من أين يأتي الخوف؟ تجيب الحداثة في نسختها الصلبة عن هذا السؤال، فتحصر الخوف في مجالات ثلاث؛ جموح الطبيعة، وهشاشة جسد الإنسان، والعدوان البشري[1] وتعد بالقضاء على مصادر الخوف؛ فالطبيعة سيتم توقع حوادثها، والطب والعلم والتكنولوجيا ستقدم حلول لكافة الأمراض وتكمل كافة نواقص الجسد البشري، أما العدوان البشري فالسلام الذي سيعم العالم كان وعداً متكرراً ومسعى واهياً دون أي تحقق
بين الخوف السائل وأشباح الأمومة
"ومشى الخوف بي ومشيت به حافياً" _ محمود درويش
***
هذا هو حال إنسان عصرنا الحالي، يسوقه الخوف.. يوجهه ويطمس بصيرته، فلا يملك سوى أن يمشي في ظله حافياً! مُجرداً من كل سبل مقاومته وأدوات دفعه عن نفسه. ولكن من أين يأتي الخوف؟ تجيب الحداثة في نسختها الصلبة عن هذا السؤال، فتحصر الخوف في مجالات ثلاث؛ جموح الطبيعة، وهشاشة جسد الإنسان، والعدوان البشري[1] وتعد بالقضاء على مصادر الخوف؛ فالطبيعة سيتم توقع حوادثها، والطب والعلم والتكنولوجيا ستقدم حلول لكافة الأمراض وتكمل كافة نواقص الجسد البشري، أما العدوان البشري فالسلام الذي سيعم العالم كان وعداً متكرراً ومسعى واهياً دون أي تحقق، في الواقع كان من المفترض أن يكون سقوط الحداثة الصلبة وفشلها في تحقيق وعودها بالأمن والصحة والسلامة ونزع الخوف، سقوطاً مدوياً وفشلاً يبشر بالردة عنها، لكن ما حدث هو أن الحداثة أذابت نفسها ففرت من المواجهة وأذابت معها المخاوف الصلبة، فأصبح الخوف سائلاً وصار خوفاً في كل مكان ومن كل الأشياء ومن كل الناس، خوف يعيد إنتاج نفسه، وتعيد النظم السياسية إنتاجه فتفلت من المسؤولية وتشن الحروب وتعيث فساداً دون حساب، وتعيد الرأسمالية إنتاجه وإلا فمن سيشتري كل أدوات الحماية ووثائق التأمين!
وبعد أن جردت الدولة الحديثة الإنسان من كل أدوات دفاعه عن نفسه وبعد أن جعلت الأمن والسلامة مسؤولية الدولة، عادت لتتنكر لهذه المسؤولية وتوهمنا بأنها مسؤولية شخصية، ومع تزايد وعينا بالشر في العالم من حولنا أصبح يبدو بأن الإنسان بالفعل ذئب لأخيه الإنسان وأن ما يجب أن يفعله الواحد هو أن يحرص على ألا يكون هو الفريسة القادمة وأن ينجو بنفسه وفقط! ومع تأكل الروابط الإنسانية التي تزيد هشاشة يوماً بعد يوم في عصر الحب السائل الذي لا يعرف الديمومة ويقوم على التأقيت، واللذة دون البذل، والاستبدال لا الإصلاح، وفي ظل عالم سعى دائماً لنفي مفاهيم القضاء والقدر وفصل الإنسان عن كل ما هو متجاوز، ينفرد الخوف بالإنسان ويتركه عارياً حافياً مُجرداً من كل عون ممكن، قادر أن يعينه على تجاوز مخاوفه ويبعث في نفسه مشاعر الطمأنينة والسلام.
يذكرني الخوف السائل الذي يتحدث عنه باومان، بأشباح الأمومة التي تحكي لنا عنها إيمان مرسال في نصها البديع؛ كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها، فأشباح الأمومة من؛ قلق وشعور بالذنب ورغبة في التضحية مع العجز عن تمثلها في صورتها الأكمل؛ هي أشباح هائمة لا تأتي من فراغ، لكنها تسكن كل فراغ، وما أكثر الفراغات التي تعانيها النفس البشرية في عصر سائل يفتقر لأغصان متينة يمكن التشبث بها ولقواعد ثابتة يمكن البناء عليها. الأم هي رمز التضحية، ومصدر الأمان، والأمومة مهمة ودور مقدس، ولكن ماذا يصير في الأمومة في عصر لا يقر بأي نبل في التضحية إن لم يعتبرها سذاجة! وأي أمان يمكن أن تمنحه أم تحيط بها مخاوف عالمنا السائل خاصة مع افتقادها لشبكات أمان وعلاقات وطيدة داعمة؟ وماذا يتبقى من قدسية الأمومة في عالم ينزع القدسية عن كل شيء ويختزل الأشياء في تجلياتها المادية الحسية؟ في هكذا عالم تصير الأمومة باب مفتوح على مصرعيه لخوف دائم متجدد ومتكرر، ولقلق لا يعرف الانتهاء ولعجز يكشر عن أنيابه فنفر منه فزعين هائمين، لنجدنا نفر من الأمومة وتمثلاتها أو نحياها كغصة. لكن لو كنا ذوي بصيرة لأدركنا أنه ربما في تمثلها الحق يمكن للأمومة أن تكون بمثابة معقل لنا في مواجهة طوفان السيولة والعدم.
[1] زيجمونت باومان، الخوف السائل، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، 2017، ترجمة: حجاج أبو جبر، ص7.
Related Posts
كاتبة مصرية