Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

بما يخص الصراع الإسرائيلي العربي فالتغيير لا يكون إلا عبر قتال الهياكل الأيديولوجية الإسرائيلية القائمة، للتحرر من قيودها والعمل نحو التحرر الحقيقي. المفارقة في الموضوع، أن جيجك نفسه الداعي إلى هذا التفكيك، قد وقع في شراكه بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023

حيدر المقداد

طوفان جارف للأيديولوجيا الإسرائيلية

قدم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك وجهة نظر مميزة حول دور الأيديولوجيا في تشكيل فهمنا للعالم ومكانتنا فيه، إن عمل جيجك متجذر في الاعتقاد بأن الأيديولوجيا ليست شيئاً خارجاً عن حياتنا اليومية، بل هي جزء جوهري من واقعنا. من وجهة نظره، تعمل الأيديولوجيا في الخلفية، وتشكل تصوراتنا ورغباتنا واختياراتنا دون وعينا الصريح. يشير جيجك إلى هذه الظاهرة باسم "الأيديولوجية اللاواعية". هذه الأيديولوجية اللاواعية موجودة في لغتنا، ورموزنا الثقافية، وأعرافنا الاجتماعية، وحتى في أنشطتنا التي تبدو محايدة. يؤكد جيجك أن الأيديولوجيا لا تقتصر على الأنظمة السياسية أو الدينية بل تمتد إلى جميع جوانب وجودنا. إنها موجودة أيضاً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي كما يبدو واضحاً لنا في معركة "طوفان الأقصى" حيث كل إذاعة إعلامية غربية وإسرائيلية تشوه الواقع وتنقله مشوهاً للمشاهدين بما يصب بمصلحة الأيديولوجيا التي تخدمها. ولذلك يجب أن ننظر إلى الحرب ضد غزة من جهة "نقد الأيديولوجيا" حتى نتمكن من رؤية الرسالة الحقيقية وراء البروباغاندا الغربية والإسرائيلية.

من الأمور المركزية في فلسفة جيجيك فكرة أن الأيديولوجيا تخلق نوعاً من الوهم، وتشوه تصورنا للواقع. وهو يستمد الإلهام من نظرية التحليل النفسي لجاك لاكان، وخاصة فكرة "الآخر الكبير"، وهو النظام الرمزي الذي يشكل فهمنا للعالم. الأيديولوجيا، بحسب جيجيك، تبني هذا "الآخر الكبير" وتؤثر على سلوكنا. يرى جيجك أن الأيديولوجيا تعمل من خلال تقديم نسخة مشوهة ومتخيلة من الواقع تخفي تناقضات عميقة. ويمكن رؤية هذا التشويه في الطريقة التي تقدم بها الأيديولوجيا السياسية الإسرائيلية رؤيتها المثالية للمجتمع الصهيوني، متجاهلة مشاكله السياسية والصراعات المتأصلة داخله. وفي سياق الصراع الإسرائيلي العربي، تلعب الأيديولوجية دوراً مهماً، فقد بنى الإسرائيليون روايات متجذرة وأنظمة رمزية تشكل تصوراتهم للصراع. وتساهم هذه الأيديولوجيات في استقطاب القضية وتعقيدها. بالنسبة للإسرائيليين، غالباً ما يتم تأطير الصراع في سياق المطالبات الأمنية والتاريخية بالأرض، النابعة من الأيديولوجية الصهيونية ونستطيع أن نرى الأيديولوجيات تعمل بمثابة "الآخر الكبير"، حيث تشوه الواقع وتخلق نظاماً رمزياً يديم الصراع.

وعلى الرغم من انتشار الأيديولوجيا، إلا أن جيجك لا يدعو إلى القبول السلبي للأنظمة الأيديولوجية. وبدلاً من ذلك، فهو يشجّع على إجراء فحص نقدي للأيديولوجيا للكشف عن آلياتها وتناقضاتها الأساسية. ويعتقد أنه من خلال الاعتراف بالتشوهات التي خلقتها تلك الأيديولوجيا، يمكن للأفراد والمجتمعات الانخراط في عملية "النقد الأيديولوجي". يتضمن النقد الأيديولوجي التشكيك في الحقائق الواضحة للأيديولوجيا وكشف علاقات القوة الخفية والتناقضات داخلها. ومن الممكن أن تؤدي هذه العملية إلى فهم أعمق للآليات الأساسية التي تديم الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. بما يخص الصراع الإسرائيلي العربي فالتغيير لا يكون إلا عبر قتال الهياكل الأيديولوجية الإسرائيلية القائمة، للتحرر من قيودها والعمل نحو التحرر الحقيقي. المفارقة في الموضوع، أن جيجك نفسه الداعي إلى هذا التفكيك، قد وقع في شراكه بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

إن مفهوم جيجيك عن "الآخر الكبير" ضروري لفهم الصراع الإسرائيلي العربي. هذا النظام الرمزي، الذي شكلته الأيديولوجيا، يخلق وهماً يحجب التناقضات الكامنة داخل الصراع. على سبيل المثال، غالباً ما يقدم السرد الرسمي للجانب الإسرائيلي رؤى مثالية لمجتمعاتهم ويفشل في معالجة التعقيدات والمظالم الموجودة، ويمكن رؤية الوهم الذي خلقته الأيديولوجية في الطريقة التي تصور بها "إسرائيل" نفسها على أنها ضحية وتصور حركة المقاومة الإسلامية/ حماس على أنها معتدية. "الآخر الكبير" في هذا السياق يبني رؤية مشوهة للوضع باستخدام وسائل الإعلام، مما يمنع إجراء فحص أعمق للأسباب الجذرية للصراع وكأن "إسرائيل" تريد من العالم أن يرى ما حصل في غلاف غزة وكأنه الهولوكوست الثاني ولكن ما يحصل في غزة من تدمير وإجرام وقتل للأطفال وحرمان الفلسطينين من أبسط حقوق الإنسان هو مجرد دفاع عن النفس أما الحقيقة وراء هذه البروباغاندا فيكمن في أن إسرائيل تحوّلت لمن تكره وحوّلت غزة إلى معسكر أوشفيتز.

إن معركة طوفان الأقصى ومع منجزاتها الأمنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية قد بدأت عملية تدمير الأيديولوجيا الإسرائيلية عندما بدأت تُرينا الحقيقة الكامنة وراء البروباغاندا الإسرائيلية. تعمل معركة طوفان الأقصى من داخل إطار نقد الأيديولوجيا الإسرائيلية. لقد بيّنت الحرب في فلسطين المحتلة هشاشة هذا الكيان أمنياً وعسكرياً، وها هي تبيّن هشاشته الأيديولوجيا الصهيونية يوماً بعد يوم، عبر جعلنا نرى الرسائل الحقيقية وراء كل الأعمال التي يقوم بها هذا العدو... باختصار، سيكون طوفان الأقصى طوفانٌ جارفٌ للأيديولوجيا الصهيونية.

 

كاتب وناشط لبناني