Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

عبر التاريخ الأميركي، كان التحول فى صورة الآخر ــ الفرد، والآخر ــ الفئة، نمطياً بشكل مبتذل. فالآخر دوماً يبدو فى البداية كائناً غير آدمي بسلوكيات غير عقلانية، أو كما وصفت وثيقة الاستقلال الأمريكية السكان الاصليين 'همجيون منعدمي الرحمة'"."

أحمد حاتم

سجن الأمم: العنصرية نمط استغلال أميركي (2)

"

عبر التاريخ الأميركي، كان التحول فى صورة الآخر ــ الفرد، والآخر ــ الفئة، نمطياً بشكل مبتذل. فالآخر دوماً يبدو فى البداية كائناً غير آدمي بسلوكيات غير عقلانية، أو كما وصفت وثيقة الاستقلال الأمريكية السكان الاصليين "همجيون منعدمي الرحمة".لا تبدو الستينيات والسبعينيات لحظة من لحظات استيعاب أميركا لخطيئتها وتجاوزها العنصرية، إنما مجّرد حلقة في سلسلة تطوير آليات الاستغلال. فبعد الحرب العالمية الثانية توسّعت أميركا عبْر الأطلنطي، مما سمح لها تحميل كمّ أكبر من التكلفة لشعوب الدول المستعمرة سابقاً. تطلّب ذلك فرض شروط التبعية أولاً بالقضاء على حركات التحرر الوطني، وثانياً بدعم الكتل الرجعية. وفّر هذا للمشروع الأميركي صورة مناسبة للآخر يسقط عليها كل ما تعلّمه عن العنصرية وتسمح بدمج بعض العناصر الداخلية فى تعريفه للذات. في الوقت ذاته، كان الداخل يشتعل رفضاً لممارسات التمييز العنصرى الفجّة، أولاً في الجنوب المتخلف في الستينيات ثم في المدن الصناعية فى السبعينيات. وتصاعَد التوتر بظهور قادة راديكاليين متأثّرين بحركات التحرر الوطني مثل مالكولم إكس، وحركات راديكالية أخرى متأثّرة بحركات التحرير الشعبية، مثل حزب الفهود السود وحركة السكان الأصليين وحركة التشيكانوز (سكان أصليين للجنوب الغربي كانوا مواطنيين مكسيكيين قبل دخول الاحتلال الأميركي)، وكانت كلها تتمسك بالمقاومة المسلّحة وبروح تضامن أممي وبطرح قومي مناهض للمشروع الأميركي.

في تلك الظروف، قامت الولايات المتحدة الدولة، أو بالأصح أداة قهر الطبقة الحاكمة بكل ما هو متوقع:

في تلك الفترة من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، انتشرت الاضطرابات الداخلية وتحولت إلى "أعمال شغب" واسعة. ولم يكن ذلك مداً ثورياً. بالعكس، كان مؤشراً على أفول الفترة الثورية بسبب تفريغ القيادات، مع وجود جماهير غاضبة من فشل تحقيق تطلعات المرحلة. في تلك المرحلة أيضاً، وُظفَت الجريمة المنظمة لتوجيه العنف المسلّح لدى القوميات المضطهَدة. فعصابة البلودزبتراجع حركات التحرر الوطني فى العالم الثالث وبداية ترسيخ منظومة التبعية، اتّسعت الطبقة الوسطى الأميركية لتسهّل عملية الاحتواء وتستوعب شكل الاستغلال الجديد الموجّه أكثر نحو الخارج. فموّل فائض الإنتاج في العالم الثالث نمط حياة قائم على الاستهلاك والاستدانة الدائمة، وتشارك فيه كل طبقات وقوميات المجتمع الأميركي بدرجات متفاوتة. وأصبح العامل الأبيض جزءاً من الطبقة الوسطى في كل شيء، وظلّ العامل الملوّن مستغَلاً ولكن بحدّة أقل كثيراً من السابق، ومن العامل فى الدول التابعة.

استراتيجية وتقنيات الاحتواء والتفريغ

ظلّت مناطق السكان الأصليين، وأحياء السود، والتشيكانوز، والصينيين، تعانى من التهميش والجريمة وقمع الشرطة، لكن مع وجود "فرصة" للفرد المميز ليخرج من الجيتو (حي السود) أو الباريو (حي التشيكانوز) أو الريز (حي السكان الأصليين) ليلتحق بطبقة المهنيين من بني لونه، من خلال الرياضة والترفيه وفرص التعليم المحمية بحصص قانونية أو تلك المدعومة بعمل خيري ومسؤولية اجتماعية. هكذا، تحول كل هؤلاء من قوميات مضطهَدة إلى "أقليات" داخل المشروع الأميركي، وأصبح كل منهم أميركياً - أفريقياً أو أميركياً – هسبانياً، أو أميركياً - آسيوياً. ولم تسمح الفرص المتاحة طبعاً بتغيير سريع للوضع على الاطلاق، لأن مستوى التعليم فى أحياء "الأقليات" كان متدن بشكل كبير، وكان الالتحاق بشريحة العمالة غير الماهرة والخدمية غير مُجدٍ فى صعود سلّم النمط الاستهلاكي، وكانت الجريمة قد أمست مساراً معتاداً يغذّى منظومة السجون، أو الخدمة العسكرية التي تنتهي أحياناً بالتعليم وكثيراً ما تنتهى بالإدمان والحياة فى الشارع.

لكن العامل الأساسي الذى أنجح مشروع الإحتواء كان مسألة التمثيل الفردي ووهم تساوي الفرص. صحيح أن فرص التعليم الجامعي كانت غير حقيقية، بسبب ضعف التعليم الأساسي وانتشار الجريمة والفقر، لكن الحراك الطبقي نقل البعض إلى الطبقة الوسطى. ولأن هذا الحراك كان مدفوعاً بقوانين رسمية، فقد أعطى انطباعاً بالمساواة في تحقيق الحلم الأميركي (أن تبدأ من القاع وتصل إلى القمة). غذّى هذا الانطباع ظهور تمثّلات واضحة لأفراد من الأقليات وقبولهم لدى "الأسرة الأميركية" بمعاييرها، وخاصة من خلال مجالات الترفيه. وأصبح من المعتاد أن يدوّن الفرد الملوّن الناجح تجربته مطالباً باعتراف مجتمعي بما حدث لناسه، اعتراف كان المجتمع الأميركي مستعداً لإعطائه فى إطار رسم صورة المجتمع التائب، على شرط إفراغه من أي تبعات لها علاقة بالحاضر. وحتى بعض الثوريين السابقين تم احتواؤهم فى الجامعات، وهي في ذهن كل أميركي مكان يتعرّض فيه الطالب لتجارب جديدة ومثيرة فى بيئة محكَمة نسبياً، بما في ذلك تجربة التعاطي ثقافياً مع فكر ثوري.

على المستوى السياسي، ارتبطت عملية الاحتواء بإفراغ العنصرية من جوهرها؛ "الاستغلال" والقهر، فصارت العنصرية تشير إلى ممارسات التمييز ضد "الأقليات"، بعيداً عن القهر والاستغلال. ومع دخول الولايات المتحدة عصر العولمة، لم يعد التنازل في مناطق الأقليات المهمّشة كافياً، إذ طرأت تغيرات جديدة على شكل علاقات الاستغلال. فمع العولمة وانتقال الكثير من الصناعات إلى خارج الولايات المتحدة، ومع توسُّع الاقتصاد القائم على انتاج المعرفة، ومع توسُّع القطاع الخدمي الاستهلاكي، زال إلى حد كبير الاحتياج الأميركي في الداخل إلى العمالة الرخيصة غير الماهرة. شهدت تلك المرحلة توسَّعاً في القطاعين العقاري والمصرفي حتى عام 2008، ما أدى إلى انتشار ظاهرة "التحسين"/"gentrification"، (وهي عملية "تجديد واعادة بناء مصحوبة بتدفق الطبقة الوسطى والميسورين إلى حي يعتبر متدهوراً)أدّت الممارسات التى تذكّر بالمراحل الأولى من الاستعمار الاستيطاني (والتي تستدعي بعض تصوّراته عن الآخر بصفته همجياً لا يفهم إلا القوة) إلى الكثير من التوتر في مطلع الألفية. وفي غياب مشروع ثوري، وبعد فشل مستمر في انتاج قيادة ثورية، ومع الطريقة العشوائية لصياغة الأفكار من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، تحولت أعمال الشغب إلى رد الفعل الطبيعي على حوادث قتل الشرطة لمواطنين سود.

ما يفاقم التناقض اليوم، أن العولمة بدأت تؤدي إلى تراجع فى امتيازات الكثير من المواطنين الأميركيين. والسبب ليس اختياراً، ولكن تكلفة الهيمنة أصبحت أعلى مما ترضى الطبقة الحاكمة أن تقدمه للإبقاء على مواطنين لا تحتاج إلى الكثير منهم. هذا التنازل من الطبقة الحاكمة الأميركية عن التزاماتها تجاه مواطنيها هو بعض ما يفسر الفرز الذي نراه اليوم في الداخل الأميركي. للكثيرين من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى البيضاء استياء نامٍ من شعور باستحقاق الامتيازات. هم يستدعون أكثر فأكثر قيم المستوطن وهواجسه، وأولها هاجس البقاء في مواجهة الهمجي الذي يحاول أن يدمر ما بناه المستوطن. على الصعيد الآخر، بدأت أطروحات للتغيير في الظهور ولكن كلّها تنطلق من المشاركة فى العملية السياسية كما هي. فتبقى الشعوب المستغَلة في الداخل سابقاً، الأقليات حالياً، دون قيادة تبلور طرح ثوري نقيض لبنية الاستغلال والتهميش التي تسبب القمع. فى هكذا وضع، ستستمر الطبقة الحاكمة فى تصوير الأحداث كأحداث فردية أو محدودة النطاق، وسيزداد عنف الشرطة وداعميها من اليمين الشعبوي تجاه المهاجرين و"الأقليات"، وحتى إفراز قيادة ثورية، ستظل "أعمال الشغب" رد الفعل الطبيعي.

خاتمة

ما يحدث اليوم فى أميركا هو بلا شك نتيجة لأزمة في المشروع الأميركي، فأميركا لم تعد قادرة، على فرض هيمنتها الكاملة حتى على "فنائها الخلفي"، والدليل أن الجمهورية البوليفارية صامدة رغم أنها ليست بنفس قوتها في عهد شافيز. لكن المهم استقرائه في نمط الاستغلال الأميركي وكيفية مواجهته، هو أن قدرة أميركا على فرض مشروعها ليست أمراً داخلياً، بل هو مرتبط بقدرة الطبقة الحاكمة على تصدير الاستغلال إلى الخارج، وبقبول قيادات الفئات المستغَلة والمهمّشة داخلياً لصفقة الاحتواء على حساب الخارج. وما يجعل أميركا "سجن الأمم"يقول مهدي عامل إن "الحركة الخاصة بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة... تقوم على نزع الطابع السياسي عن كل ممارسة للصراع الطبقى بهدف الحفاظ على سيطرتها الطبقية"، وهذا بالضبط ما نجحت الطبقة الحاكمة الأميركية فيه حتى الآن، باستخدام القمع والاحتواء والتفريغ. في المقابل، "الحركة الخاصة بالممارسة السياسية للطبقات الكادحة...تقوم في أساسها على تسييس كل ممارسة للصراع الطبقي". 


https://www.archives.gov/founding-docs/declaration-transcript من المفارقات أن هذا النص يعتبر مصدر فخر كبير لمبشري أميركا كتعبير عن قيم التحرر والمساواة.

كاتب مصري