توصلت الرأسمالية –التي استغرقت بضعة قرون لتتبلور منسلخةً عن ماضيها الإقطاعي– إلى أسلوبٍ أذكى لإخفاء فصل الثروة عن العمال المنتجين لها؛ وذلك بدفعها لهم 'أجوراً'" لينجزوا نفس القدر من العمل الذي كان أسلافهم يجبرون على إنجازه."
موقع الديالكتيك والاغتراب عند ماركس
يُنشر هذا المقال بالشراكة مع صحيفة "المتلمِّس"، وهو من ترجمة علاء البريك هنيدي.
يعي كلُّ دارسٍ جادٍ للماركسية التمييزَ الذي أوردَه ماركس في مقدمته للمجلَّد الأول من رأس المال بين طريقة البحث وطريقة العرض، لكنه أشار في مناسبتَيْن على الأقل إلى ما اضطلع به توضيح الأمور لنفسه من دورٍ مُهمٍّ في عمله (Marx 1904: 14). فإذا أضفنا هذه الخطوة الأساسية إلى الخطوتين الأوليتين، وهي تُساويهما بالأهمية، سيكون مكانها بعد خطوة البحث –التي تمدُّه بموادَّ تتطلب التوضيح– وقبل خطوة العرض التي تجمع جلّ ما حلله من موادَّ بعد تعديلاتٍ تراعي –من وجهة نظره– فهم الجمهور... وتقبله.
يبرز هنا سؤال مُهمٌّ مفاده هل مِنَ الممكن أنَّ تقدِّم لنا المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 والغروندريسه (1857-1858) –اللذان كانا عمليه الرئيسيين المكرسين لتوضيح الأمور لنفسه، ولم يكن ينوي نشرهما– فهمًا أدقَّ لتفكير ماركس الفعلي إزاء الرأسمالية وغيرها من المسائل، مقارنةً بما يقدِّمه كتابه رأس المال (1867) الذي حظي بالاهتمام الأكبر؟ أو باختصار، هل يوجد تمييز فارِق يمكن أنْ نقيمه بين ما وصل إليه حول موضوع بحثنا وبين ما اختار –لأسباب تكتيكية بالغالب– عرضه للعامة؟
فمن جهة، ربما لم يُسقِط ماركس أو حتى يقلَّل التزامه بالديالكتيك والاغتراب، وهما مفهومان اضطلعا بدورٍ كبير في كتاباته غير المنشورة، بيد أنَّهما بالكاد يظهران –وغالبًا يتخفيان– في رأس المال. فلئن كان الأمر على هذا النحو، لربما أرضى ذلك معظم قُرَّائِه، إلا أنَّه شرَّع أمامهم... وأمامنا باباً لتأويل قدرٍ كبير من طروحاته بشكلٍ مغلوط. لكن من جهة أخرى، ثمَّة مقاربة ثانية للمسألة أعلاه مفادها أنَّ ماركس قد غيَّر رأيه فيما يتصل بأهمية الديالكتيك والاغتراب ودورهما في عمل الرأسمالية. هذا أمر وارد بطبيعة الحال، إذْ سبق وغيَّر رأيه في عديدٍ من الأمور –تغييره مثلًاً "العمل" (النشاط) إلى "قوة العمل" (إمكانية الانخراط في هذا النشاط) (Engels 1951: 67–72). لكن ما أنْ يقع أمرٌ كهذا حتى يسارع هو و/أو إنغلز إلى تصحيحه وشرح أسبابه، كما فعل إنغلز مع تصحيحه في الطبعة الثانية من البيان الشيوعي المقولةَ الافتتاحية القائلة بأنَّ تاريخ كل مجتمع موجود، وليس فقط تاريخ المجتمعات الطبقية، هو تاريخ صراع الطبقات (Marx and Engels 1998: 12, n.).
بيد أنَّه لم يصدر عن ماركس أو إنغلز ما يشي بتضاؤل دور الديالكتيك والاغتراب في رأس المال قياساً إلى دورهما وأهميته في مخطوطات 1844 والغروندريسه. والجدير بالذكر أنَّ ماركس أوردَ في رسالةٍ إلى إنغلز تعود للعام 1858 أنَّه إذا ما سمح له الوقت، فسيكتب شيئاً ليوضِّحَ إعادة بنائه العقلانية لطريقة هيغل الديالكتيكية، ما يشير إلى تمسكِه آنذاك بصيغة معينة من ديالكتيك هيغل، ويرى بأنَّ العديد من قرائه ما زالوا بحاجةٍ إلى مساعدةٍ خاصة للوقوف على ما يعنيه (Marx and Engels 1941: 102).
