Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

دعى تورينغ إلى إعادة النظر في طبيعة التفكير نفسه من خلال تحويل التركيز من البُعد الميتافيزيقي إلى السلوك الذي يمكن معاينته. حملت دعوى الانتقال هذه تعقيدات فلسفية كبيرة سَيَرد بعضها في هذا المقال

حيدر المقداد

الذكاء الإصطناعي فلسفياً

سنة 1950 كتب الرياضي الشهير آلان تورينغ ورقته البحثية الشهيرة (computing machinery and intillegence)، تناول فيها سؤالاً عميقاً " هل تستطيع الآلات التفكير؟"، لم تُنبئ هذه الورقة بثورة في مجال الذكاء الإصطناعي فحسب، بل تحدّت أيضاً بعض الأفكار الفلسفية، مثل ثنائية رينيه ديكارت التي تفصل بين العقل و الجسد. دعى تورينغ إلى إعادة النظر في طبيعة التفكير نفسه من خلال تحويل التركيز من البُعد الميتافيزيقي إلى السلوك الذي يمكن معاينته. حملت دعوى الانتقال هذه تعقيدات فلسفية كبيرة سَيَرد بعضها في هذا المقال، كما وسنحاول مقاربة الذكاء الإصطناعي اليوم على ضوء هذه التعقيدات لفتح الأفق لنظرة فلسفية للذكاء الإصطناعي.

ثنائية ديكارت وموضوع اللغة:

قبل الغوص في اختبار تورينغ يجب أن نمر مروراً سريعاً على ثنائية ديكارت. لقد افتتح ديكارت حقل الذاتية في الفلسفة عندما طرح المسألة الفلسفية التالية "كيف يمكن لما هو ذاتي أن يقوّم ما هو موضوعي؟" وأجاب عليها باستعمال سيستامه الفلسفي وأفاهيمه الفلسفية (الكوجيتو وغيره).

لقد أقرّت ثنائية ديكارت أن الذهن والمادة شيئان مختلفان، فهو يبيّن أنهُ بوصفه ذاتاً لديها فكر واعٍ و خبرة، يستحيل أن يتكون من مادة فحسب، وأنه ينبغي على طبيعة الذهن الأساسية ألا تكون مادية على الرغم من أن الذهن مرتبط بشكل حميم بجسده. اعتقد ديكارت إذاً أن العقل (الجوهر المفكر أو الشيء المفكر) متميز كلياً عن عالم المادة. فيقول في القسم الرابع من مقال عن المنهج (discourse on method translated by f.e.sutcliffe p54) "بذلك أستنتج أنني مادة، يتكون جوهرها أو طبيعتها بأكملها من التفكير، والتي من أجل وجودها، لا تحتاج إلى مكان ولا تعتمد على أي شيء مادي، لذا فإن "الأنا" هذا، أي العقل، الذي به أنا ما أنا عليه، يختلف تماماً عن الجسد". و قد عرّف ديكارت العقل (الذهن) بأنه الوعي ذاته وميّزه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء.  

يعتبر ديكارت أيضاً بأن إستخدام اللغة هي سمة مميزة للذكاء البشري، وأن هذا الاستخدام يرتبط بشكل لا ينفصم بالروح العقلانية (rational soul)، في حين أن الآلات أو الحيوانات قد تحاكي بعض السلوكيات البشرية، إلا أنها تفتقر إلى القدرة على التعبير اللغوي الهادف لأنها لا تمتلك روحاً عقلانية. إذاً اللغة الحقيقية لا تتضمن فقط نطق الأصوات أو الرموز، بل القدرة على الاستجابة بشكل مناسب وفي سياقات جديدة لإظهار الفهم والتفكير.

اختبار تورينغ:

يبدأ تورينغ ورقته بالسؤال "هل تستطيع الآلات التفكير؟" بشكل جديد. يمكن وصف الشكل الجديد للسؤال على شكل لعبة هي "لعبة التقليد" (imitation game) وهذه اللعبة ستُعرف فيما بعد باختبار تورينغ وهو اختبار نظري. يجب الالتفات إلى أنّ ما يقصده تورينغ بالآلة هو الكمبيوتر الرقمي (digital computer) المزوّد بتعليمات أو برامج.

ينخرط المحقق البشري في محادثة نصية (أسئلة وأجوبة) من وراء حائط مع كل من الآلة والإنسان دون معرفة أي منهما، إذا لم يتمكن المحقق من التمييز بشكل موثوق بين الآلة والإنسان بناءً على إجاباتهما تكون الآلة قد اجتازت الاختبار؛ أي أن الآلة قد فكَّرت.

ركّز تورينغ على تقييم السلوك الذي يمكن ملاحظته عند الآلة، أي ما يجعل الآلة تفكّر ولها حالة ذهنية لا يعتمد على تكوينها الداخلي أو وجود عقل أو روح داخلها بل على الطريقة التي تعمل بها، ولهذا الاختبار دور مهم في تطوير الفلسفة السلوكية.

