Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

الحرية والمساواة والعلمانية والديمقراطية والتنمية، جميعها شعاراتٌ رأيناها وسمعناها طوال فترة الربيع العربي. أعادت سلسلة الثورات الملونة التي تغذّيها تأثيرات القوة الناعمة خلق تغييرٍ متوافقٍ مع الغرب والإمبريالية في الشرق الأوسط، وإن كانت شعوب منطقتنا تتوق بلا شك إلى هذه المطالب/الحقوق إلا أن مفهوم التحرّر يعني قبل كل شيء تحرير منطقةٍ ما من القوى الاستعمارية والإمبريالية التي تعيق تطور وتوحّد شعبٍ أُجبرَ على مقاساة الغزوات والدمار، فضلاً عن العقوبات المستمرة غير المبررة والقاتلة لعدّة أجيال متعاقبة

ميريام شراباتي

مسيحيون بلا هوية

"

الحرية والمساواة والعلمانية والديمقراطية والتنمية، جميعها شعاراتٌ رأيناها وسمعناها طوال فترة الربيع العربي. أعادت سلسلة الثورات الملونة التي تغذّيها تأثيرات القوة الناعمة خلق تغييرٍ متوافقٍ مع الغرب والإمبريالية في الشرق الأوسط، وإن كانت شعوب منطقتنا تتوق بلا شك إلى هذه المطالب/الحقوق إلا أن مفهوم التحرّر يعني قبل كل شيء تحرير منطقةٍ ما من القوى الاستعمارية والإمبريالية التي تعيق تطور وتوحّد شعبٍ أُجبرَ على مقاساة الغزوات والدمار، فضلاً عن العقوبات المستمرة غير المبررة والقاتلة لعدّة أجيال متعاقبة.

ومع صعود محور المقاومة وتفعيل دوره خلال الحرب على سوريا، طفا على السطح شعورٌ باليقين بتحقُّق النصر والتحرر، شعورٌ عابر للفئات الاجتماعية اشترك فيه قسم كبير من اللبنانيين رغم إدراكهم الثمن الباهظ الذي سيتعين على الشعب دفعه بالمقابل، وهو شعورٌ مشتركٌ بين فئات شعبية واسعة يمكننا القول بأنه خبا منذ زوال عبد الناصر، ثم عاد ليظهر بشكل خاصّ مع تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتجذر أكثر بانتصار لبنان على "إسرائيل" في حرب تموز 2006 حين فشلت "إسرائيل" في القضاء على المقاومة اللبنانية،  لكن برزت إشكاليةُ وسمِ محور المقاومة بالانتماء إلى أغلبية شيعية أو التحرك تحت قيادة شيعية، سواء في لبنان أو العراق أو اليمن أو سوريا أو إيران وهنا يجدر التركيز قليلاً على هذه الإشكالية في حالة "الكيان اللبناني".