ماركسيتا لوي ألتوسير
لعل من أشهر التأويلات للماركسية –حين بدأتُ الاهتمام بهذه المسائل– نجدها في كتاب لوي ألتوسير "لأجل ماركس" (1965)، وفيه جادل أنَّ ماركس قد غيَّر من تفكيره فيما يتعلق بالديالكتيك والاغتراب، وأنَّ هذا التغيير قد وقع قبل كتابته البيان الشيوعي (1848)، فبذا لا تضطلع هاتان النظريتان في كتابه رأس المال (1867) سوى بدورٍ صغير جداً، هذا إنْ اضطلعت (Althusser 1966). من جهتي لم أقبل بهذا التأويل البتة. لكنّي شعرتُ على الدَّوام بالحاجة إلى أنْ أحدِّدَ بدقة عدم اتفاقي السابق مع ألتوسير، إذْ إنَّه وقعَ على شيءٍ ما "هناك"، إلَّا أنَّه أساءَ فهمه باعتباره اختلافاً مبكراً/متأخراً في تفكير ماركس عوضاً عن كونه اختلافاً في الجمهور الرئيسي الذي كان يحاول استهدافه وما اعتقدَ لزومه لتحقيق هذه الغاية.
دَفعَت إساءة الفهم هذه بألتوسير إلى التضخيم من تغيُّرات تظهر بالفعل في كتابات ماركس المتأخرة، كذا معاملتها كأنَّها ترجع إلى فترات أسبق. على كلٍ، بغية تحديد متى وقعت هذه التغيُّرات بالفعل، لا نحتاج إلا إلى النظر في الاختلاف بين مقدمة ماركس الأولى المُحاكة بالديالكتيك لعمله مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859) –مقدمة طويلة لم يُنهِها إطلاقًا ولم ينشرها– وبين المقدمة الجديدة الموجزة وغير الديالكتيكية التي حلَّت مكانها، فكانت بمثابة المصدر الأساسي لجلّ ما وُجِّهَ لماركس من نقد يصفه "بالحتمي الاقتصادي". يمكن الوقوف على واحد من الآثار الجانبية المؤسفة لهذه المقدمة الجديدة في كتاب [جيرالد أ] كوهين المؤثر نظرية التاريخ عند كارل ماركس: دفاع، والذي يعتمد بكثرة على هذه المقدمة، كذا في مدرسة "الماركسية التحليلية" المنبثقة عنه (Cohen: 1978). بيد أنَّ ماركسيةً منزوعة الديالكتيك لن تكون سوى ماركسيةٍ مفرطةٍ في حتميتها، كما يلهج نقّاد ماركس دون كلل، ولن تكون هذه الماركسية سوى الخطوة الأخيرة عند أفضل باحثينا الماركسيين، بمن فيهم كوهين –وهو صديق مقرب لي–، قبل أنْ يهجروا الماركسية برمتها.
ما أشدَّ ما كانت خيبة ماركس كبيرةً حين لم يجتذب الكتاب [المقصود مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي –م]، الذي ضحى لأجله بمقدمته الديالكتيكية، سوى بضعة قراء. وعقب هذه الخيبة بقليل، كان قد قرر تقديم تحليله العلمي، الذي كان يحضِّر له على مدار عقدين من الزمن، دون أغلب الإطار الديالكتيكي والمقولات التي أوصلته إلى هذا العمق من التحليل. تألف جمهور ماركس المستهدف من العمال القادرين على القراءة ومعهم مختلف أنواع الاشتراكيين، يُضاف لهم الاقتصاديون الأكثر فضولاً والأقل تحيَّزاً ممن ينجذبون إلى كتبٍ تَعِدُهم بشيءٍ جديد ولا تبتعد كثيراً –من منظورهم– عن المعايير "العلمية" المقبولة. ومن هنا إذا ما رأى بأنَّ لغة الديالكتيك لن تنجح في جذب العديد من هؤلاء القراء، فإنَّ الفشل التجاري لكتابه الصادر في 1859 ومناشدات إنغلز وأصدقاء آخرين لتبسيط عمله كفيلان بإقناعه في آخر الأمر. لكن لم يمنعه ذلك من أنْ يقتبس باستفاضة في مقدمته الثانية للطبعة الألمانية من مراجعةٍ روسية صدرت في ذاك الوقت أظهر كاتبها فهماً نسبياً جيداً لطريقته الديالكتيكية. بل إنَّ ماركس أتبعها بأفضل ملخصٍ موجز عن الديالكتيك لم أقع على مثله في أي مكانٍ ثانٍ (Marx 1958: 17–20). لكن ظل متن الكتاب، لسوء الحظ، وفياً لكل التنازلات التي قدَّمها في الطبعة الألمانية الأولى، بل واصل تقديم المزيد مع الطبعة الفرنسية التي صدرت كسلسلة لاجتذاب، مرة أخرى، أكبر عدد ممكن من الجمهور.
ما من شك أنَّ تقليل الديالكتيك في رأس المال (أقول تقليل لا إسقاط) جذب إليه عدداً أكبر من القرَّاء مقارنة بما كان سيجذبه خلاف ذلك، وبصفتي واحداً ممّن يشاركون ماركس في سياسته وأفكاره فإنَّني أدرك أهمية هذه الأعداد. لكنه دفع ثمن ذلك، وعلينا أنْ نعِيَ ما كان ذلك الثمن سواء في زمن ماركس أو زمننا هذا –إذْ لا تطابق بين الاثنين– وما إذا كان يمكننا فعل شيءٍ حياله.
