شكل خطاب السيد علي الخامنئي ظهيرة يوم الجمعة، 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، لحظة مفصلية في خطاب إيران تجاه الحرب الدائرة في المنطقة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فلأول مرة، يتحدث المُرشد عن المواجهة الشاملة وأن "عدو الشعب الإيراني هو العدو نفسه الذي يعادي الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين وغيرهم من شعوب المنطقة
إيران وحرب اللاخيار: تقدير موقف
شكل خطاب السيد علي الخامنئي ظهيرة يوم الجمعة، 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، لحظة مفصلية في خطاب إيران تجاه الحرب الدائرة في المنطقة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فلأول مرة، يتحدث المُرشد عن المواجهة الشاملة وأن "عدو الشعب الإيراني هو العدو نفسه الذي يعادي الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين وغيرهم من شعوب المنطقة... وأن مصير الجمهورية الإسلامية مرتبط إلى حد بعيد بمصير تلك الشعوب". كلام خامنئي لم يأتِ من فراغ، ولا معزولاً عن سياق عام شهدت فيه المنطقة تحولاً كبيراً على مدار العام المنصرم، الأمر الذي فرض على طهران تعاطياً مختلفاً بعد سلسلة الضربات التي تلقاها حلفاؤها.ا
***
بإمكاننا إرجاع الضربات المتتالية التي تلقاها حلفاء طهران في الأسبوعين الماضيين إلى سوء تقدير طهران للموقف السياسي في تل أبيب. راهنت طهران على وعود أميركية بوضع "سقف" لعمليات "إسرائيل" الجوية في لبنان، وبأن قواعد الاشتباك اللبنانية – الإسرائيلية محكومة بما تحدده المفاوضات مع واشنطن في مسقط وبغداد، إلا أن "إسرائيل" تجاوزت خط الرجعة في حربها على حزب الله، بعدما قامت بسلسلة من العمليات الأمنية والضربات الجوية في بيروت، الأمر الذي نسف أي محاولة احتواء "أميركية – إيرانية" للحرب.ا
عن طريق الخداع:ا
كان مسار المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن قد انطلق مع سعي واشنطن احتواء التصعيد في المنطقة عبر الوسيط الصيني بُعيد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. عملت واشنطن طوال العام المنصرم على التواصل غير المباشر مع طهران من خلال عدة مسارات. في كانون الثاني/ يناير شهدت العاصمة العمانية مسقط أولى اجتماعات الفريقين الإيراني والأميركي. حضر الاجتماعات مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك والمبعوث الأميركي لشؤون إيران أبرام بالي، أما من الجهة الإيرانية، فقد حضر كبير المفاوضين الإيرانيين "علي باقري كني" وفريقه. تبادل الطرفان الرسائل من خلال الوسيط العماني، وتناولت المحادثات مجموعة من القضايا، بما في ذلك البرنامج النووي الإيراني، وأمن البحر الأحمر، وخطوط التجارة العالمية في منطقتنا، بالإضافة إلى آفاق التصعيد بين "إسرائيل" وحلفاء إيران في غزة ولبنان. تكررت الاجتماعات في أيار/ مايو 2024، بعد شهر من الهجوم الصاروخي الإيراني الأول على "إسرائيل"، واعتبر الطرفان قناة عُمان، قناة تفاوض خلفية لضبط موازين الصراع وخفض التوتر، وقد شهدت عُمان ست جولات تفاوض غير مباشر بين الطرفين.ا
بالإجمال حرصت الولايات المتحدة وطهران على فصل مسار المفاوضات النووية ومسألة رفع العقوبات مع الدول الأعضاء في الاتفاق النووي، عن مسار "الحد من التوتر" في كل ما يخص العمليات الحربية ذات الصلة بطوفان الأقصى، فيما توقفت المفاوضات أو تباطأت، بعد شهادة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على أمل معاودتها في تشرين الثاني، بعد جلاء صورة الانتخابات الأميركية.ا
مؤشرات مُضلِّلة:ا
في الوقت الذي حاولت فيه الولايات المتحدة مد جسور التفاوض مع طهران من خلال القنوات الخلفية (قناة عُمان) كان الأميركيون يرسلون إشارات مطمئنة حول نيتهم الانسحاب من العراق، من خلال مفاوضات مباشرة مع الحكومة العراقية برعاية رئيس الوزراء العراقي نفسه، محمد شياع السوداني، منذ أواخر كانون الثاني/ يناير 2024. في الخلفية، قصد الأميركيون من خلال المفاوضات مع الجانب العراقي إعادة ترتيب أوراقهم في "بر الشام" بأسره، من خلال طمأنة طهران، إلى نية واشنطن جدوَلة انسحابها من العراق وسوريا، بدءاً من انسحاب القوات الأميركية من قاعدة عين الأسد في أيلول المقبل (2025)، وصولاً إلى الانسحاب من أربيل أواخر عام 2026، فيما تُعتبر المهلة الفارقة بين بدء الانسحاب وانتهائه، بمثابة "المتنفس" للأميركيين في حال اضطرارهم للمراوغة أو الالتفاف على الاتفاق.ا
