Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لا يمكن استقراء الواقع الاقتصادي اللبناني بمعزل عن علاقة الشرق بالغرب، كما لا يمكن قراءته بمعزل عن قوى الهيمنة ورؤيتها لمنطقتنا ومجتمعاتنا. من القرن السادس عشر إلى اليوم، تعيش المنطقة تشابكاً معقداً من بين الاقتصاد والسياسة.

جمال واكيم

كيف نقرأ الأزمة الاقتصادية اللبنانية؟

"

لا يمكن استقراء الواقع الاقتصادي اللبناني بمعزل عن علاقة الشرق بالغرب، كما لا يمكن قراءته بمعزل عن قوى الهيمنة ورؤيتها لمنطقتنا ومجتمعاتنا. من القرن السادس عشر إلى اليوم، تعيش المنطقة تشابكاً معقداً من بين الاقتصاد والسياسة.  في القرن السادس عشر حاربت الدولة العثمانية امبراطورية الهابسبورغ في شرق أوروبا. أيدت فرنسا العثمانيين. واكتسبت حقاً حصرياً في التجارة مع الدولة العثمانية. ترافق ذلك الحلف العثماني الفرنسي مع نسج علاقات وثيقة مع عدد من المجموعات الدينية من مسيحيي الشرق، من مثل كلدان العراق والروم الكاثوليك والموارنه والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك وغيرهم. فتعززت علاقات فرنسا الاقتصادية مع افراد من هذه الطوائف، مثلوا مصالحها في الشرق بصفتهم قناصل للدولة الفرنسية بدءًا من القرن السابع عشر.

أما مع حلول القرن الثامن عشر، فقد كان لدخول الدولة العثمانية في طور من الركود، بعد تحويل طريق وسط اسيا التجاري بعيداً عن أراضيها، أن تعززت المركنتالية المرتبطة بفرنسا في جبل لبنان. كانت الأديرة المارونية والكاثوليكية تلعب دور منظّم دورة الانتاج المركنتالي القائم على تصدير خيط الحرير إلى مصانع ليون، الأمر الذي أتاح لهذه الأديرة إمكانية تحقيق فائض مالي استفادت منه لتوسيع ملكيتها الزراعية، وهو ما استمر وتعزز في القرن التاسع عشر. نشوء لبنان الكبير

مع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت الدولة العثمانية قد ترهلت أكثر فأكثر ما سمح بتدخل القوى الأوروبية في شؤونها. في لبنان أدى تدخل القوى الخارجية إلى تفجر أحداث طائفية بين العامين 1840 و 1860، كان سبب الحرب الرئيسي، على الصعيد المحلي، تراجع أوضاع المقاطعجية التقليديين وتغلغل الرأسمالية الحديثة وتحويل بيروت إلى المرفأ الرئيسي في شرق المتوسط. نتيجة ذلك، انهار النظام القديم في جبل لبنان، وقام نظام المتصرفية في العام 1861.

توالت الهزائم العثمانية مع بداية القرن العشرين، حتى إذا ما انقضت الحرب العالمية الأولى فقدت الدولة العثمانية كل ما تبقى لها من ولايات في المنطقة العربية والتي قامت على انقاضها ماشريع انتجت دولاً وفقاً لما نعرفه اليوم.

أراد الفرنسيون لبلاد الشام أن تكون تحت سيطرتهم بما فيها حلب ودمشق ومنطقة الساحل وفلسطين والأردن. لكن تضارب المصالح بينهم وبين البريطانيين وبينهم وبين الصهاينة جعلهم يقبلون بهيمنة على لبنان وسورية بحدودهما الحالية. كانت بيروت قد اصبحت منذ عقود مركزاً لرأس المال الفرنسي في الشرق، وكانت الكثير من العائلات الكاثوليكية والأورثوذوكسية والمارونية المرتبطة برأس المال الفرنسي قد تمركزت في بيروت.