طريقة ماركس الديالكتيكية
لا بد من تقديم موجزٍ مختصر لطريقة ماركس الديالكتيكية إذا ما أردنا معرفة ما الذي قلَّل منه في رأس المال على وجه الدقة وما كلَّفه ذلك وكلَّفنا. والمكان المناسب للبدء هو فلسفة العلاقات الداخلية المُستقاة إلى حد كبير من هيغل، وتنصُّ على أنَّ كل شيء في الواقع مترابط داخلياً بكل شيء آخر، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وأنَّ هذا كله يتطور – وإنْ لم يكن بالتساوق على الدوام – بطريقة أو بأخرى بسرعة أو بأخرى وفي اتجاهٍ أو آخر. من وجهة النظر هذه، يغدو كل شيء "علاقة"، علاقة بالغة التعقيد، و"سيرورة" بالغة الطول، وما من طريقة سهلة لتحديد أين تبدأ أي منهما وأين تنتهي. أما البديل الأكثر شيوعاً فهو فلسفة العلاقات الخارجية، حيث يصوَّر كل شيء في الواقع على أنَّه جزءٌ منفصل، أو "شيء" منفصل (أو "عامل" كما تقول العلوم الاجتماعية)، متمايزٌ منطقياً وساكنٌ إلى أنْ يأتي أحد ما أو شيء ما ويقيم علاقة معه أو يتسبب في تحريكه، وعادةً ما يكون كِلا هذين التغيُّرين محدوداً وسهلَ الملاحظة نسبيّاً.
حين نواجِه هذا الخيار فإنَّ أغلب الناس، ومنهم أنا، سنفضّلُ على الأرجح اختيار فلسفة العلاقات الخارجية، لأنَّ العمل وفق هذه المقاربة يبدو أسهل، إنْ لم يكن طبيعياً أو عادياً، فيما ستمتدُّ أي دراسة على أساس فلسفة العلاقات الداخلية إلى الأبد. كان الحال ليكون كذلك مع ماركس فيما لو لم يتقن عملية تجريد –أو التركيز على أو تسليط الضوء على أو الاقتصار على– جوانب محددة مما يقع أمامه من موادَّ بغية إيلائه اهتماماً خاصاً. وقد أفضى ماركس في رسالةٍ تعود للعام 1858 إلى إنغلز عما يجتاحه أحياناً من إحباط حين يكون عليه تحديد مقدار ما يجب تضمينه من كُلٍّ مترابط داخلياً في مفهومٍ بعينه، بيد أنَّه يقول: "ما من طريقةٍ أخرى لتجنب الاضطرار للتعامل مع كل شيء في إطار كل علاقة معينة" (Marx 1941: 106). ففي عالمٍ تمتد فيه كل علاقة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر لتدخل في كل شيء آخر، قضى ماركس الكثير (الغالب؟) من وقته في التركيز على ما يهمه بشكل خاص بصدد تلك الحالة (أو تلك المشكلة) دون أنْ يُغفِل ما يستحق الإضافة ودون أنْ تُربِكَهُ كثرة الاحتمالات. (ما يزيد تعقيد الأمور أنَّ مصطلح "التجريد" يُستخدَم في كتاباته بثلاثة معانٍ أخرى –ما قد يفسر صعوبة فهمه عند أغلب الناس– لكن ما نتوخاه هنا لا يتطلب منا التطرق إليهم تفصيلاً) [بصدد معانٍ أخرى للتجريد راجع Ollman (2003: 60-62)].
ما يهمنا أنَّ الفروقات الناجمة عن استخدام ماركس لعملية التجريد تقع في ثلاثة مستويات مختلفة، وقد أسميتها "تجريد النطاق" (تحديد النطاق المكاني والزماني المبحوث)؛ "تجريد نقطة الانطلاق" (أيُّ السمات أو مجموعة السمات المترابطة يجري انتقاؤها لتكون بمثابة نقطة انطلاق يعرض منها النظام أو يشيده ويؤكد على أنَّها تأتي أولًا)؛ "تجريد مستوى التعميم" (أيُّ الفترات التاريخية يجري رؤيتها كلياتٍ منفصلةً يُجرّد منها "النطاقات" و"نقاط الانطلاق" الأنسب لتحليل "قوانين حركتها" المميزة).
أما المستويات التعميمية الخمسة التي يعاملها ماركس على هذا النحو فهي من الأعم إلى الأخص: 5) الوضع أو الشرط الإنساني العام (ما يشترك به البشر عبر التاريخ)، 4) التاريخ الطبقي (ما تشترك به المجتمعات المنقسمة طبقياً)، 3) الرأسمالية (ما يفصل الرأسمالية بعد أنْ غدت نمطاً إنتاجياً مهيمناً عن المستويين التعميميين السابقين وحتى أي وقت تكف فيه عن كونها كذلك)، 2) الرأسمالية الحديثة (المرحلة الأحدث من المجتمع الرأسمالي حيث ظهر عدد من التطورات الجديدة وشرعت في التفاعل بعضها مع بعض إلى حد تطوير قانون حركتها الخاص ضمن قانون الحركة الرأسمالي الأوسع والأعم والذي يظل قائماً)، 1) مرحلة هنا والآن (كل ما تعطيه المستجدات من معنىً محدد للظروف والأحداث والأشخاص). ولئن انصبَّ تركيز ماركس في غالبيته على الرأسمالية بالعموم (المستوى الثالث)، يمكن العثور على كل هذه المستويات التعميمية في العرض [المقصود عرض ما توصل إليه في رأس المال] حيث تتداخل قوانين حركتهم المختلفة وتتفاعل وتستمر، أقلَّه في ممارسة تأثيرٍ ما على بعضها بعضاً.