في لبنان، حَرص كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون أمن الطاقة عاموس هوكشتاين، في زياراته المتكررة إلى بيروت، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 وحتى منتصف آب/ أغسطس 2024، على عدم تقديم أي مقترحات مكتوبة وملزمة من قبل الأميركيين، بل شابت زياراته أفكاراً عامة لحل يقوم على أولوية وقف إطلاق النار تمهيداً لعودة السكان على جانبي الحدود "اللبنانية - الإسرائيلية" (حسب تعبيره) إلى منازلهم، على أن يبدأ بعدها الطرفان اللبناني والإسرائيلي مشاورات ترسيم الحدود البرية وتطبيق القرار 1701، الأمر الذي حدا ببعض الصحافة اللبنانية إلى وصف زيارته منتصف آب/ أغسطس الماضي بـ"غير المفهومة".[1] حَرص هوكشتاين كذلك طوال تلك المرحلة على طرح مسألة التوتر بين لبنان و"إسرائيل" تحت سقف منع "حرب أكبر"، عاطفاً حديثه ذاك على حرص أميركي لإيصال شخصية توافقية إلى سدة الرئاسة. بمعنى آخر، لم يلعب هوكشتاين دور الوسيط في حل النزاع، بقدر ما لعب دوره كمبعوث يعبر عن تصوّرات أميركية للمسألة اللبنانية - بمعزل عن الحرب -، ما أوحى بأن المقاربة الأميركية للحل غير منفكة عن المفاوضات غير المباشرة مع طهران، وأن الولايات المتحدة تتطلع لحل شامل للمنطقة تهادن فيه طهران ولو مرحلياً.ا
رهانات خاطئة:ا
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، راهنت إيران على الضغط الدبلوماسي أولاً والفعل العسكري بنسبة أقل، من أجل إيقاف الحرب/ المقتَلة في غزة. عملت الدبلوماسية الإيرانية على إخراج حركة حماس بشيء من "1701 فلسطيني" (القرار 1701 هو القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن في آب 2006، والقاضي بإنهاء الأعمال العدائية بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي وببسط الحكومة اللبنانية سيطرتها على كامل الأرض اللبنانية، بالإضافة إلى تواجد قوات اليونيفيل جنوب نهر الليطاني). بالنسبة لطهران، كان في مخرج الـ"1701 الفلسطيني"، نوع من صيغة "رابح – رابح"، إذ يمكن لمثل هذا القرار أن يُخرج الإسرائيلي بصورة المنتصر أمام جمهوره، كما يمكن له أن يضمن بقاء حركة حماس كبنية وتنظيم في قطاع غزة الأمر الذي يحرم "إسرائيل" انتصاراً ماحقاً في القطاع، وليظل شبح السابع من تشرين/ أكتوبر 2023 يطارد أصحاب القرار في تل أبيب ويؤرق عيشتهم لسنوات، باعتباره إسفيناً يمخر وحدة "إسرائيل" وهيبتها.ا
بدا هذا التصور جلياً من خلال تصريحات المسؤولين الإيرانيين "المنفتحة على حل ما" طوال أشهر الحرب، ومن خلال التوتر المنخفض الوتيرة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، والتسخين المتدرج لكل من جبهتي اليمن والعراق. فيما بدت طهران أكثر اقتناعاً بإمكانية تحقيق هذه الصيغة بعد ليلة الرابع عشر من نيسان، مع مسارعة الولايات المتحدة لاحتواء التصعيد ومنع الانزلاق إلى "حرب أكبر" والضغط على نتنياهو من خلال المعارضة الإسرائيلية التي اعتقدت أميركا أنها يمكن أن تكون بديلاً أكثر طواعية من نتنياهو (ثمة اعتقاد أميركي بأن نتنياهو ظاهرة يمينية على سطح المشهد الإسرائيلي، يمكن اجتنابها أو اجتثاثها إن تطلب الأمر، فيما نتنياهو حالياً هو لب وقلب "إسرائيل").ا