هنا تضافرت عدة عوامل لولادة لبنان الطائفي بهيمنة مسيحية منها:

  1. العلاقة مع فرنسا التي اعطت أفضلية للكاثوليك بمختلف أطيافهم لناحية الامتيازات الاقتصادية في بيروت.
  2. توسع ملكية الكنيسة والأديرة للارض في جبل لبنان وتدعيم موقع الكنيسة المارونية،
  3. أما ثالث العوامل فكان هيمنة عائلات في غالبيتها كاثوليكية ومرتبطة برأس المال الفرنسي على اقتصاد بيروت وجبل لبنان. هكذا ولد لبنانا مهيمناً عليه من الطائفة المارونية سياسياً ومن الطائفة الكاثوليكية اقتصادياً.

لبنان المستقل: في البدء كانت المشكلة

كانت إشكالية في "لبنان الكبير" أنه ضمّ مناطق ذات غالبية مسلمة إلى جبل لبنان، ما افقد مسيحيي الجبل التفوق العددي. مع حلول الأربعينيات من القرن الماضي، بدأت الطفرة النفطية في الدول العربية والتي سيتسفيد منها رأس المال الفلسطيني، والسوري المسيحي والسني. أبرز مثال على ذلك هو يوسف بيدس وروجيه تمرز وخطيب وعلمي وآل الشاعر والنمر وغيرهم. بالتوازي مع ذلك كان المهاجرون الشيعة إلى أفريقيا يعودون مع ثروات مكدسة ليشكلوا رأسمالاً شيعياً يطالب بدور.

مع السبعينات من القرن الماضي كانت الرأسماليات الناشئة تطالب بحصتها من النظام الرأسمالي اللبناني المهيمن عليه من البورجوازية المارونية – الكاثوليكية. وفي الوقت نفسه كان هنالك حالة تفجر اجتماعي نتيجة إهمال الريف من قبل الدولة ونزوح أعداد كبيرة من أبنائه إلى المدن نتيجة البؤس. بالتوازي مع ذلك كانت فرنسا قد فقدت دور الراعي للبنان في الأربعينيات وتلاها البريطانيون. ومع حلول الستينيات من القرن الماضي كان دور رأس المال الفرنسي قد تراجع في الاقتصاد اللبناني فيما كانت السبعينيات تشهد تغلغل النفوذ الاميركي في هذا البلد في مقابل سعي مصر وسورية والمملكة العربية السعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية إضافة إلى "إسرائيل" لانتزاع حصص فيه.

هذه العوامل أدّت إلى تفجر الحرب الاهلية اللبنانية في العام 1975، والتي كانت في جانب منها صراعاً على النفوذ بين القوى الآنفة الذكر، لكنها في نفس الوقت كانت صراعاً طبقياً بين البورجوازيات من جهة والطبقات الفقيرة والوسطى من ناحية أخرى. وبالمحصلة كُسرت الطبقة الوسطى والفقيرة في أوائل أيام الحرب نتيجة تضافر القوى الرأسمالية مع القوى الخارجية ضدها، وأيضا نتيجة القصور في المشروع البديل الذي طرحته القوى اللاطائفية. وقد شكلت مراحل الحرب المختلفة فصولاً من الصراع بين الرأسماليات المسيحية والسنية والشيعية والدرزية لرسم حصصها الاقتصادية والسياسية في النظام الطائفي.

بنتيجة هذا الصراع تم تعديل النظام الطائفي الذي سيشهد مثالثة سنية شيعية مسيحية مع لعب الدروز لدور بيضة القبان. وقد حلّ هذا النظام مكان الثنائية المارونية السنية التي شكلت محور النظام اللبناني حتى العام 1975. وقد ترافق ذلك مع توسع الرأسمال المرتبط بالبترودولار على حساب الرأسمال المرتبط بفرنسا. هذا ما يجعلنا نفهم ظاهرة رفيق الحريري. لكن القصور الأساسي في مشروع "الشيخ رفيق" كان في تصوره أن لبنان سيبقى يلعب دور صلة الوصل بين الرأسمال الغربي والمنطقة العربية. ولقد فات "الشيخ رفيق" أن السبعينيات والثمانينات شهدت صعود مدن تنافس بيروت على الدور التجاري الرأسمالي مثل دبي والدوحة ومسقط وغيرها. إضافة الى ذلك فلقد شهدت أوائل الألفية الجديدة تراجع الدور الفرنسي والأميركي وتحول مركز الثقل الاقتصادي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.

