لبنان خضع،منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، لسياسات مالية مستوحاة من مخطط بونزي الهرمي، هرم اقترب من الانهيار أكثر من مرّة ولم تُنقذه سوى أموال الدول المانحة. لكن الثمن كان تضخم خدمة الدين، لا بسبب بلوغه مستوًى هو من الأعلى في العالم فحسب، بل لأن أسعار الفائدة، وهنا لبّ الفساد المقونن، تبلغ أضعاف أسعار الفائدة العالمية.
نحو دولة رعاية اجتماعية واقتصاد إنتاجي
لمسنا جميعًا في الأسابيع الأخيرة الأزمة الخانقة التي يُعانيها اللبنانيون. كما ظهرت تحليلات أغربها أن سبب الأزمة هو الاحتجاجات (الحَراك، الانتفاضة، الثورة) التي انطلقت في 17 تشرين الأول المنصرم. والحقيقة، من دون "ادّعاء اختراع البارود"، هي أن الثورة أتت نتيجة الأزمة التي كنا بدأنا نلمسها في الشهور التي سبقت بدء الاحتجاجات. ولا يقنعنّني أحد أنه نسي السبب المباشر لبدء الاحتجاجات: ضريبة محمد شقير "الواتسابية". ومع أنها لم تكن سوى شرارة، فإن رمزية هذه الضريبة كبيرة، لكونها تُمثّل لُبنة جديدة في الصرح الضريبي والمالي الذي يُبنى في لبنان منذ ما اصطُلح على أنه انتهاء حربه الأهلية.
لن أخوض في تفاصيل يُمكن الاطلاع عليها بسهولة، بل أكتفي بالإشارة إلى أن لبنان خضع، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، لسياسات مالية مستوحاة من مخطط بونزي الهرمي، هرم اقترب من الانهيار أكثر من مرّة ولم تُنقذه سوى أموال الدول المانحة. لكن الثمن كان تضخم خدمة الدين، لا بسبب بلوغه مستوًى هو من الأعلى في العالم (نسبة إلى الدخل القومي) فحسب، بل لأن أسعار الفائدة، وهنا لبّ الفساد المقونن، تبلغ أضعاف أسعار الفائدة العالمية.
أدّت هذه السياسات إلى تراكم الضرائب وضرب الاستثمار في القطاعات الإنتاجية بسبب ارتفاع مردود الديون السيادية وشبه غياب مخاطرها. فما الحلّ؟
لنفترض أننا تمكّنا من أن نوصل، غدًا، حكومة قادرة وصادقة وراغبة في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني. الحلّ المثالي يكون إذّاك في "استعادة الأموال المنهوبة". وصفة سحرية تُعيد إلى الخزينة بضع مئات من مليارات الدولارات كافية لسدّ الدين العام ما يؤدي إلى وقف التسارع في تزايده بسبب العجز الناجم عن تمويل خدمته ويمكن توظيف الفائض في الاستثمار. لكن هيهات!. أوّلًا لأن آليه استعادة هذه الأموال بالسبل القانونية طويلة ربما تمتد عقودًا وهي غير مضمونة النتائج. وثانيًا لأن جزءًا مهمًا من الأموال المنهوبة نُهب بوسائل قانونية، بقوانين سنتها ضربات مطرقة مجالس نيابية تعاقب نوّابه على رفع الأيدي منذ ما بعد الطائف. أمام هذه الصعوبة، لا بد من اقتراح حلول عمليّة مضمونة النتائج، من دون أن نترك قضية الأموال المنهوبة، بل من خلال العمل على هذا الملف بموازاة الإصلاحات المُلِحَّة.
إنّ ما حاولت الحكومة (المستقيلة أو المخلوعة) القيام به هو استدراج أموال مؤتمر سيدر (أو باريس 4) لتمديد صلاحية الفقاعة الاقتصادية. أما شرط ذلك، ففرض "إصلاحات" تهدف إلى خفض العجز في الموازنة عبر زيادة الضرائب وخفض النفقات، ما سيؤدي حتمًا إلى تباطؤ النمو بل إلى الانكماش ثم إلى انخفاض الإيرادات ميكانيكيًا علاوة على مفاقمة المشاكل الاجتماعية. ما نحتاج إليه والأزمة قائمة، ومع ولادة حكومة جديدة، هو زيادة الاستثمار الحكومي المجدي والتسهيلات الضريبية الموجَّهة والموجِّهة. أي تشجيع القطاعات الإنتاجية (الصناعة، الزراعة) وقطاعات يمكن أن يكون لبنان رائدًا فيها ولا تحتاج إلى موارد طبيعية ضخمة بل إلى موارد بشرية (التكنولوجيا الحديثة، التعليم، النشر الإلكتروني، البحث والتطوير). التسهيلات الضريبية في هذه الحالة مطلوبة وكذلك المساعدات المباشرة التي تُقدَّم إلى المستثمرين بشروط محددة (العمر، قطاع الاستثمار). أما الضرائب غير المباشرة (الضريبة على القيمة المضافة، مثلًا)، فتفرض على الفقير أن يُساهم في تمويل الدولة بنسبة من مدخوله أعلى من تلك التي يتكبدها الميسورون لأن إنفاقه على الاستهلاك أعلى هو نسبة إلى المدخول.