الجدير بالذكر أنَّ ماركس قد تمتع بقدرٍ كبير من المرونة في تجريد (وإعادة التجريد حين يكون ذلك مفيداً) النطاق ونقطة الانطلاق ومستوى التعميم الذي يرتئيه لدراسةٍ معينة، إضافةً إلى المرونة في طريقة عرض ما توصل إليه لقرَّائه؛ بفضل الاشتغال وفق فلسفة العلاقات الداخلية، وما تمحوه هذه الفلسفة من حدود مطلقة كانت لتضغط عليه. وفي حين نأخذ بالاعتبار ما يمكن أنْ تخبرنا به حواسنا الخمس عن الواقع، إلّا أنَّ الديالكتيك هو ما سمح لماركس بإيجاد طريقه عبر النظام المترابط داخلياً والمتطور بسرعة والذي اختار بحثه والكشف عنه. لكن هذه المرونة نفسها مسؤولةٌ عن مرونة معاني مفاهيم ماركس الرئيسية، إذْ تتمدد من معانٍ ضيقة إلى واسعة، كذا مسؤولة عن شعور الريبة لدى قرّائه الذين يجهلون مصدر هذه الممارسة. فحين أعلن فيلفريدو باريتو "Vilfredo Pareto"، وهو عالم اجتماع إيطالي وأحد نقاد ماركس، أنَّ "كلمات ماركس أشبه بالخفافيش، بوسعك أنْ تتوسَّم فيها طيوراً وفئراناً على السواء"، كان يعبِّر عمّا خَبِرَه العديد من أتباع ماركس ليس إلا، بيد أنَّهم لم يُقدِموا على التعبير عنه بهذه الصورة الأدبية (Pareto 1902: 332).
وفي هذا الصدد، تناول إنغلز هذه المشكلة بإيجاز في مقدمته للمجلد الثالث من رأس المال، لكنها لم تُحَلّ على نحوٍ مُرضٍ. فعلى سبيل المثال، أشار إنغلز إلى أنَّ نقاد ماركس مخطئون باعتقادهم أنَّ أعمال ماركس:
"[تزودهم] بتعريفات ثابتة وجاهزة تصلح لكل أوان. ومن الجلي تماماً أنَّه حينما تكون الأشياء وعلاقاتها المتبادلة مُدرَكة وليست أمراً ثابتاً بل متغيراً، فإنَّ صورها الذهنية، أي المفاهيم، هي بالمثل عرضة للتبدل والتحول؛ فلا تُحشَر في إطار تعريفات جامدة، بل تُعالج في مجرى عملية تكوّنها التاريخي أو المنطقي". (Engels 1959: 13–14)
لكن ما يُغفَل هنا هو الدور الذي تضطلع به عملية التجريد، إلى جانب ما يدعوه إنغلز بالمجرى "التاريخي والمنطقي"، في إرساء الحدود لما يريد ماركس توصيله عبر إحدى مقولاته في حالةٍ من الحالات، وهذه الحدود كثيراً ما تتغير بتغير الحالة. ولا يمكننا اكتساب مرونةٍ كافية، كمرونة ماركس، بغية تبديد "مشكلة باريتو" إلّا عبر معرفة مصدر هذه الممارسة والاعتياد على استخدام ماركس لها.
أولى الفوائد التي يجنيها ماركس من وضع عملية التجريد موضع التنفيذ هي مساعدته في التركيز على مجموعةٍ من الأنماط الديالكتيكية نجدها في جميع المستويات التعميمية المذكورة آنفاً وفي العالم الطبيعي أيضاً. ومن بين المقولات الأهم التي يستخدمها للإشارة لهذه الأنماط مقولة "تحول الكم إلى كيف" و"التماثل والاختلاف" و"المظهر والجوهر" و"وحدة وصراع الأضداد" و"نفي النفي" و"التناقض" بلا شك. يصف ماركس التناقض الهيغلي بأنَّه "منبع الديالكتيك" ويستخدم هذه المقولة بكثرة مقارنةً مع غيرها من المقولات (Marx 1958: 596, n.). بيد أنَّ جميعها تتشارك وظيفةً تتيح لنا التركيز على العلاقات المعقدة أو التغير (أو كليهما)، ما يجعل منها ديالكتيكية، فليس من السهل عليك أنْ تراها أو تفهمها دون معونة هذه المقولات. إلى جانب ذلك يمكن أيضاً –وغالباً ما يكون هذا مفيداً جداً– الجمع بين بعض المقولات، فمثلًا يتيح لنا "تحول الكم إلى كيف" تتبع تطورٍ يجري في تناقضٍ ما في سبيله إلى الحل. هكذا، تتكوَّن الخطوات الثلاث الرئيسية في طريقة ماركس الديالكتيكية من فلسفة العلاقات الداخلية وعملية التجريد والمقولات الديالكتيكية، وينبغي دراستها كلها واستخدامها وفق هذا الترتيب بالضبط، لأنَّ ما ستأتي به الخطوة الأولى، أي العلاقات الداخلية، ستبني عليه الخطوتان التاليتان.
