارها من "العرب المتوحشين".
ما قام به إدوارد سعيد من مواجهاتٍ إعلاميّة، على امتداد تاريخه الفكري؛ نبّه إلى ضرورةِ عدم اليأس من الطاقةِ الشّريرة الكامنة في وسائل الإعلام (كما نظّرَ جان بودريار)، وأنّ الجهد المبذول في فكّ "الشّيفرة" ينبغي أن يحذر، في الوقت نفسه، من الوقوع في "الجوهرانيّة الوظيفيّة" لشيفرة الإعلام الخاضع لقوى الهيمنة والاحتلال، التي تنصّ على تحويل الإعلام إلى ساحةٍ هلاميّة (مائعة، جاذبة، مضيئة، نجوميّة، خاطفة..)، لصناعةِ الأفكار والصّور المسْتَسْهِلة، وعلى قاعدةِ الاستجابة الرّاهنة (المؤقتة) للحدث، وتفريغ المكبوت الثّوري المثير للقلق (بغرض التخلّص منه تدريجيّا)، وتبادل اللّعنات وخطابات السّخرية التي تزيد المشهدَ سهولةً (أي سخفا ورخاوة)، وذلك كلّه يعني أن يتحوّل التّبادل الجاري في وسائل الاتصال الجماهيريّ إلى استعراضاتٍ خطابيّة، وعلاجات نفسيّة، وتدور مدار الانشغالِ التّنافسي في ابتكار كلّ طرفٍ طرائقه في "الممارسةِ البلاغيّة" (على طريقة هوس "الترند" الذي تلبّس باسم يوسف). بسبب ذلك، تغدو المكافحات الجارية في الإعلام على أنّها انخراط، غير مقصود في الغالب، في "سوق الاستهلاك الإعلامي العالمي" الذي يتحكّم فيه الغربُ الاستعماريّ، أي إشباع الحاجات الرّأسماليّة في إنتاج الكلام السّريع، والأخبار العاجلة، ومنها تجميع العواطف حول الأحداث وإعادة تبديدها، وفق الحيلة الكولونياليّة المعهودة منذ زمن قديم.
من المؤكّد أنّ السّفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط، قرأ إدوارد سعيد، ولستُ أدري مدى اقتناعه بفوائد بالحجاج الإعلامي الذي اعتاد عليه سعيد، ولكن زملط تستهويه طريقة المباغتة من الأخير، واستلام "رقبة الخصم" في أوّل الكلام، وهي طريقة مجدية في الإحراج، والدّفع نحو الزّاوية الضّيقة، وإرباك الرّواية الأخرى، ولكنها لا تُنهي أسسَ هذه الرّواية وإغراءاتها. وأكثر ما يثير الاستياء، عدا الكارثة المستمرّة في غزة؛ أنّ الأداء الإعلامي لسعيد لم يتبلور، بعد، إلى أعرافٍ صلبةٍ بين المثقفين والأكاديميين المناضلين، الذين لا يبدون اهتماما جديّا بأدواتِ واحتياجات "التغطية" في الإعلام (أي أفعال وأحبال "الإظهار والإخفاء" بحسب تورية عنوان كتاب سعيد الشّهير). الأكيد بأنّ ساحة الإعلام، وحتّى إشعار آخر، لا تزال تتكافأ مع السّياسةِ العدوانيّة لإسرائيل، حيث تتسيُّد فيها القصصُ الكاذبة للكيان الصّهيوني والقوى الإمبرياليّة في العالم. إنّ ذلك مدعاة للحنق الشّديد، ولكنها نتيجة منطقيّة بسبب طبيعة "العالم المعولم" الذي تحدّث عنه سعيد، والذي يدعو المقاومين المنتصرين في الميدان، أن يفكّروا مليّا كذلك في انتصارات أخرى في ميدان الصّورة والإعلام والتّخاطب الفكري، بما هو فعل فكري وإنساني واسع، يتجاوز حدودَ تقديراتنا لذواتنا المحليّة وإيماننا بالقضيّةِ المحقّة.
Related Posts
باحث في الفكر السياسي وكاتب سياسي من البحرين