Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لا مقرارات حول الأمن الغذائي العالمي، بالرغم من الاستنفار الدولي الناتج من مخاطر الحرب بين أوكرانيا وروسيا. في المؤتمر السنوي للجنة الأمن الغذائي العالمي (روما/ 10 - 13 تشرين الأول 2022)، انتهى المؤتمر دون بيان ختامي أو أية مقررات معالجة للأزمة.

مريم محمد

تقرير: عسكرة الغذاء وتلوينه

لا مقرارات حول الأمن الغذائي العالمي، بالرغم من الاستنفار الدولي الناتج من مخاطر الحرب بين أوكرانيا وروسيا. في المؤتمر السنوي للجنة الأمن الغذائي العالمي (روما/ 10 - 13 تشرين الأول 2022)، انتهى المؤتمر دون بيان ختامي أو أية مقررات معالجة للأزمة.

مطلع تشرين الأول الماضي، كنت قد وصلت إلى إيطاليا للمشاركة في المؤتمر المنعقد في مقر منظمة الأغذية والزراعة العالمية. ما يميز لجنة الأمن الغذائي العالمي هذه، حسب توصيفهم، أنها الإطار الوحيد في الأمم المتحدة الجامع لممثلين عن الدول والمجتمع المدني وغيرهم من كل أنحاء العالم. المؤتمر بهذا المعنى يتضمن آليةً للمجتمع المدني تجمع أقاليم، وجمعيات زراعية، وتجمعات للفلاحين والسكان الأصليين، ومؤسساتٍ تعنى بالسيادة على الغذاء، على مدار سنة كاملة، وفي إطار عمل مشترك حول "أكثر القضايا الغذائية إلحاحاً". يحمِّل المجتمع المدني مخرجات عمله إلى المؤتمر السنوي ليتوصّل مع ممثلي الدول إلى مقررات بيان موحّد. أنا عضو الهيئة التنسيقية لآلية المجتمع المدني أجد مفارقة لا بد من ذكرها. فالآلية يسيطر عليها "الغرب/ الشمال" بالكامل على حساب "الشرق/ الجنوب". هم يعشقون وجودنا معهم بألواننا المختلفة وأزيائنا "الفولكلورية" كـ"صورة للتنوع"، لكنهم يتمنون لو أننا لا نتقن الكلام والاعتراض.

عودة للمؤتمر. تملك الدول الصوت الأقوى في هذه التركيبة، إذ تستطيع دولة أو اثنتان إيقاف مسار كامل من العمل برفض بعض المصطلحات والموضوعات. فاللجنة تعتمد على التوصل إلى مقررات عبر التوافق الكامل بين الدول الأعضاء، وليس عبر التصويت. قانون الإجماع مثلاً، هو ما أسقط محاولة العديد من الحاضرين من المجتمع المدني حشر قضية "الشواذ" كأولوية بالنسبة للأمن الغذائي!. لقد رفضَت دول عدة الأمر، وهكذا سقط مؤقتاً مسار العمل المتعلق به. أما أنا، فكُنت قد قاطعت اجتماعات "آلية المجتمع المدني" التي سبقت المؤتمر بسبب رفع علم "الشواذ" في القاعة. رفضوا إزالته ورفضت متابعة الحضور. هكذا آثرَ "المجتمع المدني" بقاء علم لا يمت لقضية الغذاء بصلة على حضوري وشخصين آخرين في الاجتماعات، وتعرضتُ لضغوط هائلة من اللجنة المنظمة والمشاركين للقبول بالعلم والعودة إلى القاعة. عاد الجميع إلى الاجتماع تحت الضغط، وبقيت وحدي مصرّة على المقاطعة لمدة يومين، إلى أن أزالوا العلم في اليوم الثالث بعدما فشلوا في فرض الأمر علي. انعقد بعدها المؤتمر السنوي للجنة الأمن الغذائي العالمي وعُلّق دون مقررات.