نظرية ماركس في الاغتراب
لقد شددت، حتى الآن، على أهمية طريقة ماركس الديالكتيكية في فهمه للرأسمالية، وهي أهمية تفوق ما يمكن للمرء أنْ يستشفه من ظهورات الديالكتيك في رأس المال. وقد ذكرت سابقًا أنَّ الشيء نفسه ينسحب على نظرية الاغتراب، التي اضطلعت بدورٍ هام مماثل في كتابات ماركس المكرسة لتوضيح الأمور لنفسه، لكنها حظيت باهتمام أقل مقارنةً بالديالكتيك في أعماله المنشورة. وفيما يتصل بالاغتراب، فالفارق الذي أرغب في بسطه هنا يتضح جليًا من الصفحات الأولى لـ رأس المال. فبعد تقديمه "السلعة" –ما يُنتَج بغرض البيع لا الاستخدام– بوصفها الشكل المميز للثروة أنى يحضر نمط الإنتاج الرأسمالي، يتابع ماركس ليصف الخصائص الرئيسية لكل السلع في كونها مفيدة وقابلة للتبادل، أو أنَّ للسلعة "قيمة استعمالية" و"قيمة تبادلية". يجري لاحقًا تقديم الشكل الثالث للقيمة، أي "فائض القيمة"، الذي يسلط الضوء على طبيعة الاستغلال في ظل الرأسمالية، بيد أنَّ المشكلة التي أثيرها لا تستلزم الذهاب إلى ذاك الحد. إذْ شغلي الشاغل ههنا يتمحور حول بحث ماركس المتعلق بطبيعة "القيمة"، أو "القيمة في العموم" –حيث "القيمة الاستعمالية" و"القيمة التبادلية" وفائض القيمة ليست إلّا أوجهها الرئيسية–، وهو بحث غير مكتمل رغم ما أفرده له من صفحات.
في حين تشكِّل العلاقة بين مقدار القيمة المنتجة ووقت العمل المبذول في إنتاجها موضوعة تتكرر في كتابات ماركس المنشورة، ويرد التماثل بين القيمة والعمل عدة مرات، إلَّا أنَّ رأس المال يقصر عن إعطائنا وصفًا كاملًا حول نوع العمل المبذول في إنتاج القيمة. وهكذا، على أساس تمييزه بين "كمية" و"نوعية" العمل المبذول في إنتاج القيمة، يضع ماركس وصفه المعروف لهذا الأخير بقوله إنَّه سلعة تتخذ شكل قيمة تبادلية "حين توضَع في علاقة قيمة أو علاقة تبادل مع سلعة أخرى من نوع مختلف"، أي حين لا يوجد ما يمنعها من أنْ تصبح متاحة للتبادل مع السلع الأخرى (Marx 1958: 60). نتعلم، في موضعٍ آخر، شيئًا عن العمال المنخرطين في هذه العملية حين يقول ماركس "قبل دخوله في عملية العمل، فإنَّ عمل العامل قد اغتربَ عنه ببيعه قوة عمله [للرأسمالي]... لتتجسد هذه القوة في منتوجٍ غريب عنه" (Marx 1958: 570–1). في حين يُستخدَم مفهوم "الاغتراب" هنا، وكما في غير مواضع من رأس المال، إلّا أنَّ معناه يقتصر في الغالب على "الانفصال بالعموم"، ولا يشمل معظم ما ينطوي عليه هذا الانفصال أو جملة ما ينتج عنه. بيد أنَّ الاقتباس أعلاه ضربٌ من الاستثناء، إذْ يلحظ أنَّ إحدى نتائج العمل المغتَرِب تتمثل بكون "منتوج العامل غريبًا عنه"، لكن بالوسع اعتباره إشارةً مفادها أنَّه لم يغير رأيه في نظريته عن الاغتراب، التي لا تحظى بوصفٍ كامل إلَّا في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 [بالأصل 1944 وهو خطأ مطبعي –م].