أنهت تسوية الطائف الحرب الأهلية اللبنانية وأجبرت حكومة وشعب وقبائل لبنان على العودة إلى دستور النظام الطائفي الأولي، الذي قسّم حقوقهم بحسب انتماءاتهم الدينية، ففي لبنان لا توجد هوية وطنية محددة ومتفق عليها بشكل موحّد ولا توجد وسائل وقيم موحدة تُستخدم لتقرير وقياس ما إذا كانت الدولة الأجنبية تعتبر صديقة أم عدوةً بل حسابات ومشاريعٌ خاصة لمختلف الأحزاب والمذاهب والجماعات الدينية. لاحقاً استطاع الشيعة تجاوز خلافاتهم السياسية وصاغوا اتفاقاً ما أدى إلى توحيدهم نسبياً في الخيارات السياسية الكبرى، وبالتالي باتوا يُعرفون بـ"الثنائي الشيعي"، كذلك توحّد السنة نسبياً تحت زعامة رئيس الوزراء السابق والزعيم الاجتماعي السياسي رفيق الحريري حتى اغتياله في عام 2005 وحافظوا على هوية موحدة إلى حدٍ ما كمسلمين سُنة على الجبهة السياسية تحت مظلة عربية وغربية، لكن السنوات الأخيرة بدأت تشهد انقساماً واضحاً على الساحة السياسية السنية واختلافاً في الانتماء الخارجي للقيادات السياسية الاجتماعية المختلفة انعكاساً لحالة الانقسام الإقليمية بين المحور التركي والمحور السعودي الإماراتي، ومع ذلك بقيت غالبية هذه القيادات منحازةٌ بشكل عام إلى الخندق الأمريكي الذي يظلل كلا الطرفين، ما يجعل الطائفتين الاسلاميتين الأكبر منقسمتين أيديولوجياً بشكل واضح بين محور المقاومة وخياراته من جهة والمحور الأمريكي من جهة أخرى، فيما بدا المجتمع المسيحي عالقاً في طي النسيان، فالمسيحيون منقسمون إلى حد كبير ولم يوحّدوا أبداً تعريفاتهم للهوية الوطنية والولاءات الأجنبية، حيث لا يزال الجدل نشطاً جداً حول ما إذا كان المسيحيون اللبنانيون مسيحيين شرقيين أو عرباً أو حتى محض فينيقيين أو مجتمعاً يتماهى مع الكنيسة والحضارة الغربية الكاثوليكية. وبعيداً عن منطق المسيحيين المعادين للمقاومة والمتوجسين منها فإن توقيع مذكرة التفاهم بين زعيمي حزب الله وأكبر تيار مسيحي لبناني، التيار الوطني الحر، في اتفاق مار مخايل الشهير عام 2006  أدى إلى تفتيت هاجس الكثير من أتباع التيار الوطني الحر بأن حزب الله يخطط للقضاء على الوجود المسيحي في الشرق الأوسط وإقامة دولة شيعية، وبنتيجة ذلك خسر التيار الوطني الحر بعض أنصاره واكتسب بعض المؤيدين الجدد في مرحلةٍ كانت الحدود التي رسمتها سايكس بيكو لا تزال سارية المفعول سياسياً وعسكرياً، ولكن مع التطورات في سوريا – أي الدور الذي لعبه حزب الله في هزيمة الإرهاب إلى جانب الجيش السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي وغيرهم - بدأت حدود سايكس بيكو تتحول إلى وهم أكثر من كونها حقيقة وتعمّقت فكرة وحدة المسار والمصير بين سوريا ولبنان –على الأقل- بشكل كبير مع التحرير التدريجي للأراضي السورية، خصوصاً مع اندماج مقاتلين من مجموعات وجيوش مقاومة مختلفة في سوريا والعراق وتبادل الاستراتيجيات والخبرات. شهدنا تراجعاً غير مسبوق في النفوذ الأمريكي في المنطقة وصعود شكل من أشكال المقاومة الإقليمية، حيث لم تعد المقاومة محصورةً في لبنان بل بدأت تترابط أكثر مع فيلق القدس الإيراني والجيش العربي السوري والحشد الشعبي العراقي وحركة أنصار الله الحوثيين في اليمن وحركات المقاومة ف فلسطين، وبدأت تنمو خارج منطقة غرب آسيا عبر تحالفات وتفاهمات متباينة مع دولٍ كروسيا والصين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا...  ما أسهم في إعادة وضع التعريف الأصلي للتحرير الذي سعى إلى القضاء على آثار القوى الاستعمارية ومخلفاتها خلال الانتدابين الفرنسي والبريطاني.

رغم اعتراف العدو بهذا التطور غير المسبوق والرائد، تظلّ القيادة المسيحية في لبنان غافلة عن العالم الجديد الآتي، ولا يزال المسيحيون موهومين بفهمهم للبنان كأمّة وليس ككيان غير قادر على الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل، فتاريخياً، يرى الموارنة –وهم مركز الثقل المسيحي اللبناني- أنّ "لبنان الكبير" هو أبرز إنجازاتهم السياسية، وأنه لولا سيطرتهم لما كان لبنان كأمة ليوجد على الإطلاق، وهو تفسيرٌ صحيح جزئياً، باعتبار أن معظم المسلمين سعَوا إلى الوحدة مع سوريا في حضورها الطبيعي وليس حدودها الحديثة، لكن هذه العقلية والأنانية جعلت الشباب المسيحي ضائعاً ومشوشاً دون قيادة واضحة للارتباط بعقيدتها.  يظل التيار الوطني الحر هو الطرف الأقرب للمقاومة، لكن قيادة التيار ما تزال موهومةً في فهم المنعطف الحرج الذي يمرّ به العالم ومنطقتنا اليوم، وتستمر في اتخاذ قرارات خاطئة بناءً على تصورات موجودة سابقاً ونوايا لم يعد لها أساس. وبالتالي، ينتهي بهم الأمر إلى وضع رهانات خاسرة حتماً تتجلى في فشل قراءة التغييرات السريعة والواسعة من منظور تاريخي متعمق ومن منظور اقتصادي معاصر، بما يعنيه ذلك من إبقاء للمسيحيين خارج المشهد.

