Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

بعيد ثورة 17 تشرين 2019، أصدر مصرف لبنان في الرابع من كانون الأول 2019 تعميماً يحمل رقم 536، حدّد بموجبه حداً أقصى للفوائد المدفوعة على الودائع عند 5% للدولار الأميركي، و8.5% لليرة اللبنانيّة. أما بالنسبة للودائع بالدولار الأميركي، فقد نصّ التعميم على دفع نصف فوائدها بالليرة اللبنانيّة

هيئة التحرير

أزمات سوق النقد ما بعد 17 تشرين

"

تعود أزمة نقص الدولار اليوم لأسباب بنيوية تراكمت منذ سنوات، فمنذ ما بعد نهاية الحرب الأهلية، يعمل المصرف المركزي على تثبيت سعر صرف الليرة من خلال افتراض سعر صرف وهمي للدولار قيمته 1500 ل.ل. منذ عام 2011، بدأت مصادر الدولار تشح وتنخفض في السوق اللبنانية عموما والمصرف المركزي خصوصاً. يظهر ذلك من خلال تراكم أزمة ميزان المدفوعات، (وهو صافي الأموال التي تخرج وتدخل من وإلى لبنان). حدة هذه الازمة زادت بعد الحرب السورية لتتسارع في الاعوام الخمسة الماضية.

في الأساس اعتمد لبنان على مصادر ثلاث للدولار هي:

  1. تحويلات المغتربين.
  2. الاستثمار في قطاع العقارات.
  3. الاستثمارات في الدين العام عن طريق المصارف.

لكن المصادر هذه كلها، لم تعد كافية لتغطية عجز الميزان التجاري منذ عام 2011. إذ لم تعد الدولارات الداخلة إلى لبنان تكفي لتثبيت سعر الصرف. ازدادت الازمة خطورة لعد العام 2015 ومنذ ذلك الحين بدأ اصحاب المصارب تهريب لأموالهم المودعة بالعملة الصعبة وخاصة بعد الهندسات المالية منذ عام 2016 - 2017 إلى الخارج.

أضف إلى هذا كله، شجع رياض سلامة، في الأعوام الأربعة الماضية، المصارف على اتخاذ اجراءات استثنائية في نوع من شراء الوقت. كان هدف مصرف لبنان آنذاك شراء الوقت، ومقاومة نزيف العملة الصعبة، من خلال فوائد مرتفعة قادرة على جذب السيولة من الخارج، أو حتّى امتصاصها من داخل السوق اللبناني. اعتمدت رؤية سلامة على أن الخارج سيستنقذ لبنان، وقد تسعف الدول الصديقة البلد، لكن أمراً لم يحصل من هذا القبيل. الأمر تفاقم بشكل أكبر مع خسارة احد اكبر المصارف لاستثمارات ضخمة في كل من تركيا ومصر بين عامي 2017 و 2019. وهو ما استدعى تدخلاً من قبل حاكم المصرف لإعادة هندسة ديون بعض المصارف بتقديم هندسات مالية جديدةبما يقارب الـ5 مليار دولار لاستنقاذها.

 

ثورة 17 تشرين والإدارة الكارثية لسلامة:

بعيد ثورة 17 تشرين 2019، أصدر مصرف لبنان في الرابع من كانون الأول 2019 تعميماً يحمل رقم 536، حدّد بموجبه حداً أقصى للفوائد المدفوعة على الودائع عند 5% للدولار الأميركي، و8.5% لليرة اللبنانيّة. أما بالنسبة للودائع بالدولار الأميركي، فقد نصّ التعميم على دفع نصف فوائدها بالليرة اللبنانيّة. عنى هذا التعميم، نهاية حقبة الفوائد السخيّة لجذب التحويلات الماليّة، والعمل بدلاً من ذلك على ضبط السيولة الموجودة بقيود غير رسميّة وغير مقوننة. مع أولويّة حماية مصالح المصارف وأرباحهم، بدل البحث عن خيارات تتّجه نحو حماية عموم اللبنانيين والفئات الأضعف من تبعات الانهيار القائم.

في الوقت نفسه، ضخ المصرف المركزي كميات ضخمة من الليرة في السوق اللبنانية لسد ديون الدولة اللبنانية للمصارف. وبما أن التجار كانوا بحاجة إلى التداول بالدولار لاستيراد البضائع، فقد لجؤوا إلى الصيارفة والسوق السوداء. فوصل سعر الصرف إلى 1800 ل. ل. نهاية الـ2019. ومنذ ذلك الوقت تراكمت عوامل الانهيار وأسبابه، لكنّ الأزمة بلغت أوجَها العام الماضي مع تسجيل ميزان المدفوعات عجزاً قياسياً بلغ 9.98 مليار دولار. طوال هذه المدة، حاول رياض سلامة استنقاذ وضع القطاع المصرفي، في خطط "ضرب عشواء" فاقمت من الأزمة النقدية، وفجرتها.