في تلك المخطوطات، لا في غيرها، سنعلم أنَّ العمل المغترب يتألف من أربع علاقات مترابطة فيما بينها: 1) ينفصل العمال عن نشاطهم الإنتاجي (إذْ يخبرهم شخصٌ آخر بما عليهم فعلُه وكيفيةُ فعلِه ومتى يشرعون به ومتى يتوقفون)؛ 2) وعن منتوج عملهم (أيًا كانت حاجاتهم، فليس لديهم الحق في استعمال هذه المنتوجات أو إبداء رأي أو حتى معرفة ما يحدث لها)؛ 3) وعن طبقة من الناس، طبقة الرأسماليين، الذين يتحكمون بكلٍ من نشاطهم الإنتاجي وما ينتج عن هذا النشاط من منتجات (لا يمكن للمرء إقامة علاقات إنسانية مع أناسٍ لديهم سلطة فائقة عليه ولا يأبهون إلا بتعظيم أرباحهم)؛ 4) ينتج عما سبق، أنَّ العمال يجري فصلهم عن الكثير من إمكاناتهم بوصفهم كائنات بشرية، أو ما يرومون أنْ يكونوه أو بوسعهم أنْ يكونوه في ظل ظروفٍ أخرى (لا يمكن للمرء أنْ يخضعَ لهذه الانفصالات لمدة طويلة دون تضرر العديد من الملكات الذهنية والقدرات الجسدية، والتي تميزُ نوعنا) (Marx 1959: 69–80).
بيد أنَّني لا أعتبر هذا الوصف أكثر من بداية جيدة لما يقتضيه تبيان دور نظرية الاغتراب عند ماركس في تحليله للرأسمالية، لكن تأكيده على ما ينطوي عليه الاغتراب من أشكال مختلفة من الانفصال، لا بد أنْ يكون كافياً لتحضير القراء لما سيأتي لاحقاً. أما أنا فأود منك أنْ تبقي في ذهنك أنَّ ماركس لم ينبذ نظريته في الاغتراب، كذا أنَّه يرى موضوع بحثه برمته بوصفه على الدوام موضوعاً مترابطًاً داخلياً. إنَّ هذه الجملة الأخيرة ذات أهمية كبرى.
إذًاً، ما الذي يحدث للسلعة كي تمتلك، بكلمات ماركس، "قيمة أو علاقة تبادل مع سلعةٍ أخرى من نوعٍ مختلف؟" تأتي الإجابة بأنَّ ما "يحدث إنما هو الاغتراب!". خلال الأزمنة المبكرة من تاريخنا، غالباً ما اعتبرَ أفراد جنسنا البشري ممن صنعوا أو دجنوا أو اصطادوا براً وبحراً أو حتى عثروا على شيءٍ ما، أنَّ لديهم ارتباطًا شخصي و/أو جمعي مع ما "ينتجونه" أو "يعثرون عليه"، ما يسمح لهم باستخدامه وفق ما يحلو لهم. فلم يكن ثمَّة انفصال، على شاكلة الانفصال الموصوف أعلاه، بين ناس ذاك الزمن وبين نشاطهم الإنتاجي أو منتوجهم أو استخدامه من قبل أي فردٍ ضمن جماعتهم. لكن ذلك تغير مع مقدم المجتمع الطبقي حيث تملكت الطبقة الحاكمة القدرة على فصل المقدار المتنامي من الثروة عن منتجي الثروة الحقيقيين. والحقيقة لم يفتقر الحكام يوماً إلى تجميل تبريراتهم لما يفعلونه، لكن ليس بوسعي تصديق أنَّه لم يكن هناك الكثير من الأقنان والعبيد ممن علموا مَن ينتِج الثروة ومَن يجني ثمارها خلا فضلة يتركونها لسدِّ حاجات إطعام وإسكان مَن يقومون بالعمل. وبقدر ما أسهمت طريقة استغلالهم، على نحوٍ ما، بخلق بعض اللَبس فيما يتصل بأوضاعهم، إلا أنَّنا نستشف ظهور نوعٍ من الاغتراب يصفه ماركس لاحقًا بأنَّه: اغترابٌ يجمع الاستغلال غير المقيَّد مع إساءة فهم كاملة لكيفية اشتغاله.
في المقابل، توصلت الرأسمالية –التي استغرقت بضعة قرون لتتبلور منسلخةً عن ماضيها الإقطاعي– إلى أسلوبٍ أذكى لإخفاء فصل الثروة عن العمال المنتجين لها؛ وذلك بدفعها لهم "أجوراً" لينجزوا نفس القدر من العمل الذي كان أسلافهم يجبرون على إنجازه. وقد أعطى هذا، وما زال يعطي، انطباعاً عند العمال في مجتمعنا بأنَّهم "أحرار" في اختيار العمل أو عدم العمل، حتى وإنْ كان الأجر المعروض عامةً لا يزيد إلّا قليلاً عما احتاجه العمال في الماضي للعيش ومواصلة العمل. إلى جانب ذلك فالدفع للعمال لقاء عملهم يسمح لهم في ظل الرأسمالية بشراء ما يحتاجونه من السوق، ما يؤخذ عادةً كعلامة أخرى من علامات "حريتهم"... إلى أنْ يدرك المرء أنَّ نمط الحياة الذي تتيحه هذه الأجور –خاصةً في زمن ماركس– لا يختلف سوى اختلاف طفيف، إنْ اختلفت أصلاً، عن نمط حياة أولئك الذين تلقوا المساعدات من مالكيهم وسادتهم لإبقائهم لائقين كفاية للعمل. بل وفي معاملتهم أجورهم على أنَّها السبيل الشرعي الوحيد لشراء ما يحتاجونه، فإنَّ العمال يقرون بأنَّ إنتاجهم كل ثروة المجتمع لا يعطيهم الحق باستخدام أيّ منها. وبهذا، حقق النظام الرأسمالي أخيراً ما كان ينشده حكَّام أيام زمان: عمالٌ يُستَغلونَ لأقصى حد، ويعتقد أغلبهم بأنَّهم يُعامَلون "بإنصاف" طالما يُدفَع لهم ما يوعدون به في الوقت المحدد. ما يجلبه ماركس تحت مجهره في نظريته عن الاغتراب هو هذا الفصل بين هؤلاء العمال ونشاطهم الإنتاجي ومنتوجهم وأرباب عملهم.
