تكمن في الذهن الأميركي فكرة تأسيسية هي القدر الساطع 'Manifest destiny'"، وتفيد أن قدر الولايات المتحدة التوسّع في النفوذ، ونشر الديموقراطية الليبرالية، والرأسمالية، وأفكارهما في العالم. لم تكن بداية العنصرية الأمريكية مع استعباد السود وإنما مع السكان الأصليين. حينها، كانت علاقة الاستغلال علاقة نهب مباشر واستبدال، فأخذت الممارسات العنصرية الشكل المتّبع للاستعمار الاستيطاني فى الإبادة والتهجير."
سجن الأمم: العنصرية نمط استغلال أميركي (1)
متناقضة صورة الولايات المتحدة لدى الجمهور العربي. هي تبدو حيناً على حافة الانفجار بسبب التوترات العرقية، وحيناً تبدو دولة لكل مواطنيها وقد تجاوزت نقطة العنصرية المظلمة فى تاريخها. حين انتُخب باراك أوباما رئيساً، كان مبشرو الولايات المتحدة فى بلادنا يحدثوننا عن "عظمة التجربة الأمريكية" ويصرّون على أهمية نقل تجربة النضال السلمي اللاعنفي في مواجهة واقع تحكمه الهيمنة الأميركية علينا. اليوم، قبل انتهاء العهدة الأولى للرئيس الحالي، أميركا فى حالة فرز داخلي متصاعد وعلى رأس دولتها رئيس أبيض عنصري كاريكاتوري مدعوم من اليمين الشعبوي العنصري. ومرة أخرى نرى مدينة أميركية تشتعل فيها اضطرابات بسبب عنف الشرطة ضد مواطن أسود، في حلقة لن تكون الأخيرة من اضطرابات شبيهة بدأت فى عهد الرئيس السابق.
الحقيقة أن التناقض الظاهر ليس إلا خلطاً فى استيعاب المفاهيم، لأن الولايات المتحدة، أو أي تجربة أخرى، لا توجد خارج حركة التاريخ. فالعنصرية في النهاية مفهوم قائم على علاقات الاستغلال، وهي علاقات اجتماعية واسعة لا مجرد "ممارسة".
في مراحل مختلفة من التاريخ الأميركي كان التفاعل بين الشكل السائد للاستغلال والقوى المناهضة له يصب دوماً لا في إنهاء الاستغلال بل في خلق شكل جديد له يكون أكثر فاعلية وقدرة على احتواء التناقض والاتّساق. وكان الشكل الجديد تصحبه عملية طويلة من إعادة تعريف الذات والآخر، ولكنها أبداً لم تُعد النظر فى جوهر الاستغلال، بصفته العلاقة الأساسية بينهما، و العنف بصفته الوسيلة الأساسية لترسيخ تلك العلاقة، ثم التفرقة والاحتواء وسيلة لتكريسها.
الاستغلال: "قدر أميركا الساطع" الحقيقي
تكمن في الذهن الأميركي فكرة تأسيسية هي القدر الساطع "Manifest destiny"، وتفيد أن قدر الولايات المتحدة التوسّع في النفوذ، ونشر الديموقراطية الليبرالية، والرأسمالية، وأفكارهما في العالم. لم تكن بداية العنصرية الأمريكية مع استعباد السود وإنما مع السكان الأصليين. حينها، كانت علاقة الاستغلال علاقة نهب مباشر واستبدال، فأخذت الممارسات العنصرية الشكل المتّبع للاستعمار الاستيطاني فى الإبادة والتهجير.
مع التحول من المستوطنات إلى فيدرالية "الولايات المتحدة"، تحولت صيغة التعامل مع السكان الأصليين من العداء الدائم الى معاهدات - تُنقض كلما احتاجت أميركا الى المزيد من الأرض والموارد -. في الجنوب، لجأ المستوطنون إلى استعباد السود من أفريقيا في قطاع الزراعة، وبالأخص زراعة القطن. في الشمال، صعدت الرأسمالية الصناعية التى مارست الاستغلال على العمالة الأجيرة القادمة من أوروبا وأخذت دوماً شكل العنصرية المناسب، فكان أفراد كل موجة من المستوطنين مواطنين من درجة أدنى لفترة، تُفرض خلالها شروط مجحفة عليهم في العمل والمعيشة، وترتبط ترقيتهم بتبنّيهم قيم العنصرية. من أشهر الأمثلة على ذلك أن الايرلنديين لم يُعتبروا بيضاً إلا فى إطار صفقة اجتماعية للتنازل عن تحالفهم مع السود مما شكّل، بعد ذلك، نمطاً للممارسة الأميركية فى الاحتواء بمنطق فرّق تسد.مع صعود الرأسمالية الصناعية، احتدم الصراع الداخلي للطبقة الحاكمة مع الطبقة العاملة التي كانت قد بدأت بالإنتظام، سواء نقابياً أو سياسياً، وتطرح وتمارس صيغ ترفض العنصرية من الأساس. لكن الطبقة الحاكمة لجأت إلى صورة مطورة من نفس المنهج فى التعامل؛ القمع والتفريغ والاحتواء. ولم يكن القمع من قبل الشرطة أو مؤسسات الدولة فقط، بل وُظفَت الشركات الخاصة والتجمعات الرجعية والجريمة المنظّمة في هذه العملية. فاعتمدت الشركات الكبرى على شركات حراسة خاصة كما حصل في مجزرة لدلو التي شارك فيها الحرس الوطني مع شركة بالدوين فلتز. وتولّت التجمعات الرجعية بالأخص فى الريف إرهاب المتظاهرين والمحتجّين، وكثيراً ما بررت أفعالها بدعاية عنصرية بسبب الطابع العابر للأعراق لدى الحركة العمالية.لكن أي محاولة لاحتواء الداخل لم تكن كافية دون قدرة الطبقة الأميركية الحاكمة على تصدير الاستغلال إلى خارج حدودها. مع المراحل النهائية لاستيطان الكتلة التى تعتبر اليوم "أرض" الولايات المتحدة (مع العلم أن جزئاً كبيراً منها يخضع لمعاهدات لم يتنازل عنها السكان الأصليون أو تم ضمّه باحتلال أرض مكسيكية)، انتقلت أميركا إلى التوسّع فى أميركا اللاتينية. اعتبرت الطبقة الحاكمة الأميركية أميركا اللاتينية فناءها الخلفي، وباتت مختبراً لكل ما ستمارسه الولايات المتحدة على جنوب شرق آسيا، ثم منطقتنا فيما بعد، من دعم وتشغيل لأكثر الفئات رجعية إلى التدخل المباشر لقمع حركات الاستقلال الوطني، وصولاً إلى تأجيج التوترات الداخلية. فالممارسات غير المقبولة داخلياً تتم بعيداً عن الأنظار، وفي أحيان كثيرة بأيدٍ غير أميركية، والفائض المنتَج يُوظَف جزء منه في عملية الاحتواء الداخلية. كانت إجراءات روزفلت الاصلاحية النقطة الحاسمة في نهاية مشروع الطبقة العاملة الأميركية بصفته مشروع عابر للأعراق ومتناغم مع مشروع الطبقة العاملة العالمية، وذلك من خلال تحميل كلفتها لا للرأسمالية الأميركية، بل للطبقات الكادحة فى الدول التابعة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.خلال كل تلك المراحل، قامت سياسات الولايات المتحدة على المستوى الاجتماعي الداخلي على أساس التفرقة والتدجين. ومنذ اللحظة الأولى لقيام الإمبراطورية الأميركية كان هناك عبد المنزل الذي يحب السيد أكثر من نفسه، ويعرف مكانة نفسه وعِرقه، وعبد الحقل الذى يسيء إلى أهله بعدم تشبّهه بالسيد!. كان السيد يرى في ذاته أباً يدافع عن مصالح فئة لا تعرف مصلحتها. أندرو جاكسون مؤسس الحزب الديمقراطي (وهو أحد أهمّ قادة نهب أراضي السكان الأصليين) كان يعرّف نفسه في مراسلاته الرسمية مع السكان الأصليين باعتباره أبيهم. تتطور هذه التفرقة بين عبد الحقل و عبد المنزل إلى قبول المستوطن لغيره على أساس قرب الآخر من صورة الأبيض عن ذاته، لا أكثر، سواء من حيث المظاهر كالملبس وطريقة الكلام واللكنة، أو من حيث المنطق والقناعات والأحكام. تخلق هذه المرحلة تناقضاً أخلاقياً داخلياً لدى الأبيض عند إحساسه بالذنب تجاه ممارسات التمييز، لكنه سريعاً ما يحتوي هذا التناقض من خلال الضم المشروط للآخر إلى المشروع الاستيطاني. تتطور المرحلة الأخيرة حتى إلى استيعاب بعض مظاهر الثقافة لدى المضطهَد بما يتسق مع منظومة القيم لدى المستوطن وبما يشوّه - عادةً - الأصل. مثلاً شخصية الكاوبوي من حيث الملبس و"الايتيكيت" والصلابة جائت أصلاً من التشارو المكسيكي الذي نُهبت أرضه، كما أن أصل موسيقى روك اند رول هو موسيقى البلوز التي كانت تعبيراً عن صعوبة حياة العبيد.
[1] يفصل نول ايجناتييف فى كتابه "How the Irish Became White" القصة الكاملة لاحتواء الايرلنديين الأميركيين، الذين أتوا من بيئة عانت من التهميش وغياب الحقوق المدنية و التقاليد الرافضة للعبودية لينضموا إلى أفقر فئات الكادحين فى الشمال الأميركى، و بالتالي اختلطوا كثيراً بالسود في البداية و كانت حركة الاستقلال الايرلندى تدعم حركة مناهضة العبودية. فكان الكثير من المستوطنين الأسبق يحتقرونهم لدرجة نعتهم بــــــ"زنوج مقلوبين من الداخل إلى الخارج" negroes turned inside out (ص.41)، واعتبروهم تهديداً للنظام الجديد لدرجة إصدار قوانين تمنع المهاجرين الجدد من التصويت والمشاركة السياسية. بدأت الموجة الكبرى للمهاجرين الأيرلنديين في وقت ساندت خلاله قيادات حركة الاستقلال الايرلندية حركة مناهضة العبودية مطالِبة الأيرلنديين فى أميركا بإدانة النفاق الاميركي و الانضمام إليها، وارتبط اندماج الجالية الايرلندية بسحب ذلك الدعم بل وبمساندة العبودية، لدرجة تصويت الكتلة الايرلندية ضد انهاء العبودية (ص. 70).
ٌRoutledge, New York, 1995 [2] تعتبر فترة "إعادة الإعمار" reconstruction أحد أكثر الفترات قمعاً للسود رغم مجيئها على أثر قرار إنهاء العبودية، حيث ظهرت جماعة الكو كلاكس كلان لترويع وإرهاب السود و كل حلفائهم، وتُعتبر لحظة فارقة في مأسسة نظام السجن الأميركي. انظر الفصل التاسع من:
[3] الفصل 13 و 14 من كتاب هوارد زن يفصل تعامل المؤسسة الحاكمة الأميركية مع ما سماه "التحدي الاشتراكي" لهيمنتها. يوضح زن أن العمال الزراعيين السود والعمال الصينيين كانوا أكثر من انّجذب للتنظيم العمالي، واستُخدم ذلك في الهجوم على الحركة العمالية و تبرير العنف ضد أعضائها.
يعبّر الإسم الشائع لحزب العمال الأممي IWW - "wobbly/ وابلي" عن الروح الرافضة للعنصرية في التنظيم، فالإسم جاء من عدم قدرة أعضاء صينيين على نطق w ، انظر : https://archive.iww.org/history/icons/wobbly/
[4] يقدم هوارد كيملدور لنموذج تفصيلي حول استيلاء الجريمة المنظمة على مجموعة من النقابات، وهي نقابات عمال الموانئ:
ويوثق فونر استخدام الشرطة والطبقة الحاكمة للعصابات في:
[5] لشرح مفصل لآليات الامبريالية الأميركية كظاهرة تاريخية ناتجة عن الرأسمالية الاحتكارية، انظر الفصل السابع من:
للتفصيل عن ميكانيزمات احتواء الحركة العمّالية فى أميركا وعلاقتها بتصدير الاستغلال:
Related Posts
كاتب مصري