ومن هذه القرارات: تطبيق رقابة على التحويلات الاجنبية لصغار المودعين دون قرارات رسميّة واضحة ومعلنة. وبدلاً من اعتماد هذه السياسات وفق قرارات رسميّة من مصرف لبنان، تضمن تساوي الجميع في مسألة تجميد هروب الودائع إلى الخارج. جاءت «الكابيتال كونترول» غير الرسمية  والمطبقة على صغار المودعين وليس المحظيين منه، لتفتح الباب أمام المصارف لتحبس سيولة المودعين الصغار في الفروع، وفتح باب هروب أموال كبار المودعين، أصحاب النفوذ في النظام المالي.

 

الهندسات المالية:

ما بين حزيران 2016، وكانون الثاني 2017، أدار حاكم مصرف لبنان واحدة من أكبر عمليات خلق النقد في لبنان وتحويله من "مال عام" إلى "مال خاص".

إذ ضخ المصرف المركزي أرباحاً استثنائية ضخمة إلى المصارف وكبار المودعين، قدّرت حتى نهاية تشرين الأول من العام 2016 بنحو 4.8 مليارات دولار.

حاز كبار المودعين على ما قيمته 2.4 مليار دولار من الهندسات المالية، وهو ما حقق لهم أرباحاً بقيمة تتجاوز 550 مليون دولار.

أما حجم كل ما قدمه المصرف المركزي للمصارف وكبار المودعين مع بعضهم البعض فوصلت إلى نحو 5.2 مليار دولار.

توصف هذه العمليات في تعاميم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على أنها: "بيع أدوات مالية سيادية بالليرة اللبنانية وشراء أدوات مالية بالعملات الأجنبية".

 

كيف تجري الهندسات المالية عملياً؟:

يقوم مصرف لبنان بشراء سندات دين بالليرة من المصارف (أي يسترد شهادات إيداع صادرة عنه وسندات خزينة صادرة عن وزارة المال)، ويدفع سعراً لكل سند يبلغ 139% وسطياً من السعر الأصل (أي سعر أصل السند، مضافاً إليه نصف أرباح الفوائد التي كان سيحققها حتى استحقاقه)، وبذلك تحقق المصارف ربحاً فورياً بمعدل 39% كحد وسطي.

في المقابل، تشتري المصارف سندات دين بالدولار (يوروبوندز وشهادات إيداع جديدة) بالقيمة نفسها لسندات الدين بالليرة التي استردها مصرف لبنان وتحتفظ بالربح الفوري المحقق.

باعت المصارف مصرف لبنان سندات دين بالليرة قيمتها (سعر الأصل) نحو 18 ألفاً و532 مليار ليرة (أو ما يعادل 12.3 مليار دولار) وتقاضت ثمنها (مع الربح) نحو 25 ألفاً و753 مليار ليرة (ما يعادل 17 مليار دولار).

توزعت الأرباح المحققة طيلة عام 2016،على 35 مصرفاً لبنانياً، إلا أن 4 مصارف منها حصدت نحو 71% من مجمل هذه الأرباح.

حقق بنك عوده وحدهمن الهندسات المالية،عائدات قُدرت بنحو 1.6 مليار دولار.

لجأ بعض المصارف الى جذب الودائع بالدولار لتوظيفها في "الهندسة المالية" والاستفادة من أرباحها عبر إغراء المودعين بعائدات مرتفعة (عمولة) بلغت في بعض الحالات (كما في بنك ميد)30% كحد وسطي، تُدفع فوراً، فضلاً عن الفائدة المترتبة على الوديعة.

في المقابل، اشترت المصارف من مصرف لبنان سندات دين بالدولار بقيمة 12.3 مليار دولار، بمعدل عائد وسطي يبلغ نحو 6% سنوياً، لتضمن أرباحاًإضافية لاحقة، ناتجة من الاستثمار في سندات الدين بالدولار تتجاوز قيمتها 700 مليون دولار سنوياً.

 

أدت العملية إلى زيادة مديونية الدولة (الحكومة ومصرف لبنان) دفعة واحدة بما لا يقل عن 10 مليارات دولار.

خلّفت العملية سيولة إضافية بالليرة لدى المصارف أفضت إلى ارتفاع نسب التضخم بشكل كبير.