من الطبيعي، والحال هذه، أن تحتاج الخزينة إلى مورد مالي مختلف، نجده إما في القطاعات ذات الربح السريع أو ذات الربح الريعي، تلك التي لا تخلق فرص عمل. وثمة مبدأ آخر يجب احترامه لدى التفكير في إعادة صوغ السياسات المالية للدولة، وهي أننا، في لبنان، بحاجة إلى دولة رعاية اجتماعية أكثر من حاجتنا إلى دولة ألترا ليبرالية أوصلتنا إلى ما نعيشه اليوم (أزمة اقتصادية، تغوُّل المصارف، حلول الأحزاب الطائفية محلّ الدولة). ويجد مبدأ الرعاية الاجتماعية صداه في التضامن الاجتماعي، وهو ما يُترجم بضريبة دخل تصاعدية وضرائب على فوائد الودائع المصرفية الكبيرة وعلى الأرباح الريعية – وعمومًا تلك التي لا تخلق فرص عمل في لبنان - التي تتجاوز سقفًا معينًا. هذه الضرائب تشجع على الاستثمار في مشاريع فعلية. ولا بأس هنا من تقديم حوافز ضريبية لمن يستثمر في مشاريع ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية في الوقت نفسه.
وفي سياق التضامن الاجتماعي، لا بد من إصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: أولًا عبر تعزيز مكننته وجعله قادرًا على تغطية أتعاب الأطباء وأسعار الأدوية مباشرة، من دون أن يُضطر المضمون إلى الدفع مسبقًا. وثانيًا عبر تمويله، بموازاة الاشتراكات، من ضرائب تُجبى لحسابه وتُفرَض على منتجات وتصرفات تتسبب بمشاكل صحية: السجائر والمشروبات الكحولية والملوِّثات (المركبات الآلية والمصانع ومولّدات الكهرباء والمدافئ والمكيّفات...). النقطة الثالثة هي أن تشمل التغطية جميع المقيمين الشرعيين أيًا يكن وضعهم المهني وسنّهم. أما ذَوو الدخل المحدود، فعلى الدولة تولّي دفع اشتراكاتهم مما تجبيه على الأرباح الريعية. ولهذه الإجراءات فوائدها الاجتماعية والصحية، علاوة على فوائد اقتصادية منها تعزيز القطاع الاستشفائي بوصفه قطاعًا اقتصاديًا يوظف الأيدي العاملة، وزيادة إنتاجية المضمونين وتقليل تغيّبهم عن العمل.
من مظاهر التضامن الاجتماعي أيضًا، استحداث إعانة بطالة تُمَوَّل من اشتراكات الأجراء وأرباب العمل ومن الضرائب على الأرباح الريعية واستحداث فرع من الضمان الاجتماعي وظيفته تقديم مساعدات إلى المقيمين، كل بحسب تركيبة أسرته (عدد الأطفال أو الأشخاص المسؤول عنهم) والدخل الأساسي للأشخاص العاملين في الأسرة. وأرى من المجدي أيضًا بحث إنشاء صندوق للتقاعد تموّله اشتراكات العاملين حاليًا وأرباب أعمالهم على أن تموّل تقاعدَ الأجيال الحاليّة، الأجيالُ المستقبلية، وهو نوع من التضامن بين الأجيال.
إن المساعدات الاجتماعية هي نوع من إعادة توزيع الدخل من أجل مجتمع أكثر عدالة وبالتالي الابتعاد عن خطر وقوع اضطرابات داخلية. كما يشعر الفرد، والحال هذه، بأن تمكُّنه من الإنفاق على حاجاته الأساسية لا يخضع لإرادة ربّ عمله ولا لبقائه في وظيفة ولا حتى في مهنة بحد ذاتها، ما يحرّره ويعطيه فرصًا أكثر لتطوير الذات. لكن أثر إعادة توزيع الدخل يتعدى البُعد الاجتماعي إذ يحقق فائدة اقتصادية من خلال زيادة الاستهلاك وتنشيط الدورة الاقتصادية. في الواقع، كلما ازداد دخل الإنسان ازدادت نسبة ادّخاره وكلما نقص دخله ازداد نسبة استهلاكه. وفي لبنان اليوم، نحتاج إلى تشجيع الاستثمار والاستهلاك لتحفيز النموّ. وفي حين يشجّع خفضُ الفوائد الاقتراضَ للاستثمار، فإن تحويل جزء من "أموال الأغنياء" إلى "جيوب الفقراء" يزيد الاستهلاك.
من المفيد أيضًا النظر في تخفيف عدد ساعات العمل الأسبوعية ومنح الأجراء يومي تعطيل أسبوعي. هذا الأمر يزيد الإنتاجية ويتيح المجال أمام الفرد للاستهلاك. كذلك الأمر بالنسبة إلى إلزام الأجراء بالاستفادة من إجازاتهم السنوية كاملة، وإلزام أرباب العمل بتنظيم العمل على هذا الأساس. يُعوَّض عن ذلك بتخفيف أيام العطل الرسمية التي تعطّل البلد بدلًا من تنشيطه.
يجب أن يواكب كلَّ ذلك ضبطُ التهرب الضريبي عبر تشجيع التعاملات المصرفية (التحويلات، الشيكات، الدفع بالبطاقة المصرفية) وتشجيع المصارف على خفض عمولاتها ووضع سقف للدفع نقدًا.
إن لبنان اليوم أمام فرصة لإعادة بناء أسس الدولة والتوجه نحو الرعاية الاجتماعية والاقتصاد الإنتاجي. ولا ننسينَّ أن الحرب في سورية باتت على مشارف الانتهاء، وأن مرحلة إعادة الإعمار ستبدأ، بما يعنيه ذلك من نموّ اقتصادي مضطرد سينعكس على لبنان ويعوّض جزءًا مما فقده نتيجة سياسات مجرمي الحرب الأهلية وما بعدها. الشرط الوحيد هو أن يجيد هذا البلد التموضع عونًا لسورية لا مجرّد مستفيد مرحلي.
"Related Posts
كاتب وباحث لبناني