منذ انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019، ظهر نشاط وحضور بارز لجمعيات ومنظّمات غير حكومية في الساحات، وبشعاراتها ومشاربها المتنوعة شدّت انتباه اللبنانيين عموماً، كونها حاولت تسويق فكرة أنّها تعرف مَواطن الخلل في الكيان اللبناني، وتسعى لتنفيذ إرادة الشعب
الأنجأة كبديل عن الدولة؟
منذ انتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019، ظهر نشاط وحضور بارز لجمعيات ومنظّمات غير حكومية في الساحات، وبشعاراتها ومشاربها المتنوعة شدّت انتباه اللبنانيين عموماً، كونها حاولت تسويق فكرة أنّها تعرف مَواطن الخلل في الكيان اللبناني، وتسعى لتنفيذ إرادة الشعب، وادّعى أغلبها أنّه يمثّل شرائح واسعة من المجتمع اللبناني. أغلب هذه الجمعيات والمنظّمات يقوم على التمويل الأجنبي، وقسم كبير منه كان موجوداً في الساحة منذ حراك عام 2015، لكن جزءاً لا بأس فيه ظهر فجأة، بشعارات وخطاب ملفِت، كان بالإمكان عند تحليله معرفة هوية ونوايا الجهات التي تموّله.
بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 آب، عاد أغلب هؤلاء لينشطوا في تقديم المساعدات، وفي التحركات في الشارع. لكن أكثر ما يسترعي الانتباه والتيقّظ كان إعلان دول مانحة لهذه الجمعيات والمنظّمات، كفرنسا والولايات المتحدة مثلاً، أنّها لن تقوم بتسليم المساعدات لمؤسسات الدولة - لغياب الثقة بها بسبب الفساد – بل ستعمل على تسليمها لمنظّمات الأمم المتحدة وجمعيات المجتمع المدني اللبنانية.
***
إن السياق الطبيعي لنشأة أي مجتمع مدني في أي دولة ينبع في الأساس من نضال الشعب من أجل نيل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وإذا كان مفهوم المجتمع المدني – كما مفهوم الدولة – يتطوّر ويتبلور عبر التاريخ، ربطاً بالحاجة المستمرّة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الشعب والسلطة، إلا أنّ المراحل التي يمرّ بها هذا المفهوم تتفاوت بين مجتمعات وأخرى بفعل اختلاف الثقافات والخصائص الاجتماعية والدينية لكل مجتمع. وإذا نظرنا إلى مراحل تبلور وتطور المجتمع المدني كما عرَّفَها الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسي، سنجد أنّ هناك اتفاقاً بالمجمل على أهمية وجوده إلى جانب السلطة، لكن اختلفت نظريات الشيوعيين والرأسماليين حول حدود دور كل منهما ووظيفته.
في لبنان، كما في أغلب النظم السياسية العربية، نظام ينخره الفساد والتحاصص والمحسوبيات. الطبقة السياسية المشكِّلة للسلطة فيه تملك جمعيات ومؤسسات مصنَّفة على أنّها "مجتمع مدني"، تتغذى في الغالب من التقدمات الحكومية للجمعيات ولا سيما من موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية، وتعمل على رفد جهود الاستقطاب والتعبئة للفريق السياسي الذي تتبع له، وتنشط في مواسم الانتخابات لتحصيل الأصوات الانتخابية. ليس لهذا النوع من منظمات المجتمع المدني الذي من المفتَرَض أن يعبّر عن التوجّهات الثقافية والاجتماعية والسياسية للقوى الشعبية أي دور نهضوي يمكن أن يحسّن من ظروف عامة الشعب، كونه أسير لمصالح القوى السياسية التي أنشأته داخل المجتمع.