 

من يتحمل ما وصلنا إليه اليوم؟

يسود اعتقاد شائع أنّ كل ما يشهده لبنان اليوم هو من تبعات الانهيار الاقتصادي الذي ظهر إثر ثورة 17 تشرين 2019. لكنّ القليل من التدقيق في ما يجري اقتصادياً، يشيرإلى أنّ أزمتنا اليوم لم تكن وليدة الانهيار الاقتصادي الذي أصاب لبنان منذ ما يقارب العامين فحسب، بل وأيضاً نتيجة قرارات مدروسة ومنظمة ومقصودة، تذهب إلى تدفيع اللبنانيين من أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة ثمن الأزمة، هو ما أفضى بنا إلى ما وصلنا إليه.

تشير أرقام البنك الدولي إلى أن ما تلقّاه لبنان من تحويلات من الخارج بلغ حدود الـ6.9 مليار دولار سنة 2020، وهو رقم كافٍ لتغطية عجز الميزان التجاري - أي الفارق بين صادرات لبنان ووارداته - السنة الماضية،.

علماً أن هذا العجز شهد انخفاضاً كبيراً خلال السنة الماضية نتيجة الظروف الإقتصاديّة المتردية.

وعليه، فإن القول بأن انهيار سعر صرف الليرة، ناتج عن افتقاد السوق للدولار، نتيجة حاجة البلاد للاستيراد وغياب التدفقات النقديّة الخارجيّة، هو قول غير دقيق علمياً. 

إذاً ما الذي أوصل الدولار اليوم إلى ما وصلنا إليه؟

في الإجابة على مثل هذا السؤال، ثمة حاجة للبحث عن:

- رسملة المصارف: حوى تعميم المصرف المركزي رقم 154، الذي طالب المصارف تأمين سيولة نسبتها 3% من ودائعها بالعملة الصعبة حتى شهر آذار من العام 2021، بنوداً حثّت فيها عملاء المصارف – أو المودعين – على إعادة جزء من الأموال التي قاموا بتحويلها في السنوات الماضية إلى النظام المصرفي اللبناني. أثارت تلك البنود استغراب المراقبين لعدم واقعيتها، فما معنى أن يصدر المصرف المركزي مثل هذه التعاميم، وما هي الصلاحيات القانونية التي تخول المصرف المركزي حث المودعين على إعادة أموالهم إلى نظام مصرفي متهاوٍ ومنهار؟.

لاحقاً، اكتشف الجميع أن هدف هذه البنود التعمية على الآليّة الفعليّة التي ستلجأ إليها المصارف لتأمين هذه السيولة: امتصاص الدولار من السوق الموازية.فانقلبت عمليّة اعادة الرسملة نحو مسار يعوّم سيولة النظام المصرفي، على حساب المعروض من الدولار في السوق المحليّة، وعلى حساب سعر صرف الليرة اللبنانيّة.

أمام هذه المعضلة، ما الذي فعله مصرف لبنان، ليغطي شح الدولار في السوق؟

  • السماح للمصارف بشراء الدولار النقدي من السوق السوداء مقابل شيكات مصرفيّة، او بالليرة اللبنانية نقدا او حتى من خلال شيكات مصرفية
  • خلق النقد لسداد ديون الدولة للمصارف بالليرة، وسداد الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة.

 

ما نشهده اليوم ليس نتيجة للأزمة الماليّة التي شهدها لبنان في تشرين الأول 2019.

  • ما نشهده اليوم هو نتيجة مباشرة لرفض التعامل مع أزمة الدين العام، وعدمالتفاوض مع المصارف على استحقاق السندات المقومة بالليرة اللبنانيّة (علماً أن قرابة الـ70% من ممتلكي سندات الدين هم المصارف).
  • تحرص الدولة إلى اليوم، على الالتزام بالدين وبمصالح الدائنين - بالرغم من الانهيار النقدي القائم -، مع ما يحمله ذلك من مراكمة كلفة الحفاظ على النموذج الاقتصادي القائم.
  • الحل الذي تفترضه أركان السلطة يقضي بمزيد من سياسات التقشّف والخصخصة والافقار للطبقات الوسطى والدنيا.
  • ما نشهده اليوم هو نتيجة للحلول التي قادهاحاكم مصرف لبنان، في ظل التحفظ عن المساس بمصالح النافذين في النظام المالي.

 

من سيدفع كلفة الانهيار؟

  • في ظل المنطق الحاكم على أركان الدولة اللبنانية اليوم، ثمّة افتراض بأن تتحمل الأغلبيّة الساحقة من محدودي الدخل النصيب الأكبر من الكلفة النهائيّة للأزمة، بدلاً من أن يتحملها المستفيدون من النظامَيْن السياسي والمالي في البلاد.
"

صحيفة الخندق