اليوم، وبعد تفجر الأزمة الراهنة، تبدو الحقيقة جلية في انتفاء "صيغة العيش المشترك" التي أسس اللبنانيون "طائفهم" عليها. الأزمة اللبنانية ليس نقدية فحسب، هي سياسية ونقدية في آن، وأما أن أحداً لا يصارح الناس بما نحن ذاهبون إليه، فإن من واجبنا لفت نظر المعنيين – إذا كان من أحد يود الالتفات – إلى ضرورة إيقاف طباعة ورقة الألف ليرة كورقة نقدية للتداول
أوقفوا طباعة ورقة الألف ليرة
يشهد لبنان انهياراً نقدياً جراء أزمة اقتصادية حادة أدت إلى انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية بنحو أربعين ضعفاً. وبالرغم من رفض حاكم مصرف لبنان الاعتراف بالكارثة، إلا أن سياساته، ومراسيمه الصادرة أفادت أمراً واحداً؛ أن الانهيار النقدي بات حتمياً، وأن مجمل سياساته تتمحور حول ضرورة أقلمة الشعب اللبناني مع الانهيار.
وبالرغم من طرح الخندق قبل نحو عامين ورقة المليون ليرة، كضرورة موضوعية يفرضها الانهيار النقدي، إلا أن أحداً لم يصارح اللبنانيين بهذه الحقيقة.
اليوم، صارت حقيقة الانهيار النقدي ماثلة بشكل لا لبس فيه، وإذا كان إنكار حاجة السوق إلى ورقة المليون ليرة هو عهد أهل السياسة في لبنان، فإن ما لا يمكن إنكاره هو الحاجة لإيقاف طبع ورقة الألف ليرة، كإجراء تقتضيه الضرورة، نظراً لتكلفة طباعتها التي تفوق قيمتها السوقية، وبالتالي. والحل الوحيد الماثل في الأفق القريب سيتمثل بضرورة شطب صفر من أوراق عملتنا في أقل تقدير.
ورقة الألف ليرة واتفاق الطائف:
كانت عملة الألف ليرة لبنانية علامة فارقة في تاريخ الأوراق المالية اللبنانية. فمضافاً لإصدارها أواخر الحرب الأهلية اللبنانية، تحديداً عام 1988، كانت أول عملة لبنانية تطبع صورة المصرف المركزي على أحد أوجهها باعتباره معلماً من معالم ثقافة لبنان ووجهه الحضاري.
في العمق كانت دلالة الصورة تفيد أمراً واحداً ليس إلا؛ لبنان ما بعد الحرب سيكون وطن المصارف ليس إلا. والمصرف المركزي هو مؤسسة الدولة الوحيدة التي تشي بأن "الصيغة اللبنانية" ما زالت قادرة على الاستمرار.
كان المصرف المركزي وصيغة الطائف المعطَّلة نقطة توازن العيش المشترك في لبنان. في العيش المشترك ذاك (وهو ما بدأت إرهاصاته منذ مؤتمر لوزان 1984) عاشت الدولة على التسليفات المقدّمة لها من المصرف المركزي. أوكل المناخ الإقليمي الواعد آنذاك للسياسيين اللبنانيين إمكانية استمرار صيغة "اللادولة" باعتبارها خيار الضرورة لوقف الحرب. هكذا عاش اللبنانيون وهم "الدولة" المرهونة للمصرف، المرهون بدوره للمصارف الخاصة، ومصالح الأوليغارشيا اللبنانية الصغيرة.
ما بعد اتفاق الدوحة 2008، كان الكل مدركاً لنهاية اتفاق الطائف سياسياً. كما كان الكل مدرك لأثر هذه النهاية على الاقتصاد الهش غير المأسوف عليه. وبالرغم من الطفرات النقدية المرحلية (بعيد أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة عام 2009) إلا أن مؤشر حجم الودائع كان سالباً على الدوام، أقله منذ عام 2013.
ليرتنا "بتسوى" فرنك؟
اليوم، وبعد تفجر الأزمة الراهنة، تبدو الحقيقة جلية في انتفاء "صيغة العيش المشترك" التي أسس اللبنانيون "طائفهم" عليها. الأزمة اللبنانية ليس نقدية فحسب، هي سياسية ونقدية في آن، وأما أن أحداً لا يصارح الناس بما نحن ذاهبون إليه، فإن من واجبنا لفت نظر المعنيين – إذا كان من أحد يود الالتفات – إلى ضرورة إيقاف طباعة ورقة الألف ليرة كورقة نقدية للتداول. إذ تتكلف الدولة اللبنانية على كل ألف مطبوعة من ورقة الألف (أي على كل مليون ليرة من ورقة الألف) قرابة الستين يورو، تدفعهم الدولة لصالح شركة "غوزناك" الروسية. وبالتالي، فإذا كانت طباعة عشر رزمات من أصغر فئة نقدية ورقية لبنانية قد كلفت 10% من قيمة الرزمة المطبوعة على سعر صرف الـ1500 ليرة للدولار الواحد. فإن قيمة طباعة مليون ليرة من ورقة الألف اليوم تبلغ ثلاثة ملايين وستمائة ألف ليرة بحسب سعر صرف العملة اللبنانية اليوم. والمفارقة أن أحداً لا يخبر اللبنانيين بالأمر، "والشعب غاشي وماشي".
Related Posts
صحيفة الخندق