لكن في لبنان أيضاً – كما في كثير من دول ما يُسمَّى العالم الثالث - هناك نوع آخر من "المجتمع المدني" لا يتبع قوىً سياسية تقليدية. يُتَعارَف على تسميته بالـ"NGO’s المموَّل خارجياً"، ويذهب البعض إلى نعته بـ "قوى الأَنْجَأَة". لأنّ أي جمعية أو منظّمة غير حكومية لا يمكن أن تنشط وتستمر دون المال، لا بد أن ترتبط بمصدر تمويل، وفي الغالب، يكون هذا التمويل غربياً على وجه الخصوص. ينشَط هذا النوع من "المجتمع المدني" في لبنان منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي. ويمكن القول بأنّ السنوات العشر الماضية شهدت طفرة في وتيرة تكاثره وتضخّم حجمه. ولأنّ التمويل عنصر أساسي لاستمراره، على وقع الأزمات المتلاحقة، يفرض هذا الواقع تضخّماً في حجم التمويل الأجنبي لهذه المنظّمات. يتصدّر الأوروبيون الجهات المموِّلة لهذه الجمعيات والمنظّمات بشكل أساسي لأسباب مرتبطة بالحؤول دون نزوح اللاجئين في لبنان أو حتى اللبنانيين إلى أوروبا، ثم الأميركيين وأطرافاً دولية أخرى. لكن بالنظر إلى صعوبة تتبّع عمليات وأحجام التمويل القادم من أوروبا مقارنة بتلك الآتية من الولايات المتحدة، بسبب قوانين الشفافية التي تفرض نشر بيانات التمويل الخارجي للعامة، سنكتفي بتسليط الضوء على المُثبَت من التمويل الأميركي لبعض الجمعيات والمنظّمات اللبنانية.
في 24 أيلول عام 1973 ألقى رئيس البنك الدولي حينها روبرت ماكنامارا (وزير الدفاع الأميركي الأسبق) خطاباً في مدينة نيروبي الكينية خلال اجتماع مجلس محافظي مؤسسة البنك الدولييذكر الموقع الالكتروني للصندوق القومي لدعم الديمقراطية أنّه موّل مشاريع في لبنان بين عامَي 2016 و2019 بقيمة 4.184 مليون دولار أميركيصحيح أن التمويل الذي تدخله مؤسسة NED إلى لبنان يهدف إلى التأثير في الحياة السياسية اللبنانية اليومية، غالباً عبر محاولة تضخيم (هذه العبارة ترد بالحرف على موقع NED) أصوات يرَون أنها يجب أن تكون بديلة للقوى السياسية التقليدية، لكن يبقى أنّ التأثير لا يُقارَن بآخر يعمل على الاستثمار بعيد المدى. تقوم بعض المؤسسات الخاصة الأميركية بضخ أموال بأحجام أكبر من ما يضخّه NED في الساحة اللبنانية – كما في أغلب الدول العربية – بغرض التأثير الثقافي. فمثلاً عام 2017 وحده قدّمت إحدى مؤسسات الملياردير الأميركي جورج سوروس (مؤسسة الترويج للمجتمع المفتوح) 5،518،672 دولار أميركي لمؤسسَتَين لبنانيتَين تعنيان بالمجال الثقافي وتموّلان بدورهما مبادرات وبرامج ثقافية عديدة عبر جمعيات ومنظّمات ضمن عقود فرعية. وفي العام نفسه موّلت مؤسسة سوروس آنفة الذكر ومؤسسة "فورد" منظّمات وجمعيات ومؤسسات تُعنى بـ"الحركة النسوية، حقوق المثليين، إعداد كوادر وناشطين اجتماعيين، التوعية حول الزواج المبكر، التوعية حول الإنجاب المبكّر، التوعية الحقوقية، الأبحاث الاجتماعية .. إلخ" بما يناهز 8 ملايين دولار.
من المتوقَّع أن ترتفع هذه الأرقام في كشوفات عام 2019 المالية للمؤسسات الأميركية التي سبق ذكرها، كون كثيراً من المؤسسات التي وردت أسماؤها في كشوفات التمويل كانت ولا تزال تنشط في الحراك. المهم حالياً أنّ هذه المنظمات والجمعيات باتت تتقاضى مبالغ بالملايين عقب انفجار المرفأ، وكون الدولة بمؤسساتها لم تملك حق الاعتراض على قرارات الفرنسيين والأميركيين وغيرهم من الدول الغربية بشأن تسليم المساعدات مباشرة للجمعيات المموَّلة أجنبياً، تتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن حالة الوهن الذي وصلت وأوصلت اللبنانيين إليه.
كثير من الجمعيات التي تشنط بالتمويل الأجنبي اليوم كانت تكبر تحت أعين أجهزة الدولة، وفي كثير من الأحيان كانت السلطة التنفيذية تقف على خاطر هذه المنظّمات غير الحكومية، حول ما يجب وما لا يجب أن تفعله أجهزة الدولة