لطالما تساءلت، وأنا أعمل في الشأن العام منذ سنوات، لماذا تدفع الحكومة البريطانية من خلال المجلس الثقافي البريطاني الملايين لتدريب الشباب السوري على المواطنة الفاعلة، أو الحكومة الأميركية من خلال الوكالة الأميركية للتنمية USAID لتدريب المواطنين السوريين على إعلام المواطنة
المنظمات الدولية غير الحكومية والتجربة السورية
لطالما تساءلت، وأنا أعمل في الشأن العام منذ سنوات، لماذا تدفع الحكومة البريطانية من خلال المجلس الثقافي البريطاني الملايين لتدريب الشباب السوري على المواطنة الفاعلة، أو الحكومة الأميركية من خلال الوكالة الأميركية للتنمية USAID لتدريب المواطنين السوريين على إعلام المواطنة، أو الحكومة الألمانية والمانحين الألمان من خلال مؤسسات كـ"فريدريتش إيبرت" لتدريب الناشطين السوريين على التخطيط الاستراتيجي وتقنيات إطلاق المبادرات وعمل الأبحاث؟. لماذا يضطر دافع الضرائب في تلك البلاد أن يدفع مصاريف هائلة لبرامج تديرها هذه المنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية في بلدان العالم الثالث؟
كان الجواب دائماً ما يظهر في التغيير القيمي والمفاهيمي الملاحظ في عمل المجتمع المدني السوري في كثير من الأحيان، فهذه التدريبات والأنشطة تعمل على التغيير البطيء لمنظومة قيم ومفاهيم عاش عليها المجتمع السوري لسنوات طويلة، وكان من الصعب على مبتغي تغييرها إطلاق عملية التغيير من خلال الإملاء والإرضاخ والضغط المتزايد. لذا كان لا بد من توجيه الأجيال الجديدة من الناشطين باتجاه هذه القيم، وهذا ما بدا ملاحظاً منذ بداية الأزمة السورية حول الكثير من القيم والمفاهيم المتعلقة بالسلام والعمل المدني وحقوق الإنسان.
قبل اندلاع الأزمة في سوريا
لسنوات طوال حاولت السفارة الأميركية في دمشق ممارسة التأثير في المجتمع السوري والتغيير فيه، لكن معظم محاولاتها اصطدمت بجدران مسدودة وأبواب موصدة. خلال سنوات ما قبل اندلاع الأزمة في سوريا، ركزت السفارة محاولاتها من خلال حضور دبلوماسييها وعامليها نشاطات وحفلات وفعاليات الجمعيّات والمؤسسات الأهلية المحدودة نسبياً في دمشق، كما وفي نقل تلك الصورة المفصّلة الدقيقة إلى مكاتب الخارجية في واشنطن.
لم يكن مدهشاً عند مطالعة تسريبات ويكيليكس قبل أعوام، أن تمر عشرات التقارير ما بين عامي 2006 – 2011 يتحدث فيها مرسلوها من السفارة الأميركية في دمشق إلى إداراتهم في واشنطن حول واقع الجمعيات الشبابية، ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في سوريا. كما لم تخلُ المراسلات تلك من تقارير مفصّلة تتضمن أحاديث وثرثرات عبرت على طاولات المآدب السنوية للجمعيات، أو حوارات في حفلات استقبال على هامش فعالية أقامتها إحدى المؤسسات التي تعنى بالتنمية، أو البيئة، أو ريادة الأعمال. لكن ما كان مدهشاً بحق هو كم التفاصيل الدقيقة التي قد يملّ أي قارئ محليّ من سردها، إذ لم تكن تحمل في مضامينها أية معانٍ سياسية.
لم تنفع جهود السفارة في الدخول إلى سوق المجتمع الأهليّ الفتي آنذاك في سوريا من باب الحكومة، عبر وكالتها الشهيرة للتعاون والتنمية USAID، وهذا ما أبرزته إحدى تسريبات ويكيليس في مراسلات متبادلة بين السفارة والخارجية الأميركية تشير لرفض الحكومة السورية لكل عروض الوكالة. كما لم تنفع دعوات السفير فورد عند مجيئه لدمشق للقاء مجموعات من الشباب السوري الفاعل في أحيان كثيرة، لكن جهود دبلوماسييه ومرؤوسيه استطاعت أن تنسج شبكة علاقات واسعة مع شباب ناشطين غير منظمين داخل تلك المنظمات.
بعيد حرب العراق عام 2003، كانت بعض الوكالات والمنظمات الأوروبية، مضافة لوكالة التنمية اليابانية، وبعض منظمات الدولية المعنية باللاجئين إلى جانب وكالات الأمم المتحدة، تنشط بشكل مقنن في سوريا، وفق برامج محددة توجهها الحكومة. وقد ركّزت تلك البرامج على التنمية والتعليم والتأهيل والثقافة بالحدود التقنية فقط، دون السماح ببرامج تغّير في أفكار الشباب السوري أو تقترب منهم بشكل يغيّر من قيمهم السائدة.
نشطت في تلك المرحلة أيضاً، المراكز الثقافية والمعاهد التي تتبع للهيئات الدبلوماسية كالمركز الثقافي البريطاني، والأميركي، والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، والمعهد الهولندي للدراسات، والمركز الثقافي الدنماركي، لكن برامجها كانت تركّز على الثقافة والتعليم، وظل تأثيرها محدوداً للغاية بحدود مرتاديها فقط.
بالمقابل، لم تعطِ الحكومة الموافقة لبرنامج مموّل من السفارة البريطانية بعنوان "برلمان الشباب السوري" لصالح جمعية تعنى برواد الأعمال الشباب، عشية اندلاع الأزمة في سوريا، فعلى ما يبدو أن هذا النوع من البرامج كان محظوراً على أي جهة أجنبية ذلك لأن البرنامج استهدف تدريب 100 شاب وشابة لمدة عام على العديد من قضايا الشأن العام والبرلماني، من خلال جلسات محاكاة حقيقية لعمل البرلمان.
دمشق – بيروت – دمشق
عشية اندلاع الأزمة في سوريا، كانت هناك أعداد من الشباب السوري الذي ذهب باتجاهات معارضة قد تلقى تدريبات متنوعة في بيروت، وعمّان، وأحياناً في دول أوروبية بعيداً عن أعين الحكومة. كانت عشرات البرامج قد نشطت في تأهيل وتدريب الشباب على أمور تبدأ بالسلام، والتنظيم المجتمعي، وإطلاق المبادرات، ولا تنتهي بممارسات تتعلق بالإعلام الثوري وإعلام المواطن، وصولاً لتدريبات مفصلة في "الكفاح السلمي". ومع ذلك، بدا أن جل المنظمات التي عملت بهذه المجالات قد أدركت سريعاً صعوبة العمل داخل سوريا، في ظل قانون يقيّد كل أشكال التمويل الأجنبي، ووفق سياسات تصد هذا التمويل الحاوي على عشرات إشارات الاستفهام.
حملت تلك التدريبات توقيع منظمات محليّة، وأكاديميات لبنانية وغير لبنانية. واتضح أنّ جل المبادرات والدراسات والمشاريع نُفذت كتطبيقات عملية لتلك التدريبات قبل بدء الأزمة بشهور وسنوات. وأنها نشطت بتمويل "مباشر - عبر الجيب" من الخارج، دون لفت أنظار الحكومة لذلك.
بالنسبة للشباب، كان الدافع الأكبر لهم في الانخراط آنذاك بهذا النمط من التجارب – وما زال – هو الرغبة بالسفر والاطلاع على التجارب المتنوعة، إضافة لتعلّم أشياء جديدة في قضايا لم يألفوها سابقاً. أحياناً كانت تلك المنظمات تعطي الشباب تعويضاً سخياً كبدل مادي عن حضور هذه الورش، وبعضها كان يفتح الباب لتمويل مبادرات هنا وهناك.
لم تتوقف هذه المبادرات باندلاع الحرب في سوريا، بل استمرت طوال سنين الأزمة السورية وإلى اليوم، وازدادت وتيرتها بشكل كبير في ذروة سنوات الأزمة السورية ما بين عامي 2012 و2016، فلم تبقَ منظمة دولية غير حكومية إلا وافتتحت مكاتب لها في بيروت وعمّان، ومنحت تمويلات لمنظمات غير مرخصة أصولاً في سوريا، ودربت كوادرها بذات الأسلوب وبنفس الطريقة، وتنوعت التدريبات بشكل كبير لتشمل عناوين عريضة كالتمكين والتأهيل بكافة المناحي السياسية، والاجتماعية، والإغاثية، والتطوعية لدعم المجتمع المدني ونشطائه. ومثلما كانت مسيرة تلك الأعمال في مجال التدريب والتأهيل، تم رصد ملايين الدولارات لتمويل مبادرات ومشاريع ودراسات بحثية ترصد الواقع السوري بعمق، وبات طريق دمشق – بيروت نشطاً لدرجة يكاد لا يمر يوم إلا وتخرج قافلة من المتدربين من خلاله إلى لبنان، لتعود أخرى.
أكبر تجمّع للمنظمات غير الحكومية متعددة الجنسية في العالم
في شمال سوريا وتركيا، كان الوضع أعقد بكثير مما نتخيله. مدينة غازي عنتاب التركية كانت خلال سنوات الأزمة أشبه بمنطقة حرة لمنظمات المجتمع المدني، كما ولافتتاح فروع لمنظمات غير حكومية أوروبية وأميركية، قديمة وجديدة، حقيقية ووهمية. وكان لوجود آلاف اللاجئين السوريين في تلك المناطق الدور الأكبر في تعزيز حضور هذه المنظمات وعملها هناك. ساعد فلتان الحدود في تلك المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة في جعل العمل في تلك المنطقة أولوية بالنسبة للمنظمات المُدارة من أجهزة مخابراتية تتبع الدولة الممولة.
وعدا عن المنظمات التي تعمل بالإغاثة، والاستجابة الإنسانية والطبية، بات هناك مئات المنظمات التي تعمل في مجالات التعليم والتدريب والتمكين. وبات النشاط المدني مهنة يمتهنها عشرات الشباب السوري المتواجد هناك، وباتت التدريبات المختلفة في الإعلام والسياسة والحكم المحلّي، والنشاط المدني، والحوكمة وإطلاق المبادرات وغيرها ملاذاً رائعاً يوفّر لمرتاديه إقامة في فنادق فاخرة، وسفراً وبدلاً مالياً "محترماً" عن كل يوم يقضيه المتدرب في التعلّم بدلاً عن كل يوم، وأحياناً عن كلّ ساعة.
وعدا عن مكاتب المنظمات الدولية في غازي عنتاب، افتتحت هناك مئات المنظمات السورية المحلية بتراخيص وفق القانون الداخلي التركي. كما افتتحت تلك المنظمات فروعاً على كامل الجغرافيا الخارجة عن السيطرة في إدلب، وريف حلب، وغيرها من المناطق كالغوطة الشرقية ودرعا وريف حمص، إلا أنها أغلقت بعودة المناطق لسيطرة الحكومة السورية.
عملت هذه المنظمات تحت إمرة - وفي كنف - الفصائل والميليشيات المسيطرة على تلك المناطق، بما فيها جبهة النصرة. وقدمت خدمات واسعة من خلال التمويل الضخم، ومن خلال برامج تعدّت ميزانياتها عشرات ملايين الدولارات. فضلاً عن المؤسسات التي أطلقتها التنظيمات المعارضة التي اكتسبت طابعاً رسمياً يدير الشؤون المحلية بذات التدريب والتمويل. هناك في غازي عنتاب التركية، وإدلب، وريف حلب وغيرها من المناطق تحقق حلم القائمين على USAID وشريكاتها من المنظمات الأوروبية بالدخول إلى المجتمع السوري والعمل بين مواطنيه.
بين حماية المجتمع المدني وتقييده
بينما كانت سيرورة عمل المنظمات الدولية غير الحكومية خارج سوريا تعمل بأوسع المجالات، حاولت العديد من هذه المنظمات افتتاح مكاتب لها داخل سوريا. إلا أنها وجدت ممانعة كبيرة من الحكومة. فالقيود التي تضعها الحكومة السورية على هذه المنظمات كبيرة للغاية، وعلى الرغم من عمل العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية؛ كالمجلس الدنماركي للاجئين، والمجلس النرويجي للاجئين، وأوكسفام البريطانية، وبضعة منظمات أخرى فرنسية، وإسبانية، وإيطالية، إلا أن عملها مقيّد باتفاقيات مع منظمات محددة تعمل من خلالها كالهلال الأحمر العربي السوري والأمانة السورية للتنمية، إذ لا وجود للعمل المستقل لهذه المنظمات داخل سوريا. كما أن أعمالها وبرامجها ومشاريعها تندرج تحت عناوين محددة يُسمح العمل بها كالإغاثة والاستجابة الإنسانية ومشاريع سبل العيش وإعادة إنعاش المناطق المتضررة فقط. وهذا لم يكن وليد الأزمة الراهنة، بل هو سياسة متعارف عليها منذ سنوات بعيدة.
أما عن المؤسسات غير الحكومية والجمعيات الأهلية العاملة في سوريا، فعملها وتأسيسها مرهون بموافقة وزارة الشؤون الاجتماعية بموجب قانون الجمعيات وتعليماته التنفيذية، الذي يجعل من عملية الحصول على التمويل الأجنبي عملية معقدة للغاية، وقد تغيرت إجراءاتها مراراً لضمان عدم انحراف أهداف التمويل الأساسي، وهو محصور فقط بما تقدمه منظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا. ولا ننكر أن هذه الإجراءات والسياسات كانت قد حمَت الكثير من القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع السوري، مثلما حمَت المجتمع المدني السوري من الانزلاق باتجاهات لا تناسب هذا المجتمع، وتعمل على تفكيكه البطيء.
ومع وجود كل القيود المفروضة على هذا النمط من الأعمال في سوريا، إلا أن اختراقات عديدة عابرة للحدود تحققت من قبل الأزمة وطوال سنواتها، من خلال ما تم سرده في متن المقال. وتبقى تلك الحلقة المفرغة المتعلقة بتمكين المجتمع المدني السوري، ورصد الأموال اللازمة لدعمه، سواء من خلال الدعم الحكومي أو من خلال توجيه القطاع الخاص الوطني نحو مسؤولياته الاجتماعية بدعم هذا القطاع، هو ما ينبغي أن يُدفع به قدماً، كي يلعب المجتمع المدني دوره الصحيح في نماء وتقدم المجتمع، وفي التمكين بغية إنتاج قيم وطنيّة خالصة تقف بوجه القيم الغريبة العابرة للحدود، ولتملأ هي الفراغات وتشكل المناعة اللازمة للمجتمع والدولة في آن معاً.
"Related Posts
باحث وناشط سوري