لو دخلت موقع (CFS) الرسمي لن ترى لماذا أو كيف يُعلّق مؤتمر محوري عن الغذاء بهذا الشكل. كتبوا أن اللجنة "رفعت جلستها العامة الخمسين (CFS 50) للانعقاد في أقرب وقت ممكن..." لكن ما جرى واقعاً هو أنّ خلافاً بين روسيا والولايات المتحدة على جملتين في البيان الختامي أوقف كل شيء.

انعقدت أكثر من أربع جلسات جانبية في قاعة لبنان (للمفارقة) داخل مقر الفاو (الجلسات الجانبية تنعقد على هامش المؤتمر من أجل حل الخلاف)، استمر بعضها لساعات امتدت إلى ما بعد منتصف الليل لمحاولة التوصل إلى تسوية بين الولايات المتحدة من جهة، وبين روسيا من جهة أخرى. انقسم ممثلوا الدول بشكل تلقائي في القاعة الصغيرة. جلست الولايات المتحدة وحلفاؤها في جهة، وروسيا وحلفاؤها في الجهة المقابلة. أدارت الجلسات ممثلة جنوب أفريقيا بحضور بعض المراقبين من المجتمع المدني الذين كنت من بينهم.

أصر حلف الولايات المتحدة على إلقاء اللوم بشأن أزمة الغذاء الحالية بالكامل على "العدوان الروسي غير المبرر وغير الشرعي على أوكرانيا" في البيان والتوصيات. كأن الجوع لم يكن ينهش عشرات الدول، خاصة تلك التي اجتاحتها واحتلتها الولايات المتحدة، قبل تاريخ بدء الحرب في أوكرانيا. بالطبع، رفضت روسيا وبيلاروسيا التوصيف الأميركي، واعترضتا على المصطلحات غير المستخدمة سابقاً في منظمات الأمم المتحدة. اقترحتا اعتماد مصطلح "الصراع بين روسيا وأوكرانيا" أو "الصراع في أوكرانيا"، لكن ذلك لم يعجب الولايات المتحدة خبيرة الحروب، فمصطلح "الصراع" يوحي بالتكافؤ كما عبّر ممثلها.

اعترضت روسيا، ومعها بيلاروسيا وفنزويلا على حصر أزمة الغذاء العالمية الحالية بهذا، وأكّدوا أن الأزمة الحالية ما هي إلا امتدادٌ للأزمات السابقة ولسياقٍ متكامل من الصراعات، والتغير المناخي، وغيره على مدى عقود. كما أصرّوا على ذكر قضية العقوبات أو الإجراءات أحادية الجانب التي تفرضها بشكل أساسي الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروربي على روسيا ودول أخرى، وتشكل خطراً أساسياً وفعلياً على الأمن الغذائي للشعوب في دولهم.

رفض حلف الولايات المتحدة رفضاً قاطعاً أن يأتي البيان الختامي على أي ذكر لهذا الأمر. تدخلت اليابان أكثر من مرة بعد مداخلات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتؤكد على موقفهما وتؤيده. طبعاً، لا شيء جديد في هذا، وغازلت بلجيكا اليابان فيه. ثم انتفضت فجأة ممثلة نيوزيلندا في منتصف أحد الاجتماعات وبدأت تصرخ بوجه ممثلة روسيا، "أوقفوا الحرب. أوقفوا الحرب!" اندهش الجميع، حتى "حلفاؤها"، واعترضت روسيا فوراً مطالبةً بإنهاء الجلسة وأخذ النقاش إلى العلن في المؤتمر الرئيسي. لم تتوقف ممثلة نيوزلندا، أخذها حماس الشارع في القاعة، فصاحت بها ممثلة روسيا "أوقفوا العقوبات إذاً قبل هذا."

