Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

دخلت القوات العسكرية الأميركية أفغانستان عام 2001 عقب هجمات الحادي عشر من أيلول. حينها كانت أفغانستان تعاني من انعدام الاستقرار بسبب عقود من الحرب والفقر والدمار. أُضيف الى ذلك المزيد من الخراب بعد أن شنّ الجيش الأميركي حربه على أفغانستان تحت اسم 'عملية التحرير الدائمة'""

منى شحادي

عشرون عاماً من نشر الحرية... والفساد

"

مقدمة:

دخلت القوات العسكرية الأميركية أفغانستان عام 2001 عقب هجمات الحادي عشر من أيلول. حينها كانت أفغانستان تعاني من انعدام الاستقرار بسبب عقود من الحرب والفقر والدمار. أُضيف الى ذلك المزيد من الخراب بعد أن شنّ الجيش الأميركي حربه على أفغانستان تحت اسم "عملية التحرير الدائمة"، والحجة كانت تخليص أفغانستان من الإرهاب ونشر الحرية والديمقراطية الأميركية. لم تُحقق القوات الأميركية هدفها المزعوم بنشر الحرية، كما بتنا كلنا نعرف، بل أضافت المزيد من الخراب والدمار وساهمت عبر سياساتها بإضافة عامل جديد على أفغانستان المنكوبة وهو "الفساد".

لا يمكننا النظر إلى دور أميركا في إيصال مسؤولي أفغانستان إلى السلطة في وتمويلهم وحمايتهم، دون تحميل الولايات المتحدة على وجه الخصوص المسؤولية عن الفساد الذي بات يتحكم بكل مفاصل الدولة الأفغانية.

إن ضخّ المليارات من الدولارات في السوق الأفغانية من دون وضع لوائح تنفيذ، سن قوانين وتطبيقها، وغياب الرقابة الفعّالة، وترك المسؤولين عن البلاد بلا إشراف مع الكثير من الأموال ساهم في تمكين الانتهازيين من ملء هذا الفراغ، مما أدى إلى ازدهار اقتصاد فاسد يقوده أمراء الحرب بالإضافة إلى اقتصاد موازي لاقتصاد البلد تقوده في الظل المنظمات غير الحكومية الممولة أميركياً.

تحكّم الفساد إذاً من الدولة الأفغانية والمجتمع المدني، فأصبحت الدولة الأفغانية رخوة غير قادرة على فرض نفسها كسلطة حازمة لقيادة البلاد. يُسمي جلال أمين، المفكر الاقتصادي المصري هذه الظاهرة بالدولة اللينة، وهي دولة تمرر القوانين ولا تطبقها. ويمكن للنخب فيها أن تتجاهل القانون لأن سلطتها تحميها منه، بينما يدفع آخرون رشا العمل فيه. ببساطة، لقد تم وضع القواعد ليتمّ كسرها وإثراء من يُخالفها. فيما أصبح أي منصب عبارة عن نفوذ لمكاسب شخصية.

في أفغانستان، شكل ضعف الدولة هذا مع تدفق المساعدات، وتركيز الطرف الأميركي على التعامل مع الأشخاص الذين "ينجزون" بغض النظر عن جودة عملهم وفعاليته، الخلطة المثالية لنمو الفساد على كل المستويات. في الفقه الأميركي المعاصر، يسمى هذا المبدأ "التجاهل الواعي"، أو "العمى المتعمد". ويُعتبر هذا الفعل علامة على النية الإجرامية. يشرح ويليام باجولا، وهو كان محامياً وعالم دين انجليزي من القرن الرابع عشر، هذا التجاهل قائلاً "إن من يسمح بحدوث أي شيء يكون قادراً على إعاقته، على الرغم من أنه لم يفعل ذلك بنفسه، فقد ارتكب الفعل فعلياً طالما سمح بحدوثه".

 

أمراء الحرب، حلفاء أميركا:

شكلت مليشيات أمراء الحرب، القوات المسلحة المنظمة والصديقة مع دخول الولايات المتحدة إلى أفغانستان. ومع ما يقرب من مليار دولار لتمويل العمليات، قامت وكالة المخابرات المركزية بتوجيه الأموال والطعام والذخيرة ووسائل الدعم الأخرى إلى أمراء الحرب وميليشياتهم. فعملت فرق صغيرة من وكالة المخابرات المركزية المشتركة جنباً الى جنب مع  قوات العمليات الخاصة الأميركية مع الميليشيات لقتل وطرد القاعدة وطالبان.