حالما يتسنى للاغتراب أنْ يأخذ مجراه، فإنَّه يشرع في الانتشار متجاوزاً الأشخاص المتأثرين مباشرةً ببقية المجتمع الرأسمالي عبر عملية أسماها ماركس "تحولات القيمة"، أو حركة الخصائص الأميز للقيمة عبر الاقتصاد. تستفيد هذه الحركة العضوية من عملية التبادل التي يجري من خلالها إرسال ما يُنتَج في ظل شروطٍ رأسمالية إلى الجهات الأربع للنظام حاملة معها علاقات الاغتراب الخاصة بها. فيتأثر كل من الشكل (كيف تظهر للآخرين) ووظيفتها (أو كيف تتفاعل مع الظروف الجديدة التي تجد نفسها فيها). ومن السهل رؤية ذلك في ضروب التشوهات المرتبطة بـ"صنمية" السلعة، حيث تُفهَم العلاقات الاجتماعية المعقدة بشكلٍ خاطئ على أنَّها علاقات بين أشياء. باستثناء أنَّه ليس من السهل إدراك هذا كخطأ، لأنَّ الجزء الأكبر مما يراه ويسمعه غالبية الناس في ظل الرأسمالية قد فككته لهم بالفعل فلسفة العلاقات الخارجية التي يستخدمونها للتفكير في أي أمرٍ من الأمور (يمكن رؤيتها على أنَّها ليست سوى شكل آخر من أشكال الانفصال المتجذر في اغترابهم/اغترابنا المشترك).
لئن بدى تحوّل القيمة في البداية أشبه بحركةٍ عضوية وحيدة الاتجاه ضمن كلٍ مستقرٍ نسبياً، فسرعان ما يكشف هذا التحول عن نفسه أنَّه، في الوقت عينه، حركة دائرية تنتهي بتجديد إنتاج التحول نفسه في المقام الأول. ألم يزل العمال مجبرين على بيع قوة عملهم وتسليم ما ينتجونه إلى الرأسماليين؟ لقد بدأت هذه الحركة العضوية الأساسية تحوز على تأثيرٍ متعاظم على الحركة التاريخية الأوسع (التطور الذي يجري في الكل الرأسمالي عبر الوقت بفعل تحول الكم إلى كيف) والتي كانت هذه الحركة العضوية جزءاً لا يتجزأ منها. وسرعان ما انسبك التفاعل المتنامي بين الحركة العضوية لتحولات القيمة والحركة التاريخية للكل في حركة واحدة يدعوها ماركس "قانون حركة" النظام برمته. ليكون "كشف"، أو تبيان "قانون حركة" الرأسمالية هذا –حيث كل قانون هو "ميل"– "غاية" ماركس من كتابته رأس المال (Marx 1958: 10).
ما يمثله هذا التغير الكبير قياساً على ما جرى سابقاً، يمكن ملاحظته في حياة كل من العمال ومنتجاتهم. فإلى جانب ما يدفعه العمال من أعصابهم وعضلاتهم نتيجة الإجهاد في العمل والغبن في الأجر، فإنَّ أغلبهم –بمن فيهم أولئك أصحاب "التعليم" الأفضل– يسأل عن طبيعة مجتمعنا الحالي وموقعهم فيه مقارنة مع عمالِ أزمنة خلَت. أما فيما يتصل بالمنتجات –والتي جرى "تحريرها" من أي مطالبات تجاه مَن أنتجها– فإنَّها تكتسي شكل "ملكية أحدهم الخاصة"، وهذا الأحدهم هو الرأسمالي، الذي بوسعه –إذا ما أراد– استخدام قسمٍ من هذه المنتجات لتوظيف عمالٍ بغية إنتاج المزيد منها.
لكن أين "القيمة" أو "القيمة بالعموم" من كل هذا؟ الإجابة إنَّها في كل مكان. باستثناء ما يورده ماركس عن القيمة في بداية معالجته للإنتاج الرأسمالي في رأس المال، فقد عدتُ إلى علاقات اغتراب العمل في مخطوطات 1844 لفهم منشأ "القيمة" والنصف الغائب من بُعدها "النوعي" حالما تبدأ الرأسمالية في الانتشار. فعبر اغترابه، وعبر فصل العمال عن نشاطهم الإنتاجي ومنتجاتهم والأشخاص المتحكمين بالنشاط والمنتجات، يغدو العمل "مجرداً وعاماً"، يغدو من الممكن إنتاج السلع دون أي روابط واضحة مع مَن أنتجها، ما يجعل من مبادلتها مع سلعٍ أخرى أمراً سهلاً. فلم يكن من الممكن "للقيمة"، كما يستخدمها ماركس، أنْ تظهر أو تعمل كما في الرأسمالية، ما لم تنطوِ هذه العلاقة المعقدة –لا تنسَ أنَّ كل شيء عند الماركسية إنما هو علاقة– على كامل نظرية ماركس عن الاغتراب.
خاتمة:
يوفر الاغتراب والديالكتيك، محورا هذه الورقة، نقطتي انطلاق مثالية لنرى منهما عمل الآخر، لكن يمكن معاملتهما بوصفهما من أهم تناقضات المجتمع الرأسمالي، وأقلهما إدراكاً. فمن جهة، يتحمل الاغتراب مسؤولية أسوأ مشاكل الرأسمالية... وألغازها، لما يحمله من سجلٍ في فصل ما لا يمكن فصله دون تشويه، وما يسهم به في خلق القيمة وتحولاتها اللاحقة، بما في ذلك ما يأتي به الأخير من صنمية. ومن جهة أخرى، يضطلع الديالكتيك بدورٍ يحوز القدر ذاته من الأهمية في توضيح وإجلاء هذه الألغاز وما ينطوي عليه من حل جزئي، على الأقل، لتلك المشاكل (يتوقف الحل الكامل على ثورة عمالية ناجحة)، بفضل تشديده على العلاقات الداخلية و"الصورة الأكبر"، إلى جانب ما تبديه عملية التجريد المصاحبة له من مرونة. وفيما يتصل بالأولويات، أوضح ماركس أنَّ ما يحتاج إلى "الشرح والتفسير" ليس "الوحدة" المميزة للعالم الطبيعي بل "الانفصالات" التي بدأت بالظهور مع المجتمعات الطبقية وبلغت ذروتها مع انتشار الرأسمالية. وقد قدمت نظريتاه في الاغتراب والديالكتيك مساهمات كبيرة لهذا الشرح، لكنك لن تُخرِج أفضل ما في هاتين النظريتين إلا بتطبيقهما سوية.
لئن كان من الأفضل أخذ الاغتراب والديالكتيك سويةً، فمرد ذلك لا أنَّ كلتا النظريتين تزود الأخرى بنظيرها الأمضى والأكثر اتساقاً، بل لأنَّ كل منهما تحتاج الأخرى لتبيان ما يمكن أنْ تقوم به. وزيادةً على ما سبق، فإنَّ توضيح التفاعل بين هاتين النظريتين ينبغي له أنْ يزيد من فهمنا لعمليات النظام الرأسمالي حيث تواصلان الاضطلاع بأدوارٍ مهمة، وإنْ كانت متناقضة. وبالنظر إلى مكانتهما المركزية في تحليل ماركس –تحليله الذي قام به ليعمق فهمه للرأسمالية [المقصود أعماله غير المنشورة –م] لكنه اختار عدم التشديد عليهما في رأس المال– وما توصلتا إليه هناك، هل يكون من المبالغة قولنا أنَّ نظرية الاغتراب ونظرية الداليكتيك قد تكونان أهم نظريات ماركس؟ ماذا عن نظرياته الاقتصادية؟ لكن إنْ كان الاغتراب يشغل نصف ما يوصله مفهوم "القيمة"، وكان الديالكتيك هو ما يربط نظريات ماركس الاقتصادية بعضها مع بعض ويسمح له بمعالجتها كما فعل، عندئذٍ تستحق كتابات ماركس غير المنشورة –حيث نجد هناك معظم أعماله عن الاغتراب والديالكتيك– اهتماماً بقدر اهتمامنا بكتاباته المنشورة.
في الختام، تهيمن اليوم على العلوم الاجتماعية "حماقة" مستوحاة من الرأسمالية تتمثل في تفكيك عالمنا المترابط داخلياً إلى أجزاء أصغر فأصغر قابلة للقياس الكمي بحيث تخفي مشاكلنا الأكبر، وبالنظر إلى هذه الحقيقة فإنَّه من غير المقبول أنْ نهمل دراسة نظريتي ماركس عن الاغتراب والديالكتيك ومن غير المقبول أنْ تكون هاتين النظريتين الأقل فهماً من بين نظرياته الأخرى. زد على ذلك أنَّنا لم نبدأ بمناقشة التأثيرات الكبرى لتفاعل الاغتراب والديالكتيك على الصراع الطبقي. فمن مصلحة أي طبقة الإبقاء على كل شيءٍ مفصولاً عن كل شيء آخر؟ وكيف يمكن لمقاربةٍ أكثر ديالكتيكية تشدد على إعادة تلك الروابط المقطوعة أنْ تصحح ذلك كله؟
كل هذا يحتاج إلى تغيير!
- المراجع:
Pareto, Vilfredo (1902) Les systeme socialiste vol. 2, Paris: Giard et Brière.
"Related Posts
عالم سياسة ومفكر ماركسي