الأزمات الاقتصادية، ومصالح الطبقة السياسية:

في العام 1991 انهار الاتحاد السوفياتي بعد أشهر قليلة من ضرب العراق على يد الولايات المتحدة الأميركية. بعد ذلك بدأ الحديث عن "السلام" في الشرق الأوسط بين العرب واسرائيل. في هذا الإطار، كان لبنان قد خضع لتقاسم نفوذ سوري – سعودي – أميركي تم التعبير عنه باتفاق الطائف، وبنظام ترويكا الحكم الذي كان يتقاسم الحكم فيه المسيحية السياسية كحليفة للولايات المتحدة والسنية السياسية كحليف للمملكة العربية السعودية والشيعية السياسية كحليف لسورية ومن خلفها ايران، فيما تقف الدرزية السياسية في الوسط بين الكتل الثلاثة.

وكان على لبنان أن يتحضر للسلام مع اسرائيل وللشرق الأوسط الجديد الذي سيقوم، فكان إعلان رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عن خطة العام 2000 - التي كان من المفترض لها أن تحضّر لبنان لهذا الشرق الأوسط الجديد -. ووفقاً لهذا التصور كان من المفترض أن يكون لبنان صلة الوصل بين رأس المال الغربي والدول العربية. لذلك، سعت الحكومات المتعاقبة بعد العام 1992 إلى تحويل بنيويّ في الاقتصاد اللبناني لجعله يلعب هذا الدور المالي الخدماتي بتضخيم دور المصارف وتقليص دور القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية.

وبنتيجة الاستعجال في تحقيق هذا التحول جرى الاقتراض من الخارج ما أدى إلى ارتفاع دين لبنان من بضعة مليارات من الدولار في العام 1992، إلى ما يفوق المئة مليار دولار في العام 2019، بما يشكّل ضعفي الناتج المحلي القائم وهو من أعلى المعدلات في العالم. لقد كان رهان الطبقة السياسية اللبنانية أنه يمكن وفاء هذا الدين فور إقرار الشرق الاوسط الجديد وفقاً لمبدأ الأرض مقابل السلام.

لكن ما لم يقله الأميركيون للعرب، ومن ضمنهم اللبنانيون، هو أن هذا السلام في الشرق الأوسط سيؤدي إلى تغيير جذري في خريطته السياسية عبر تقسيم الدول العربية وإعادة رسم حدودها، خصوصاً في منطقة المشرق العربي، أي لبنان وسورية والعراق والأردن وفلسطين المحتلة. لقد تبدّت النوايا الأميركية جلية بعد غزو العراق عام 2003، وبعد تسببها باندلاع الأزمات في العالم العربي منذ عام 2011 إلى اليوم، ومن ضمنها الأزمة السورية. وكان من ضمن وسائل الهيمنة الأميركية على الدول العربية، ومنها لبنان، إغراقها بالديون، وهذا كان سبب تسهيل حصول لبنان على القروض حتى يصبح مطواعاً لأي طلبات أميركية مهما تكن مؤلمة.

مؤخراً جرت تطورات في المنطقة جعلت آمال الولايات المتحدة تخيب في تحقيق ما تريد في الشرق الأوسط بعد صمود سورية في مواجهة محاولات إسقاطها. فالدولة السورية استطاعت بعد العام 2015 استعادة سيادتها على معظم أراضيها، باستثناء منطقتي شرق الفرات وإدلب. وقد جاء ذلك في الوقت الذي شعرت فيه الولايات المتحدة أن موازين القوى العالمية بدأت تميل بقوة لغير صالحها وأن الوقت ليس في صالحها. لذلك اندفعت لتصفية القضية الفلسطينية عبر إقرار صفقة القرن والتي لا ينال الفلسطينيون بموجبها دولة في الضفة الغربية وغزة. كما سارعت من قبلها لإعلان اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، واعترافها بسيادة "اسرائيل" على الجولان المحتل والضفة الغربية، ولم يبق أمامها غير قبول لبنان بتوطين الفلسطينيين وترسيم حدوده البرية والبحرية وفقا للمطالب الاسرائيلية.

تحديات جديدة:

مع الحديث عن قيام حلف وتكامل اقتصادي بين إيران والعراق وسورية، ظهرت الحاجة لدى الولايات المتحدة لتحويل لبنان إلى عثرة في وجه هذا المحور الأوراسي لمنعه من الوصول الى شرق المتوسط. من هنا جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو إلى لبنان (في آذار 2019) للطلب من القيادة اللبنانية عزل حزب الله وقبول التوطين. إذ تبغي واشنطن من وراء ذلك توطين اللاجئين السوريين أيضاً في لبنان لتقوم بتحول ديمغرافي في هذا البلد الذي ستصبح غالبيته من المعادين للدولة السورية ما يساهم في خلق هذه العثرة أمام المحور الاوراسي.

خلال زيارة بومبيو، رفضت القيادة اللبنانية، أو اقله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ووزير خارجيته جبران باسيل الضغوط الاميركية، هنا لجأت الولايات المتحدة إلى الضغط على الاقتصاد اللبناني الذي يمر في مرحلة حرجة. فسلام الازدهار الموعود لم يأت، وبالتالي لم تستطع الدولة اللبنانية سد ديونها. وحتى النفط والغاز الذي تم اكتشافه لم يستخرج بعد، ولا تزال الأسئلة تراوح حول المدى والكم المسموح باستخراجه، نتيجة ضغوط مارستها الولايات المتحدة على الشركات الأجنبية التي أزمعت الاستثمار في لبنان وذلك حتى لا يستطيع هذا البلد الوفاء بديونه ويبقى رهينة في أيدي الولايات المتحدة.

مقررات مؤتمر سيدر التي تفرض قيوداً على الاقتصاد اللبناني وعلى الانفاق العام لمعالجة أزمة تراكم الدين جاءت في هذا السياق. ولأن البلد تسيطر عليه طبقة من المضاربين الماليين والعقاريين، فلقد رفضوا أي فرض للضرائب على أرباحهم من المضاربات. والمشكلة أن من ضمن من رفض فرض الضرائب على كبار المضاربين الماليين التيار الوطني الحر بزعامة الوزير جبران باسيل الذي وقف في صف تيار المستقبل بزعامة رئيس الوزراء سعد الحريري وغيرها من أحزاب السلطة اللبنانية التي تعبر عن مصالح هؤلاء الرأسماليين.

فالتيار الوطني الحر بزعامة باسيل تبنى سياسات تراعي مصالح الطبقة المالية والتجارية المهيمنة في لبنان بعد وصوله الى الحكم. وقد عبر عن ذلك بتحالفه مع سعد الحريري من جهة، وبترشيحه لكبار الرأسماليين على لوائحه في الانتخابات النيابية الأخيرة مثل زعيم الكارتيل النفطي نقولا شماس، وثري الحرب سركيس سركيس، والصناعي الملياردير نعمة افرام وغيرهم. في المقابل خرج من صفوف التيار ممثلو الطبقة الوسطى الذين ناضلوا طوال ثلاثة عقود في ضفوفه مثل الدكتور بسام الهاشم، والمحامي انطوان نصر الله، ولواء شكور، ونعيم عون وغيرهم. من هنا فإن إعلان العزم على اقتطاع معاشات الموظفين وذوي الدخل المحدود جاء على لسان باسيل نفسه.

أما الآن فلبنان بات أمام أزمة اقتصادية قد تصل في حدتها إلى مستوى أزمة اليونان، لكن نتيجتها قد تكون تدمير البلد بشكل كامل تنفيذاً للمشاريع الاميركية. 

"

باحث وأستاذ جامعي لبناني