حاولت ماليزيا لعب دور الوسيط، وكانت الأرجنتين والبرازيل أقرب إلى روسيا من الطرف الآخر. لكن أحداً لم ينجح بإيجاد حل للموقف. فما لم يلتفت إليه أحد، أو ربما تناسوه عمداً من أجل استكمال مسرحية المجتمع الدولي، هو أنّ هذه هي الحرب الفعلية تُخاض الآن في كل الميادين المتاحة. عسكراً أو في قاعات "المجتمع الدولي" حول شتى القضايا، الأمر سيان. لن يتراجع أحدٌ هنا، أو يتنازل، أو تعنيه تسوية في أبسط المصطلحات وعلامات الترقيم (بالفعل نوقشت هذه أيضاً مطوّلاً)، طالما أن الدم على أرض المعركة العسكرية لا يزال يُسال. لقد جلس ممثلو الدول تلقائياً في طرفين، خندقين، كما على أرض المعركة، لأن هذه القاعة الصغيرة، هي أرض معركة أيضاً. نفس المعركة.

تقدمتُ بعد انتهاء الجلسة نحو ممثل الاتحاد الأوروبي حاملةً الورقة التي أعددتُها حول الأمن الغذائي في المنطقة العربية في ظل العقوبات والحصار والاحتلال. "ترفضون ذكر العقوبات مع أنكم تقتلون الشعوب يومياً بها." نَظَر إلى الورقة وقلّب فيها قليلاً ثم قال، "يجب أن تفهموا أننا نفرض العقوبات على روسيا من أجل لجم قدرتها العسكرية على الاعتداء وارتكاب جرائم الحرب." فأجبته، "ما العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة مثلاً، بعد اجتياحها أفغانستان والعراق، إلخ... من أجل لجم قدرتها العسكرية على الاعتداء وارتكاب جرائم الحرب؟" لم أذكر بعد حروبهم هم. صَمَتَ. دق مراراً وتكراراً بيده على الطاولة إلى جانبه. تنفس ونظر يميناً وشمالاً. ثم حرك رأسه موحياً أن لا جواب لديه. أمّا ممثل بريطانيا فرفض استلام الورقة أساساً وأشار إلى سكريتيره ليأخذها، وممثل الولايات المتحدة أخذها شارحاً أنه "متضامن" ويتفهم كل هذا، وأن ما يقوله هنا لا يمثل موقفه "الشخصي" بل هو ضحية ملزمة بحمل وتمرير موقف الكابنيت الأميريكي، ودعاني إلى اجتماع لـ"يسمع أكثر". وزعتُ عشرين نسخة على ممثلي أبرز الدول بالإضافة إلى رئيس اللجنة وكذلك مقرر الأمم المتحدة للحق في الغذاء، شارحةً عنها وعن أهمية ذكر قضية العقوبات في البيان الختامي لما لها من تأثير كبير على الأمن الغذائي.

غاب ممثلوا الدول العربية بشكل شبه تام عن الإدلاء بأي رأي أو موقف في أي بند تمت مناقشته. لم يحضر أحد منهم في الجلسات الجانبية، وغاب أغلبهم عن معظم جلسات المؤتمر الرئيسي. أمّا من تواجد منهم في جلسات المؤتمر (باستثناء السودان) فكان صمته سيد الموقف. وكأن ما من حروب لدينا، ولا أزمات مياه أو مناخ، ولا ملايين من الجياع في هذه البلاد المنكوبة.

هكذا إذاً رُفعت جلسات مؤتمر لجنة الأمن الغذائي التابعة للأمم المتحدة في "عز" أزمة الغذاء العالمية، لأن قضية الغذاء ساحة حرب، والغذاء نفسه أهم أسلحتها. والأزمة اليوم "كارثية" و"طارئة" و"عالمية" فقط لأنها مسّت أوروبا والولايات المتحدة. أما نحن مساكين وجياع الأرض، فحتى عندما يقرر المجتمع الدولي أخيراً فتح قضية قتلتنا لعقود وسط صمته وتآمره، نجد أننا لا نملك حتى جندياً واحداً يحارب من أجلنا فيها.

أعلنتِ اللجنة منذ أيام أنّ المؤتمر سيعاود الانعقاد أونلاين وحضورياً في 19 كانون الأول 2022، من أجل محاولة اختتامه كما يجب وتخطي الخلاف عبر إعلاء "مصلحة الشعوب".لكن أصوات المدافع على أبواب شتاء أوروبا لم تهدأ بعد. لذا، الـzoom أيضاً سيكون ساحة معركة.

 

كاتبة وناشطة لبنانية