تحدي تورينغ لديكارت ومقاربة للذكاء الإصطناعي على ضوء ما ذُكر:

يتحدى هذا الاختبار البراغماتيكي فصل ديكارت الصارم بين العقل والجسد، مما يشير إلى أنه يمكن تقييم الذكاء سلوكياً وليس كخاصية جوهرية للعقل غير المادي. تعمل أفكار تورينغ على تفكيك الادعاء الديكارتي بأن الآلات غير قادرة بشكل أساسي على الذكاء الحقيقي، وتعيد صياغة النقاش حول قدرات الآلات بدلاً من جوهرها.

بينما جادل ديكارت بأن اللغة ذات المعنى والفكر العقلاني يقتصران على البشر بسبب وجود روح غير مادية، اقترح تورينغ نظرةً أكثر واقعية. ومن خلال اختبار تورينغ، أثبت أن قدرة الآلة على تقليد الذكاء البشري بشكل مقنِع يمكن أن تكون بمثابة معيار كاف للذكاء، بغض النظر عما إذا كانت الآلة تمتلك الوعي أو الفهم. يقوّض هذا التحول اعتماد ديكارت على العقل الجوهري غير المادي، وإعادة صياغة الذكاء باعتباره سلوكاً وليس جوهراً. وبالتالي فإن أفكار تورينغ تذيب الحدود التي وضعتها الثنائية، وتفتح الباب أمام نظرة براغماتية للذكاء

تذكرني مقاربة تورينغ بأحد الأبيات الشعرية للمتنبي:

تشبّهُ الخفِراتُ الآنِساتُ بها

في مشيها فينَلن الحُسنَ بالحيلِ

أي أن النساء الحيات يتشبهن بها في مشيها فيكسبهن ذلك نيل الحسن بالتحَايُل، وكأن آلات تورينغ في تقليدها للإنسان تنال الذكاء بالتحَايُل عليه أي على المحقق وعلى الإنسان بشكلٍ عام فتجعلنا نراها ذكية!

برامج الذكاء الإصطناعي الحديثة مثل (chat gpt) وبعض الخوارزميات (neural networks وغيرها) تجعلنا نعيد الاعتبار لنقاش تورينغ و ديكارت، فمن ناحية هذه البرامج من وجهة نظر تورينغ يمكنها تقليد السلوك اللغوي البشري بشكل مقنع ممّا يجعلها تبدو ذكية في بعض السياقات. ومع ذلك، قد يجادل النقاد، كما فعل ديكارت بأن هذه الأنظمة تفتقر إلى الفهم والوعي الحقيقي فهي تعالج الرموز دون فهم معناها.

على سبيل المثال، تعمل الـ(natural language processing، large language model) من خلال الخوارزميات (algorithms) وأنماط البيانات (Data patterns) ممّا يثير السؤال "هل هذا ذكاء أم مجرد تقليد متطور؟" وهذا يتحدانا لإعادة النظر في تعريفنا للذكاء. اليوم مع هذا التطور التكنولوجي، الاقتصادي و الاجتماعي هل يجب أن يشمل الذكاء الخبرة الذاتية؟ أو أن السلوك كافي في عصر الذكاء الإصطناعي؟

كيف نعالج الذكاء الإصطناعي اليوم؟:

يقول الفيلسوف الألماني هيغل "الفيلسوف يمثّل عصره"، وعلى الفيلسوف أن يكون ملمّاً بكل جوانب عصره العلمية والفنية والإقتصادية وكل الجوانب، صحيح أن لكل عصرٍ مشكلاته ولو أن بعض هذه المشاكل تتكرر من عصرٍ إلى عصر لكن الإجابة تختلف. نحن نحتاج إلى الفلسفة أكثر من أي عصرٍ مضى رغم ما نشهده من تطورٍ تكنولوجي، إذ تبقى الفلسفة أساسية في الحياة لهذا النشاط الذي يحمل لواء العقل. لا يكفي السؤال فقط في الفلسفة، بل يجب استعادة السؤال الذكاء الإصطناعي اليوم من خلال الفلسفة. نحن نحتاج إلى فيلسوفٍ يبدع الأفاهيم التي تحاكي عصرنا وتجدد صورة الفكر فيه، فما عدنا نستطيع أن نعالج الذكاء الاصطناعي من دون برادايم (paradigm) علمي وفلسفي جديد ننظر من خلاله إلى المشكلة بطريقةٍ جديدةٍ ومختلفة مع إعادة النظر إلى تورينغ وديكارت بنظرةً نقدية. فالفيلسوف يبني بناءه الخاص عندما ينتقد بناءً سابقاً من دون انفصال المعنى عن المبنى.

كاتب وناشط لبناني