Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تعود مسألة التدخل الأمريكي بالشأن اللبناني، إلى عام 1956. وللمفارقة، لم يأت هذا التدخل نتيجة لتوتر داخلي لبناني، بل لأسباب تتجاوز حدود الـ10452 كلم2؛ مساحة لبنان الجغرافية. إذ ساد في ذلك العام توتر في العلاقات المصرية – اللبنانية، بعد أن رفض الرئيس اللبناني كميل شمعون طلب عبد الناصر بقطع العلاقات مع الدول الغربية

مرتضى عباس

جولة في وثائق من السفارة الأمريكية في بيروت

"

تعود مسألة التدخل الأمريكي بالشأن اللبناني، إلى عام 1956. وللمفارقة، لم يأت هذا التدخل نتيجة لتوتر داخلي لبناني، بل لأسباب تتجاوز حدود الـ10452 كلم2؛ مساحة لبنان الجغرافية. إذ ساد في ذلك العام توتر في العلاقات المصرية – اللبنانية، بعد أن رفض الرئيس اللبناني كميل شمعون طلب عبد الناصر بقطع العلاقات مع الدول الغربية التي شاركت في العدوان على مصر عام 1956.

ازدادت حدة التوتر بعد إعلان الرئيس اللبناني آنذاك كميل شمعون ميله نحو حلف بغداد، وبعد أن أعلن الرئيس المصري في النصف الأول من عام 1958 قيام دولة الوحدة مع سوريا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة. وقف رئيس الوزراء اللبناني وقتها رشيد كرامي ليعلن دعمه عبد الناصر، وطلبَ من المسلمين في الحكومة التوجه نحو المشاركة في دولة الوحدة. لم يعجب هذا التوجه التيار اليميني - المسيحي بقيادة رئيس الجمهورية الطامح لتثبيت التحالفات اللبنانية مع الغرب. فانطلق التمرد بأغلبية مسلمة تتبنى الفكر العروبي رفضاً لخيارات شمعون، ليتهم الأخير الجمهورية العربية المتحدة بدعم التمرد بالسلاح والمال. وذهب لتقديم هذه الإدعاءت عبر شكوى في الأمم المتحدة. ثم ليصدر تقرير محققي الأمم المتحدة بعدها معلناً عدم وجود أي دليل على هذه العلاقة.

تموز 1958 سقطت الحكومة الملكية في العراق. وعى كميل شمعون جيداً تداعيات ذلك. فتوجه على الفور لطلب المساعدة من الولايات المتحدة. يستجيب ايزنهاور سريعاً لطلب شمعون تحت عنوان دعم "الدول المهددة بالشيوعية". أنزلت القوات الأميركية في بيروت، وانتهت مهامها في غضون ثلاثة أشهر. عاد الاستقرار. وأدت التسوية لدفع شمعون نحو الاستقالة وانتخب فؤاد شهاب رئيساً جديداً.

تبين أن المهمة الأمريكية لم تنتهِ بإعلان انسحاب القوات العسكرية. هذا ما تكشفة مجموعة الوثائق التي حصلت عليها الخندق، وفيها ما يشرح طريقة عمل الولايات المتحدة في لبنان وطريقة تعاطيها مع أطراف الصراع الداخلية.

لكن التصعيد سرعان ما يعود مع توقيع اتفاق القاهرة، وقدوم الفلسطينيين إلى لبنان. ففي برقية بتاريخ 25 نيسان/ أبريل 1969 صادرة عن السفارة الأمريكية في بيروت تصف الأزمة المستمرة في الحكومة. وفيها أن رئيس الوزراء رشيد كرامة قدم استقالته (وكان قد اتفق سراً مع الرئيس شارل حلو على ضرورة استخدام الحكومة، والقوات الأمنية، للقوة العسكرية للسيطرة على الفدائيين الفلسطينيين). ليذكر أن الحلو أرسل رسالة الى السفير الأمريكي مفادها أن أي "استيلاء عسكري" أو حكومة عسكرية يمكن تحقيقها بعد الاتفاق مع قائد الجيش العماد إيميل بستاني كرئيس للوزراء. وقد تكون هذه الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق للحفاظ على الدولة اللبنانية.

كذلك أُعدَّت مذكرتان مؤرختان في 27 و28 تشرين الأول/ أوكتوبر 1969 قبل اجتماع عقد في 29 من نفس الشهر لمجموعة الإجراءات الخاصة بواشنطن بشأن الأزمة بين الحكومة اللبنانية والفدائيين الفلسطينيين. تمت الاشارة في الوثيقة الأولى من مذكرة الغلاف إلى عدد من السيناريوهات المحتملة، أحد هذه الاحتمالات كان تقديم الدعم العسكري للحكومة اللبنانية أو لميليشيات اليمين المسيحي. وزيادة حجم المساعدة العسكرية في حال استقر الوضع للنظام السياسي في بيروت. تشير النقطة التي تليها لأهمية الأخذ بعين الاعتبار اتصال بعض القيادات المسيحية بالقيادة الاسرائيلية.

في نفس السياق، تذكر المذكرة اللاحقة بتاريخ 28 تشرين الأول/ أوكتوبر 1969 (المرفوعة من روبرت بير وهارولد ساندرز إلى وزير الخارجية الأميركية كيسنجر) استعداد بعض هذه القيادات لطلب التدخل العسكري الاسارئيلي. الموقف الثاني من هذه الوثيقة درس احتمالية العمل العسكري المباشر من قبل الولايات المتحدة. وأن القوات كانت بحالة تأهب لكن تقدير الموقف يرجح أن التدخل في هذا التوقيت لن يصب في مصلحة شارل حلو، وهو الرجل الذي تسعى الولايات المتحدة لتثبيت أواصر حكمه).

تضمنت الوثائق أيضاً برقية مؤرخة في 17 تشرين الأول/ أوكتوبر 1969. تصف محادثة أجريَت في اليوم السابق بين السفير الأمريكي دوايت بورتر وفيليب مرهج المعروف بتأييده وقربه من الرئيس السابق كميل شمعون. وجه شمعون في هذه الجلسة "رسالة عاجلة" حذر فيها الولايات المتحدة أنه في حال عدم تحركها بسرعة، فإن لبنان سيضطر للانضمام الى "المعسكر العربي الراديكالي". لذلك طلب شمعون "مساعدة سياسية ومالية سرية" من حكومة الولايات المتحدة. وكذلك المساعدة في محاولة اقناع حزب الكتائب بالوقوف الى جانبه. وطالب بـ"إبقاء الجيش بعيداً عن الصراع". أخبره بورتر أن السفارة ليست لديها سلطة إقامة علاقة مثل هذه مع  الميليشيات الخاصة، وحثه على "تجنب الإجراءات غير البرلمانية التي تسبب اضطرابات". أشار مرهج في هذه الجلسة الى الرئيس الحلو واصفاً إياه بأنه "حمار" وتوقع أن الولايات المتحدة قد تضطر إلى إرسال قواتها يوماً ما للتعامل مع الوضع.

وثيقة أخرى بتاريخ الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير 1970، تحتوي تقريراً رفعته السفارة الأمريكية في بيروت إلى القيادة المركزية في واشنطن، يشرح من خلاله السفير الأمريكي في لبنان دوايت بورتر تفاصيل اجتماعة بالرئيس شارل الحلو في القصر الرئاسي. كانت محادثة صريحة بشكل ملحوظ حول علاقة لبنان بـ"إسرائيل". يشعر حلو بالإحباط الشديد من الضربات العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان، ويعزي استمرارها إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية بإخلاء الشريط الحدودي من أي تواجد مدني، بهدف القضاء على الوجود الفلسطيني وجعل المناطق المحاذية للحدود تحت السيطرة الإسرائيلية. لكن الحلو رأى أن هذا الأمر عزز من وضعية الفدائيين الفلسطينيين، الذين وقعوا اتفاقية القاهرة مع الحكومة اللبنانية. وكان شارل حلو قد تلقى رسالة سرية من الإسرائيليين تتوعد باستمرار الهجمات. يشبه الحلو الضربات الإسرائيلية على لبنان بالهجمات على قسم شرطة حيفا، بسبب الدور الذي لعبته الحكومة اللبنانية والجيش في الحد من الهجمات على "جارهم الجنوبي". أكد الرئيس اللبناني بعدها أنه ليس من مصلحة "اسرائيل" تدمير آخر نظام ديمقراطي غير مسلم في المنطقة. في الوقت نفسه، شعر الحلو أن لدى الحكومة اللبنانية بعض القوة التي تمكنه من إيذاء "إسرائيل"، بما في ذلك من خلال علاقتها الوثيقة مع فرنسا والدول الأخرى ذات الكثافة السكانية المسيحية الكبيرة.

تذكر الوثيقة الأخيرة، تقديم وزارة الخارجية الأمريكية تقييماً عاماً لاتفاقية القاهرة عام 1969 بين الحكومة اللبنانية، والفدائيين الفلسطينيين. وبحسب هذا التقييم، فقد أظهرت الأزمة الأخيرة في لبنان أهمية الوساطة الأمريكية في الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك حاجة "إسرائيل" لإعادة التفكير في الانتقام "بسبع أضعاف" ضد الأردن ولبنان. لقد حثّت الولايات المتحدة "إسرائيل" على القيام بتلك المراجعة، ثم أبلغت الملك حسين والرئيس الحلو بنتائج "المحادثات مع الاسرائيليين من خلال الاتصالات المتاحة لهما.

يبدو من تفاصيل هذه الوثائق أن سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان بذلت جهدها لتفادي تدخلها المباشر في تفاصيل النزاع العسكري الداخلي. إلا أنها لم توفر فرصة لإشعال الصراع ودعم حلفائها بالمال والسلاح. والتفصيل الأهم في هذه البرقيات كان طريقة عمل السفارة الأمريكية في بيروت، حيث يلاحظ  في رأس كل ورقة مهما كان نوعها، أن نسخة منها أرسلت إلى السفارة الأمريكية في تل أبيب، وأخرى إلى واشنطن، ما يطرح أسئلة كبرى حول طبيعة دور هذه السفارة ومهامها.

"

كاتب سوري