كانت مليشيات التحالف الشمالي تقاتل طالبان منذ سنوات. وفي الوقت نفسه، ارتكب أمراء الحرب ورجالهم انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان ضد إخوانهم الأفغان، لا سيما خلال الحرب الأهلية المدمرة بين عامي 1992 و1996. هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية كانتا قد وثّقتا كل الهجمات العشوائية على المدنيين، وتلخص توثيقهم باستهداف الميليشيات المتعمّد للمدنيين والقتل والاختطاف والاغتصاب والسخرة ونهب المنازل. بالإضافة إلى فظائع حقوق الإنسان، تورط أمراء الحرب أيضاً في سلوكيات فاسدة كالاتجار بالمخدرات وتهريب الأسلحة والاستيلاء على الأراضي بشكل غير قانوني. ما بعد عام 2001، انتشرت هذه الأنشطة نفسها وأصبحت أمثلة رئيسية على الفساد.

وفقاً لأحد كبار مستشاري وزارة الدفاع الأميركية السابقين، كانت استراتيجية أمراء الحرب تكمن في هندسة سلسلة من الصفقات مع الولايات المتحدة يوافقون بموجبها على تسريح جيوشهم الخاصة مقابل نوع من الدور السياسي في الحكومة، وأشار مسؤول سابق في الأمم المتحدة إلى أن العديد من أمراء الحرب أنشأوا شركات أمنية خاصة وحافظوا على ميليشياتهم كجزء من هذه الشركات التي استخدمتها قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بعد ذلك. كما زاد الطلب على قوات الأمن الخاصة من خلال عقود البناء والنقل.

ومن الأمثلة التي يُستشهد بها كثيراً هو أحمد والي كرزاي، الأخ غير الشقيق للرئيس كرزاي والعضو البارز في العائلة، الذي بنى "إمبراطورية قوية" في مقاطعة قندهار من خلال تطوير السيطرة والتأثير على قوات الأمن الخاصة والشركات المتعاقدة والعقارات.

شكل والي كرزاي تحالفات مع رجال أقوياء كانوا يسيطرون على طرق العبور والشبكات التجارية والعسكرية. ومن خلال وصوله إلى الإدارة في كابول، تمكن والي من السيطرة على حكومة قندهار الإقليمية والمحلية. وكانت النتيجة أن السكان المحليين رأوا الحكومة على أنها أوليغارشية حصرية مكرسة لإثرائها وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحالف الدولي.

أفاد العديد من الصحفيين أن والي كرزاي كان أحد الأصول المدفوعة لوكالة المخابرات المركزية لسنوات. على الرغم من الاشتباه في تورطه في تجارة الأفيون والاستيلاء على الأراضي وغيرها من الأنشطة غير المشروعة، فقد تم اعتباره شريكاً أمنياً حيوياً. وكان هناك القليل من الشهية داخل وكالة المخابرات المركزية لمحاسبته.

 

لصوص الدولة:

يوثق كتاب سارا تشايس الذي تم نشره عام 2015 تحت عنوان "لصوص الدولة" التأثير المدمّر للفساد في عدة دول في إفريقيا وآسيا. لقد استندت تشايس في كتابها على تجربتها في أفغانستان حيث عاشت  لسنوات قبل أن تصبح مستشارة للبنتاغون ورأت كيف دفع الابتزاز الكبير الذي تمارسه الحكومة المدعومة أميركياً الناسَ ليرتموا في أحضان طالبان. تُحدثنا تشايس في كتابها عن إحدى تجاربها في قندهار. كان الوسيط الذي يهتم بمساعدتها في مشاريعها الإنمائية شخصاً، يُدعى عبد الله، أطلق على نفسه إسم مهندس، وقد أوصى به الأخ الأصغر غير الشقيق للرئيس كرزاي، أحمد والي، مادحاً إياه قائلاً: "إذا وضعت مليون دولار في مخزن وأعطيت عبد الله المفتاح، وعدت بعد عشر سنوات، سأجد كل قرش من هذه الأموال لا يزال محبوساً في الداخل".