وقد شاب هذه المقاربة خلل بنيوي لناحيتين: الأولى سوء تقدير العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، والاعتقاد أن "إسرائيل" ليست إلا بيدقاً أميركياً، لا تتحرك ولا تُقدم على شيء إلا بقرار أميركي (الأمر الذي يعني أن أي تسوية مع الأميركيين – أو أن أي وعود بتسوية -، لا شك ستُلزم تل أبيب). ومن ناحية ثانية، لم تقدّر طهران حقاً تأثير السابع من تشرين على المسألة الصهيونية برمتها. لقد أطلق هجوم السابع من تشرين العنان لـ"إسرائيل" لأخذ زمام المبادرة في ظل ارتباك أميركي واضح في منطقتنا، فاستطاع نتنياهو الإيغال بدم الفلسطينيين، ودمنا، في ظل عجز بنيوي أميركي عن إيقافه (فيما لو أرادت أصلاً الإدارة الأميركية إيقافه). فيما بدت "أنصاف الحلول" أمراً غيرَ مفكَّر به إسرائيلياً، ما ظهر من خلال اندفاع نتنياهو للذهاب إلى الحدود القصوى في مغامرته الحربية ضد شعوب منطقتنا بأسرها. ومن غير المؤمل أن ينكفئ نتنياهو بغير "لي ذراع" تعيد له فهم حدود الممكن، ومحدودية القوة.ا
أدى هذا الخلل في المقاربة إلى تشوّش في فهم طبيعة التصعيد الإسرائيلي وأهداف تل أبيب المرحلية من الاعتداءات المتكررة، وبالتحديد بين يومي الثلاثاء 17 أيلول/ سبتمبر (تاريخ تفجير أجهزة البايجر)، و27 أيلول/ سبتمبر 2024 (تاريخ اغتيال السيد حسن نصرالله). ففي الوقت الذي بادر فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي لشن هجوم جوي واسع مستهدفاً بنية حزب الله التحتية في العمق اللبناني (في الجنوب والبقاع)، نأى الإسرائيليون عن قصف الضاحية بشكل مركز طوال الأيام العشرة هذه، ما جعل سؤال عتبة الحرب معلقاً حتى مساء 27 أيلول/ سبتمبر. بمعنى آخر، أراد الإسرائيليون أن يبقى سؤال "هل نحن أمام عتبة حرب أم في أننا دخلنا حرباً شاملة؟" يراود قيادة حزب الله.ا
"إسرائيل" تخلع القفازات وتتوثب
كثيراً ما تستخدم الصحافة الإسرائيلية مصطلح "خلع القفازات". يُراد من خلال هذا المصطلح القول أن "إسرائيل" قررت الانقضاض على خصومها والنزول إلى ساحة المواجهة المباشرة. يفيد هذا المصطلح في وصف الحالة الإسرائيلية بين تاريخي 6 أيار/ مايو 2024 (تاريخ بدء دخول "إسرائيل" إلى رفح)، و30 تموز/ يوليو 2024 (تاريخ اغتيال قائد أركان حزب الله السيد فؤاد شكر). لقد انتقلت "إسرائيل" بين هذين التاريخين من حالة الحذر والترقب إلى حالة التوثب والانقضاض في مواجهة محور المقاومة بعدما أيقنت عدم رغبة طهران وحزب الله في المواجهة المفتوحة. ولعل نتائج التحقيق "المتسرعة" في حادثة استشهاد الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي عشية 19 أيار/ مايو 2024 (والتي خلصت سريعاً إلى عدم مسؤولية "إسرائيل" عن الحادثة) ما أعطى تل أبيب الدلالة الكافية على عدم نية المحور توسعة الحرب.ا
إيران على خط المواجهة: حرب اللاخيار
بإصرار نتنياهو على تغيير خارطة الشرق الأوسط والتخلص من المخاطر المحيطة بـ"إسرائيل"، تكون المواجهة الحتمية بين إيران وتل أبيب قد اتخذت سبيلها إلى الوقوع. عشية 30 أيلول/ سبتمبر 2024، وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي كلمة مقتضبة إلى الشعب الإيراني باللغة الإنكليزية، متوعداً فيه حكومة طهران، ومصير الأمة "الفارسية". لم تمضِ بضع ساعات على تحذير نتنياهو، حتى بدأت طهران بدك تل أبيب بمئات من الصواريخ البالستية. لقد أدركت إيران أن ثمة خديعة ما، تنصب لها ولحلفائها، مع إمهال الجانب الأميركي قرابة العام لوقف الحرب على غزة وإهماله الحرب وعدم وقفه للإبادة. المفارقة هذه المرة أن إيران تعي جيداً معنى انتكاسة حزب الله في حربه ضد "إسرائيل". فالحزب آخر قلاع إيران، في مواجهتها العالم، وأولها. وحرب التدمير الشامل التي تقودها "إسرائيل" عليه، تحتم انتقال إيران من دور المؤثر في الحرب إلى دور الفاعل، وهو ما عبّر عنه الولي الفقيه جيداً بالحديث عن المصير المشترك لكل شعوب المنطقة التي تواجه العدوان، "فعندما يرى ]شعب إيران[ العدوّ يستهدف شعباً آخر، عليه أن يعدّ نفسه ليكون شريكاً لذلك الشعب المظلوم والمُضطهد... وأن يتعاون معه حتى لا يحقّق العدوّ مبتغاه. إن نجح العدوّ هناك يعني انتقاله إلى النقطة التالية".[2] الأمر الذي يعني أن إيران باتت ترى نفسها التالي في الحرب الدائرة في كل من فلسطين ولبنان. كيف سينعكس الأمر على مجريات الحرب وأفقها؟. ربما هذا ما ستجيب عليه الساعات، وربما الأيام، المقبلة التي ستشهد تزخيماً نوعياً هذه المرة في طبيعة المواجهة في الشرق الأوسط. ا
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق