ببساطة، هذا الصراخ المستهجن، المليء بلغة الحقد وأفكار العنصرية وخطاب الكراهية، سيزداد ضجيجه ارتفاعاً في القادم من الأيام. لا يبدو أنّ أحداً في لبنان جاهز لإعطاء طائفة المقاومة ولو بعضاً من حقّها، ويريد سحقها وهي في عزّ قوّتها وهو في أسوء أحواله تاريخياً، مستقوياً بالخارج مراهناً عليه رهان بن زايد على طائرات ال إف-35 الإسرائيلية أن تدخله في قاموس الحضارة.
خارطة المواجهة السياسية: طائفة القوة مقابل منطق الاستقواء
سبيل فهم الآيات هو معايشتها، وبغير ذلك تبقى المعرفة اكتسابيةً والمطلوب معرفته غريباً، أو كما يسمّيها أهل التصوّف "معرفة بالرجل الخشبية".
لطالما قرأت خلال بحثي في الدين الإسلامي أحاديث نبوية عن فضل البنات، وبحثت فيها لأفهمها انطلاقاً من الرؤية الإسلامية القرآنية، لكنّ معايشة آية أن يرزق الله عبده بنتاً في غاية اللطف والجمال كان كفيلاً في لحظة واحدة بأن ينقل كلّ أفكاري من "برّاد" العقل إلى قلب كان يعاني -كنصف مجتمعنا- من البطالة المقنّعة.
الجمال واللطف في حياة الإنسان أهم من الأوكسيجين، بدونهما يموت القلب والروح، أما بدون الاوكسيجين يموت البدن فقط. يولّد الجمال الحقيقي في قلب المعايش له انجذاباً هائلاً، يَصدُق أن يسمّى دون سواه بالحبّ. الحبّ الذي يولّد بدوره في قلب المحبّ عزماً هائلاً للتمسّك بكلّ جميل في الحياة، وقوّةً دافعة لطرد كلّ ما يهدّد الارتباط بهذا الجمال وأصله.
مرّت معي اليوم قصّة كنت قرأتها منذ زمن ومررت عليها مرور الكرام، عادت اليوم لتحفر عميقاً في قلبي جرحاً لا سبيل له ليندمل؛ قصة تلك الفتاة التي ولدتها أمّها وأبوها "جواد" مـقاوم أسير في معتقلات الاحـتـلال، وعاشت وتعرّفت على والدها بالمراسلة ثمّ بالهاتف، واستمرّ جمالها يعزّي أباها وهو في قبح الأسر وألم البعد 12 سنة. ولكن قبل أن يخرج الوالد من السجن، بأقل من سنة، مرضت "جميلة" وتوفّيت دون أن ترى أباها أو يراها.
"جواد" هو كلّ أبٍ وكلّ مشروع أبٍ في مجتمعنا. لولاه ولولا سواه لاستحال ممكن الحصول فعلاً، ولأحاطت بهذا المجتمع الفجائع، فلا يعود كثيراً أن نتمسّك بقوّة بما تحقق ببذل الدم والدمع وسنين فراق والأحبة.
لن يفهم البطرك شيئاً من كلامنا هذا، ولا غير البطرك. نعود هنا إلى منطلق حديثنا: المعرفة المتأتّية عن المعايشة لا يتيسّر نقلها بالواسطة. لا تنفع مع هؤلاء الغرباء (عن سابق إصرار وتصميم) عن تجربتنا الشعورية والمعرفية كلّ وسائط التعليم، ولا حاجة لمجتمع المقـاومة لإجهاد نفسه في الشرح والاحتجاج. الامر صعب: اللغة مختلفة، المنهج مختلف، النوايا متضادّة، المقاصد متعارضة، والطبيعة متناقضة.
كما أنّ الأثر المتراكم لتاريخ من الاستقواء الأوروبي-الماروني والمملوكي-العثماني-السني والمعني-البريطاني-الدرزي على شخصية الجماعة الرابعة في البلد لا يمكن مسحه -ولو وجدت النيّة- بسهولة من الوعي الجماعي لهذه الجماعات.
لا يمكن بسهولة أن يقتنع الماروني، المصنّف مواطن درجة أولى، بأنّه بات مواطناً عادياً، بل وأقل من عادي ذلك أنّه أصبح الأقل اهتماماً بالبقاء في البلد وبنائه والأكثر اتجاهاً للاستفادة من الظروف المؤاتية لطائفته الكريمة للهجرة من بلاد الانفجارات والنفايات والحرائق والحكومات المتدافعة كأمواج البحر إلى بلاد أكثر استقراراً.
ولا يمكن بسهولة أن يقتنع الدرزي أنّ مساحة نفوذه في جبل المتصرفية لا تتجاوز العشرة بالمئة من مساحة لبنان الكبير، وأنّ نسبته الى إجمالي السكان باتت لا تزيد بدورها عن 5%. نسبة لم تعد تسمح له أن يلعب دور فخر الدين المعني فيشنّ حملاته على الجماعات الأخرى مستقوياً بوالي دمشق والباب العالي، ولا دور كمال جنبلاط في السبعينات بوزنه السياسي في لبنان وسوريا، ولا حتى دور "بيضة القبان" التي لعبها جنبلاط الإبن منذ تسعينات الطائف إلى اليوم.
السنّي بدوره، بعضه ما زال يرى رايات الخلافة العثمانية تخفق عائدة إلى المنطقة ولو من عيني أردوغان، وبعض آخر يرى في أمير الأحلام ابن سلمان فارس العروبة الأشوس ويستبشر في حكمته ويتمنى أن يستثمر في صفقاته مع قيصر روما الجديد ترامب أو حتى مع ابنته ايفانكا. آخر (وهو يرى نفسه بعيد النظر) يصوّب أشرعته باتجاه رياح إماراتية يراها قادمة نحو المنطقة؛ نعم هو يدري أنها قد لا تكون سوى نسائم، أو أنها ربما تستحيل رياحاً عاصفةً إذا ما لاقتها التيارات الايرو-سياسية الأخرى لن يستفيد منها أيّ مشرّعٍ في البلد، وإذا ما أبحرت على نيّتها سفينة لبنانية فلا يبعد أن يكون مصيرها كسفينة مساكين طرابلس الأخيرة الذين ماتوا ألف مرة وعادوا بين غريق ومفقود ويتيم وثكلى.. كل هؤلاء جمعهم بالأمس إرث الحريرية السياسية، التي أريد لها بقرارٍ أممي منذ ما قبل الطائف أن تخلفَ التوجّه الفتحاوي-الفلسطيني لسنّة لبنان وترميهم في أحضان خادم الحرمين. هم أيضاً يرزحون تحت وطأة تاريخ من استشعار القوّة وقيادة الخيار العروبي للبنان بوجه الخيار الغربي المضاد، تاريخٌ قُتل صبراً ونكّل بجثّته ثم اغتُصب وأُحرق وقُطّع ودُفن هناك في أزقّة المخيّم الضيقة على أطراف المدينة الرياضية منذ أواسط أيلول 1982.
أمّا "الجماعة الشيعية" - ويحقّ لنا قراءة الشيعة في لبنان كجماعة واقعية دونما أن يكون العامل الوحيد في تحديد معالم هذه الجماعة هو الهوية المذهبية – فقد راكمت شريفةً القوّة في الوقت الذي كان الآخرون يبيعون أوراقهم في أسواق الدعارة السياسية والفساد ونهب الدولة.
خيار التصدّي للعدوّ الإسرائيلي، لو أخذه أي طرفٍ لبناني، كان كفيلاً بأن يحوّله إلى ماردٍ حقيقي. هكذا هي مواجهة الكبار، تصنع من الضعف قوة ومن التعب عزماً ومن التشتت اجتماعاً على أمر عظيم. لقد "توفّق" الشيعة بموقع جغرافيّ وضعهم في "بوز المدفع" أمام الصهاينة، فاتخذوهم عدوّاً حقيقياً وصنع هذا العداء منهم ندّاً للصهاينة يوقفهم عند أعتاب مارون الراس وبنت جبيل ويهين الجيش الأسطوري وقوات نخبته.
اليوم بات الفارق في القوة واضحاً؛ دون مبالغة فإنّ قوّة الشيعة اليوم - برغم كلّ الحصار المفروض عليهم وعلى راعيتهم "إيران" والحرب الضروس منذ 10 أعوام في سوريا ومنذ 17 عاماً في العراق مقابل كل التسهيلات أمام الجماعات الأخرى والرعاية الكريمة من الدول الكبرى – تفوق كلّ قوى البلد مجتمعة، عسكرياً بالدرجة الأولى، وأيضاً من حيث النخب الأكاديمية والخبرات في شتى المجالات الحيوية للبلد. ببساطة، قوّة الشيعة اليوم في المجالات المذكورة والتي تعتبر بنىً تحتيّة بدأت تصعد بشكل فعّال -لا شكلي- نحو بنىً فوقية سياسية، وهو أمر طبيعي الحدوث، اختياري البقاء. رغم كل الهدوء الداخلي في مراكمة القوة والموقف السياسي الشيعي، الذي لا يمكنني أن أعزله عن سنين القهر والخوف التي عاشها الشيعة في لبنان على مر تاريخهم، يرفض الآخرون التخلّي عن امتيازاتهم رغم كل التغيّرات في الموازين. لكنّ أذكياءهم يعلمون أنّها مسألة وقت، فالسير الطبيعي للحياة يقتضي داروينياً البقاء للأقوى والأصلح، صفتان لا يبدو أنّ أحداً ينازع طائفة المقاومة والتحرير والدفاع عليهما.
ببساطة، هذا الصراخ المستهجن، المليء بلغة الحقد وأفكار العنصرية وخطاب الكراهية، سيزداد ارتفاعاً في القادم من الأيام. لا يبدو أنّ أحداً في لبنان جاهز لإعطاء طائفة المقاومة ولو بعضاً من حقّها، ويريد سحقها وهي في عزّ قوّتها وهو في أسوء أحواله تاريخياً، مستقوياً بالخارج مراهناً عليه رهان بن زايد على طائرات ال إف-35 الإسرائيلية أن تدخله في قاموس الحضارة.
الأمر كما قلنا في البداية: نهجان مختلفان، وإن شئت فقل معادلتان، معادلة القوة بوجه معادلة الاستقواء.
ويبقى على عاتق الٌأقوياء كسر المعادلة الخشبية.
"Related Posts
كاتب لبناني