أواخر عام 2002، تشرح تشايس أنها اضطرت لمغادرة قندهار في رحلة مطولة للمحادثات والاجتماعات في الولايات المتحدة. قبل أن تترك عبد الله مسؤولاً عن المنظمة غير الحكومية التي كانت تديرها. شرحت له طريقة إدارة المصاريف المالية من خلال تحديد تاريخ صرف مبلغ معين والغرض من صرفه على ظرف أعطته إياه، وطلبت منه تدوين كل المعاملات التي ستجري أثناء غيابها. لكنها عادت، بعد عدة أسابيع، ولم تجد علامة واحدة جديدة على ظهر ذلك الظرف الفارغ. لم يسلّم عبد الله إيصالاً واحداً، ولا سجلاً لعملية شراء واحدة. تقول تشايس: "كنا نبني الفصول الدراسية. لقد قام عبدالله بتوصيل طوب ورمل وجبس، ودفع أجوراً نقدية أسبوعية، واشترى الطعام الذي أعده طباخنا لموظفينا... ابتلعت ذعري، وطلبت إيصالات، لكن لاشيء". تضيف تشايس أنه وبعد سنوات، روى لها موظف تعليقات عبد الله الساخرة حول "المحاسبة الغربية"، و"المحاسبة الأفغانية"، كما أنها سمعت قصصاً مؤلمة عن موردين لم يتقاضوا رواتبهم. أعادت النظر  في الأسباب المحتملة لعدم إنجاز أي من المشاريع المخطط لها بشكل تام. وفي كل مرة كانت تطرح أسئلة حول عدم جدية الحكومة الأميركية وحلفائها الأفغان في محاربة الفساد، وعن دور الولايات المتحدة في إيصال مسؤوليها الأفغان إلى السلطة وتمويلهم وحمايتهم كانت تأتيها الإجابة من رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايك مولين قائلاً: "أنا أتصل بالأمهات. لا أريد أن أتصل بأمك". حينها فهمت أنها كانت شريكاً في الاحتيال.

 

فساد المنظمات غير الحكومية:

يشير العديد من المسؤولين والخبراء الأميركيين السابقين، الذين أمضوا وقتاً في أفغانستان، للمشاكل المنهجية المتعلقة بطريقة تقديم المساعدة. وصف مسؤول أميركي كبير سابق كيف أن مكتب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في كابول لم يكن لديه القدرة على إدارة العديد من المشاريع الصغيرة لأن كل منها استغرق وقتاً طويلاً مثل مشروع واحد كبير. وكانت النتيجة أن العقود الكبيرة ذهبت إلى المقاولين الكبار، الذين تعاقدوا ضمنياً مع شركات أصغر، تعاقدت بدورها مع المنظمات غير الحكومية الأفغانية، ومع المقاولين المحليين. وفي كل هذه التعاقدات كان يذهب حوالي 20% من الأموال المخصصة لأي مشروع كرُشاً. كانت آلية العمل كالتالي: يمكن للمهندس المحلي المعين لتنفيذ المشروع تضخيم ميزانيته، هو يعلم أن الجميع تحت ضغط إنفاق الأموال. هو يحصل على مواد من الدرجة الثانية، لأن أحداً لن يقوم بفحص العمل (أو من المحتمل أن يدفع للمفتشين). يوظف عائلته للقيام بهذا العمل. بالمحصلة، سيتم تقييمه هو وكل متعاقد آخر على أساس عدد المشاريع التي ينجزها، لا جودة المشاريع. هذا هو المقياس المطلوب في واشنطن. فقط، قُم بإنجاز المشروع حتى تتمكن من الحصول على العقد التالي. أعرب السفير رايان كروكر عن أسفه لفقدان كمية هائلة من المساعدات في ظل ضغوط الإنفاق بسرعة قائلاً: "لطالما اعتقدت أن كرزاي لديه وجهة نظر مفادها أنه لا يمكنك وضع هذه المبالغ المالية في دولة ومجتمع هشين للغاية، وألا تجعلها تغذي الفساد. لانه سيكون لديك فساد يؤطر كل شيء تقترح القيام به، من حيث التنمية وإعادة الإعمار، ...وإذا حاولت القيام بذلك، فلن يكون هناك أسئلة تتعلق بالقدرة فقط... بل ستؤجج الفساد حتماً على نطاق واسع".

مسؤول أميركي سابق آخر تحدث عن نفس المشاكل. قال كيرك ماير، الذي خدم في أفغانستان خمس سنوات وأدار خلية تمويل مكافحة الإرهاب، أنه بينما كان المقاول المحلي يتلقى المال لبناء مشروع، لم يكن لديه ما يكفي من المال لبناء الطريق، ودفع الرشوة لطالبان، ودفع الـ20% للمسؤولين الفاسدين في كل مشروع تنموي. لذلك، في الأساس، لم يقم المقاولون ببناء المشاريع أو قاموا ببنائها بشكل رديء. ولأن المشاريع كانت في مناطق متنازع عليها، لم يتحقق أحد مما إذا كانت قد بنيت واذا كانت فعلاً تؤدي وظيفتها المخططة لها. كان على المسؤولين الأميركيين تقييم مقدار رأس المال السياسي للاستثمار في الضغط على الحكومة الأفغانية بشأن الفساد مقابل السعي لتحقيق أهداف أخرى؛ كان هناك قلق من أن الضغط الشديد على الفساد قد ينفر كرزاي ويعرض تعاونه للخطر في القضايا الأمنية. لذا قام المسؤولون الأميركيون بغضّ النظر عن هذا الحجم الهائل للفساد.

 

خاتمة:

ساهمت الولايات المتحدة في نمو الفساد من خلال ضخ عشرات المليارات من الدولارات في الاقتصاد الأفغاني، باستخدام الرقابة الخاطئة وممارسات التعاقد، والشراكة مع سماسرة النفوذ الفاسدين. وعندما اعترفت الولايات المتحدة بالفساد كتهديد استراتيجي، كانت الأهداف الأمنية والسياسية تتفوق باستمرار على الإجراءات القوية لمكافحة الفساد.

باختصار، أن التوافق السياسي ساعد في تحييد بعض أمراء الحرب. لكن العديد من الخبراء والمسؤولين الأميركيين يعترفون بأن هذا الدعم المبكر والمستمر لأمراء الحرب أضر في نهاية المطاف بالسلام والاستقرار على المدى الطويل في أفغانستان. من خلال إضفاء الشرعية على أمراء الحرب بالدعم السياسي والمالي، أسست الولايات المتحدة لاستمرار إفلات الفاسدين من العقاب، وضعف سيادة القانون، وتنامي الفساد. على الرغم من إدراك الوكالات الأميركية لمخاطر التحالف مع أمراء الحرب، لكنها لم تفعل شيئاً حيال ذلك. كما أنها ساهمت من خلال تمويل المجتمع المدني عبر المنظمات الغير حكومية، بتفاقم الفساد على مستوى المجتمع المدني كذلك.

في محادثة أوائل عام 2013 في بروكسل، وصف مسؤول مجريٌّ في الناتو ما كان يجري في أفغانستان، والعمل في أوروبا الشرقية بعد سقوط الستار الحديدي، بالعملية المتطابقة. وأوضح أن مروجي الديمقراطية الغربيين يُبعثون إلى بلاد معينة مع القليل من الخبرة أو الحدس للديناميكيات المحلية، ثم يتم القبض عليهم من قبل النشطاء السياسيين المحليين الذين يروجون لأنفسهم، والذين تعلموا التحدث بلغتهم، وتوصلوا إلى كيفية التعبير عما يتوقع الغربيون سماعه. ويكون هدف هؤلاء النشطاء السياسيين هو الاستيلاء على السلطة بدلاً من استيلاد الديمقراطية. هم يلعبون وفق قواعد اللعبة الجديدة بشكل جيد لفرض قبضتهم على السلطة.

لا عجب لماذا فقدت فكرة الديمقراطية مصداقيتها جيلاً بعد جيل حتى صرنا نجد الكثير من الشباب يطالبون بمجيء "ديكتاتور صالح" لتحقيق سيادة القانون، وقليل من العدالة الاجتماعية. كما أنه لا عجب كيف أن عشرين سنة من نشر الحرية والديمقراطية في أفغانستان كانت نتيجتهم فساداً على امتداد البلاد.

"

كاتبة لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية.