Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

الجهاد الزراعي ووهن السيادة... مشكلة مركبة

"

بعد أشهر من إعلان السيد نصر الله  انطلاق "الجهاد الزراعي"، وقعت الكثير من الأحداث. استقالت الحكومة الأخيرة بعدما عُرقلت (بفضل القوى المدعومة من الولايات المتحدة فيها)، وبعد سبعة أشهر من الجمود بسبب سياسة البنك المركزي المدعومة من الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين - الخليجيين في البرلمان. لقد أظهرت كل هذه الأحداث صعوبة تحقيق تغيير حكومي في لبنان قادر على تغيير العلاقات الاقتصادية. لو كان حزب الله قد أظهر نجاحاً في حشد حملة للتنمية الزراعية، لكان قد سلط الضوء أيضاً على مثال مختلف من السيادة والنجاح في بلد مصمِّم على العمل بشكل مستقل يتجاوز كونه وسيطاً مصرفياً بين الخليج وأوروبا. لكن، وفي كل ما حصل يبدو أن ثمة نقطة لم تأخذ حيزها الوافي من النقاش؛ إنها مسألة "الجهاد الزراعي"، وسياسات لبنان الزراعية.

تحتفظ الولايات المتحدة بمكانتها كمستفيد رئيس من السوق الزراعية في لبنان على حساب المزارعين اللبنانيين أنفسهم. وهي تشرف في الآن نفسه، على التحول غير الطبيعي لإنتاج الغذاء من خلال تراكم رأس المال اليوم، ويظهر ذلك بوضوح في عدد من التناقضات: لبنان يستورد التفاح من الولايات المتحدة، ويجد صعوبة في إيجاد سوق لمنتجاته الخاصة. تشجع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية زراعة الأفوكادو، وهو محصول عالي الاستخدام للمياه، وذو مردود مالي عالٍ، ينتج من عمليات تجريف الأرض لبناء شقق فاخرة فارغة على حساب زراعات تسهم في إطعام غالبية الشعب المفتقر بشكل متزايد. لقد أفضت جملة هذه العوامل إلى نتائج كارثية على العمالة وعلى الأرض على حد سواء. إذ انعكست آثار الاقتصاد الاستعماري الجديد في ]لبنان وفي[ العالم العربي على القوى البروليتارية العاملة، بعدما فشل الاقتصاد الجديد في استيعاب السكان الزراعيين تاريخياً في قوة عاملة حضرية.

السياق الجيوسياسي الأكبر الذي أدى إلى هذا الوضع ليس بالشيء الجديد. لقد استخدمت أميركا الزراعة وسلّحتها كأداة إمبريالية. فيما أدى التحول الذي خدمته التنمية الليبرالية الجديدة إلى مستويات عالية من البطالة في العالم العربي. في بعض الدول العربية كمصر، تم استيعاب هذه الاحتياطيات الفائضة من العمالة في ميزانية عسكرية كبيرة ومتضخمة، بعد عقود من التآكل النيوليبرالي للتجربة الناصرية الاشتراكية. لبنان لم يكن استثناءً. تعتمد المناطق الريفية خارج بيروت في 80٪ من معيشتها على نمط العيش الزراعي، بالرغم من أن إجمالي الناتج المحلي الحالي للقطاع الزراعي لا يكاد يبلغ الـ3٪.

لقد تراجعت التجارة العربية البينية كنتيجة لتسليع الموارد والاقتصاد العربي. وكما يشير الدكتور علي القادري، أدى الصراع تاريخياً إلى تدمير المناطق الخاصة بالقطاع الزراعي وقطع شبكات التجارة الإقليمية البينية العربية. كما تسببت الحرب على سوريا، البلد الذي كان الشريك التجاري الزراعي الإقليمي الأقرب لريف لبنان، في انخفاض الصادرات الإقليمية في هذه المنطقة إلى حوالي 10٪، بينما كانت حوالي 30٪ قبل 2014. من هنا يمكن قراءة خطاب نصر الله في تشرين الثاني 2019، لناحية ضرورة تنشيط القطاعين الزراعي والصناعي في سياق جيوسياسي. أن إعادة فتح الطريق بين لبنان وسوريا والعراق أمر بالغ الأهمية لدعم القطاع الزراعي في لبنان.

لقد آذنت التغييرات الكارثية ]منذ أوائل التسعينيات[ ببدء نوع من الليبرالية الجديدة التي أعادت هيكلة رأس مال الاقتصاد الريعي فترة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان. فطوال حقبة ما بعد عام 1991، تم تحويل التمويل من القطاع الزراعي نحو قطاع إعادة الإعمار، حيث شكل التمويل الزراعي في السنوات الـ 14 التالية 0.87٪ فقط من ميزانية الدولة وفقاً لتقرير صادر عن وزارة المالية اللبنانية عام 2007.

أدى هذا التحول الرأسمالي في الريف إلى تآكل سبل نمط العيش الزراعي والمؤسسات الداعمة له. فيما هيمنت الأعمال التجارية - الزراعية على القطاع، مع توجيه معظم الإنتاج الزراعي نحو الإنتاج المالي الضخم. خلال منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي ارتفع فيه التضخم بشكل كبير في البلد الذي مزقته الحرب، خضعت زراعة وإنتاج الموز والحمضيات إلى سياسة مماثلة، حيث وجهت الحرب الأهلية القطاع الاقتصادي في البلاد إلى الإنتاج الموجه للتصدير. في الوقت نفسه، تجلت هيمنة رأس المال الأجنبي في الريف في الانتشار الواسع للمنظمات غير الحكومية الأجنبية التي شجعت على ممارسة الأعمال التجارية - الزراعية منذ منتصف السبعينيات وخلال حقبة الحرب الأهلية.

كانت التداعيات الجيوسياسية للتنمية واضحة في الزراعة، وكذلك في بناء البنية التحتية من قبل تلك الحقبة. فخلال مرحلة الخمسينيات، احتلت الولايات المتحدة لبنان مباشرة، ونزلت قواتها على شاطئ خلدة بناءً على طلب الرئيس الحليف للولايات المتحدة كميل شمعون. سعت الولايات المتحدة، آنذاك، إلى تعزيز حضور حلفاء الغرب في الشرق الأوسط كما ودعم حلف بغداد وسحق إمكانات كل من التجربة الناصرية والسوفياتية في المنطقة، لا سيما وأن التمرد المؤيد للناصريين كان قوياً. آنذاك، ترافق الاحتلال العسكري للولايات المتحدة مع ما يسمى بـ"مشروع أيزنهاور"، وهو استراتيجية للهيمنة الزراعية. كما يروي أحد مزارعي مشغرة، وهو مدير مدرسة سابق:

"أميركا دمرت زراعة القمح لدينا وأطعموا العالم بقمحهم (صادراتهم). قبل أن تُغرق أميركا السوق اللبنانية بالقمح، كان لبنان يبيع القمح لإيطاليا. لقد دمرت الولايات المتحدة زراعة القمح في لبنان. سيبيع مشروع أيزنهاور القمح على شكل مساعدات غذائية. لقد أصبح القمح سلعة رخيصة جداً. من يريده يمكنه شرائه فقط. كانوا يبيعوننا القمح للتغلب على السوفيات والسيطرة على الشعوب".

قانون رقم 480، الذي أطلق عام 1954، أغرق لبنان بـ65 ألف طن من القمح من الولايات المتحدة بحجة إغاثة موسم الجفاف. هذه الخطوة كانت جزءاً من برنامج "الغذاء من أجل السلام" تحت إشراف الولايات المتحدة، وهو الذي مكّن "البلدان الصديقة" التي تعاني أيضاً من "عجز غذائي" من شراء الحبوب من الولايات المتحدة، مقابل السماح لها بالتغلب على الأسواق المحلية والسيطرة عليها.

بصفتها مجرد وسيط في تبادل رأس المال العالمي، كانت المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وميرسي كوربس Mercy Corps، وورلد فيجن World Vision، والعديد من المنظمات الأخرى، مفيدة بشكل خاص لا في إدخال نماذج الأعمال التجارية الزراعية إلى الريف اللبناني فحسب، بل وفي تحفيز ودفع استخدام البتروكيماويات. من خلال تفاقم المشاكل الحالية المتمثلة في عدم وجود دعم حكومي، وعدم القدرة على الوصول إلى الأسواق المحلية والدولية، فإن المؤسسات التي كان ينبغي أن تعمل كوسيط بين العمال والدولة مثل التعاونيات، لن تخدم في نهاية المطاف سوى مستودعات البتروكيماويات، كملاذ أخير للمزارعين المكافحين اليائسين لزيادة عائدات النقدية من المحاصيل.

ضرر الأسمدة والمبيدات لم يقتصر على المزارعين المثقلين بالديون، بل وأضر بالبيئة الزراعية في لبنان. تعاني محاصيل التفاح في شمال وشرق البلاد من مرض الفطريات - Septoria، وهو مرض يؤثر على محاصيل التفاح والأشجار في البقاع الغربي ويسلط الضوء على الروابط بين الاستخدام المكثف للمبيدات وتوغل العولمة في البيئات الطبيعية الريفية في لبنان. إن أبعاد الصدع الأيضي (الخاص بالنباتات) الذي يفرضه الإنتاج الرأسمالي على الطبيعة والعمل، واضح في تدهور التربة، وفشل المحاصيل، وزيادة حالات أمراض النبات.

تكشف هذه المخاوف التناقضات بين مبادرة محلية ]كمبادرة الجهاد الزراعي[ أعاقتها الديناميكيات الوطنية للحكومة وواقع رأس المال المالي الدولي والمصالح الأجنبية الراسخة في ضمان بقاء لبنان دولة بلا سيادة. وكما جادل سمير أمين نظرياً، يجب أن تسبق السيادة الوطنية الاقتصاد الزراعي المستقل في دول الجنوب. في لبنان، يتساءل المرء كم من الوقت سيستغرق تحقيق هذا الأخير، وكم من التضحية التي يجب أن يتحملها المزارع المحاصر من أجل هذا الانتقال العثر!.

"

باحثة لبنانية - لندن