دور بطريرك أنطاكية وسائر المشرق يأتي بنتائج عكسية أيضاً فبينما يجب عليها أن تدعم وحدة أبنائها نراها تُميّز مسيحيي لبنان عن سواهم وتكاد تقتصر على هذا الكيان اللبناني وكأنّه جزيرة نائية، ورغم الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه وحدة مسيحيي سوريا ولبنان وفلسطين في تعزيز الوجود المسيحي في الإقليم، فإن بطريركيتنا ترفض التطرق إلى هذا الموضوع وتتجاهله. وهنا ينبغي تسليط الضوء على العديد من البطاركة والكهنة الذين استخدموا مناصبهم للدفاع عن الفقراء والضعفاء من جميع المشارب الدينية والقومية على أمل أن تستلهم قيادتنا بعضاً من شخصياتٍ كالبطريرك الأحمر في بيروت، البطريرك غريغوار حداد، الذي بذل حياته لإيجاد أرضية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين، ففتح باب المحادثات المسيحية الإسلامية إلى جانب الإمام الصدر وأنشأ العديد من الحركات العلمانية للشباب، لكنه قوبل بالتحذير والتهديد من قبل الفاتيكان، ونُقل من أبرشية بيروت إلى أبرشية "أضنا" الفخرية، دون أن يمنعه ذلك من الاستمرار في العمل الاجتماعي وتأسيس تيار المجتمع المدني مع مجموعة من الشباب العلماني، مثله في ذلك كمثل الأسقف السرياني الكاثوليكي هيلاريون كابوتشي الذي يعتبر مثالاً للقائد المسيحي الساعي لتحقيق المساواة وتحرير شعب هذه الأرض من كل احتلال استعماري، وقد نال بحق لقب حارس القدس لأنه عامل أتباع جميع الأديان والأقطار على قدم المساواة في دعوته للتحرير انطلاقاً من فهمه بأن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم بدون سيادة سوريا ولبنان وتحررهما من كل الوجود الاستعماري.

كثيرٌ من رجال الدين والقادة المسيحيين اتبعوا بيان لاهوت التحرير الذي ينص على أن "مشاركتنا النشطة إلى جانب العدالة والدفاع عن أضعف أفراد المجتمع لا تعني أننا نشجع الصراع، بل تعني أننا نحاول القضاء على جذوره العميقة، وهي غياب الحبّ". كيف يمكن للمسيحيين أن يختلفوا مع مثل هذا البيان؟ علاوة على ذلك، كيف يمكنهم أن يغضّوا الطرف عن بؤس المظلومين والضعفاء، وهم يدّعون طوال الوقت أنهم يتبعون تعاليم يسوع المسيح؟... لطالما لعب مسيحيو لبنان المجهولون دوراً في الدفاع عن الضعفاء، وإنه لأمرٌ مخزٍ أنهم لم يكونوا حاضرين للدفاع عن شعبنا في جميع أنحاء العالم العربي في السنوات الأخيرة. يجب أن تحدث ثورة مسيحية في الكنيسة لمساعدة المسيحيين على استعادة إرثهم الشرعي فبرأيي هناك فراغ في قيادة المجتمع المسيحي المشرقي ولا وجود اليوم لقيادة مسيحية يمكنها ضمان سلامة وأمن وازدهار رعيتها في القادم من السنوات ليس لغياب الكنيسة الكاثوليكية عن المنطقة بل لكونها أداة استعمارية لذا فإن طريق التحرر في بلادنا تكمن بتوحيد الجهود والعودة لاهوت التحرير الذي اعتنقه عدد من رجال الدين خلال فترة  الاستعمار الفرنسي. نشوء قيادة مسيحية متجذرة عقائديا بلاهوت التحرير، بغض النظر عن مرجعيتهم المذهبية، قد يوحد عدد كبير من المسيحيين التحررين الضائعين في فلك مقاومة ينتمون اليها بالفكر والروح ولكن من دون اي تمثيل شرعي وفعلي.

لطالما كانت مأساة الأقليات هي حاجتهم الدائمة للعمل جنباً إلى جنب مع الأقليات الأخرى. هل يستطيع أحد أن ينكر اليوم أن المسيحيين في لبنان والمنطقة أصبحوا أقلية؟ بغض النظر عن دين القائد الذي سيتولى قيادة التحرير وحمل الصليب؟ وبما أن تكلفة الحرية هي دوماً أضرارٌ جانبية، يجب على الثوريين المسيحيين أن يجدوا طريقة للتعريف عن أنفسهم في طريق التحرير هذا، لا كأقليات فقط بل أيضاً كعنصر اجتماعي جوهري في هذه المنطقة التي يمتد حضورها التاريخي لآلاف السنين... يجب أن نتذكر دائماً أن التاريخ قد أثبت أن زعيماً دينياً يمكن أن يقود ثورة نحو دولة علمانية.

"

كاتبة لبنانية