في الوقت الذي كان فيه العالم منتشياً بانتصار الديمقراطية الأميركية على النموذج السوفياتي، كان ثمة شركة في جنوب أفريقيا (إكزيكوتيف أوتكمس) تبرم عقدها الأول عام 1992 مع شركات نفطية بـ80 مليون دولار في أنغولا. بعد مدة صغيرة صارت الشركة حاضرة في أكثر من ثلاثين بلد إفريقي.
خصخصة القمع في أفريقيا
"تشكل أفريقيا جزء من الهدف المثالي لشركتنا. لقد ساعدتنا أزمات القارة في إبرام عقود مع الشركات الأميركية والأمم المتحدة بقيمة 1.2 مليار دولار خلال خمس سنوات فقط" ويليام إيمبري، مدير تطوير الأعمال في شركة Dyncorp الأمنية.
***
عام 1990 أنفقت أميركا نحو 25 مليار دولار على القطاع الأمني مقارنة بـ30 مليار على الشرطة الرسمية. على مستوى العمال، بلغ حجم الوظائف لدى أكثر من 10 آلاف شركة أمن خاصة، الـ1.5 مليون موظف مقابل 554 ألفاً في القطاع الأمني الحكومي. واستنادًا إلى ما أوردته الصحافة الأميركية، فقد خلقت بلاك ووتر شبكة من أكثر من 30 شركة وهمية وشركات أخرى تابعة لها للحصول على مئات ملايين الدولارات من عقود حكومية سنوية.
تعتبر الشركات الأمنية الخاصة إحدى الأذرع العسكرية للعولمة الأمنية، ويُعد انتشارها في إفريقيا تحديداً بمثابة أداة استعمارية جديدة تؤكد عجز المنظومة الدولية عن أيجاد حلول سياسية متوازنة في القارة السمراء. يمتد عمل هذه الشركات إلى دول تتجه نحو خصخصة جيوشها، ومؤسساتها الأمنية بشكل كبير. كما تستحضر هذه الشركات صورة النهب المنظم الذي تقوم به الدول "الديمقراطية" الكبرى للعالم. ولعلَّ حالات ساحل العاج، إفريقيا الوسطى، غينيا، أنغولا، الصومال، سيراليون، ليبيا، مصر خير دليل على غلبة منطق (العسكرة) عالمياً، في قارة تحتاج إلى كل شيء غير العسكرة.
إطلالة على نماذج النهب الدموي العالمي:
يتعملق دور الشركات الأمنية العسكرية التي تتخذ من القارات الخمس بؤرة لنشاطها التدخلي المحموم. شركة (G4) البريطانية تنشط في 110 دول، وتُوَظِّف أكثر من 570 ألف موظف. شركة (securitas) السويسرية تنشط في 45 دولة، وتُوَظِّف 250 ألف موظف، وتمارس الشركة الفرنسية (scopex) عملها بحرية تامة في أقاليم إفريقيا وآسيا دون حسيب أو رقيب؛ فضلاً عما تقوم به كلاً من روسيا من التمركز الأمني في شمالي القارة عبر شركات أمنية مختلفة، تعمل لحساب القطاع الخاص ولصالح البرجوازية الروسية.
أما على مستوى العالم العربي، فلمصر الأسبقية في هذه التجربة. شكَّلت الشركات الأمنية الخاصة في مصر كيانات متخصصة في أعمال الأمن، والحماية، مكافحة الشغب منذ أن نحى السادات ناحية السلام و"اسرائيل". تعتبر شركة "كير سرفيس" أول شركة أمنية مصرية. تأسست الشركة عام 1979، وتولَت مهمة حراسة السفارة الأميركية، ثم تطوَّر عملها ليصل إلى حدِّ التنسيق الأمني بين الطرفين المصري والإسرائيلي. فالكون هي الأخرى شركة مصرية عملاقة في قطاع الأمن؛ يرأس الشركة رجل الأعمال نجيب ساويرس، ويملك فيها 40% من رأس مالها. تفوق ميزانية فالكون ميزانية البحث العلمي في كل جامعات مصر، وقد سجلَّت مجموعة فالكون ما يتجاوز 164 مليون جنيه من إيرادات سنة 2013 وحدها.
شركات تمتص الدم الأفريقي:
في الوقت الذي كان فيه العالم منتشياً بانتصار الديمقراطية الأميركية على النموذج السوفياتي، كان ثمة شركة في جنوب أفريقيا (إكزيكوتيف أوتكمس) تبرم عقدها الأول عام 1992 مع شركات نفطية بـ80 مليون دولار في أنغولا. بعد مدة صغيرة صارت الشركة حاضرة في أكثر من ثلاثين بلد إفريقي. تمَّت تصفية الشركة رسميًّا عام 1998. لكنها صارت أنموذجاً لغيرها من الشركات في الاستثمار الأمني. قبل إقفالها بثلاث سنوات، تحديداً في العام 1995، كان ثمة شركة بريطانية تدعى ساندلاين (أسسها الضابطان السابقان في الجيش البريطاني تيم سبايسر وسيمون مان) تعين رئيس وزراء غينيا السير جليوس في قمع المتمرِّدين في جزيرة بوجينفيل. اختلف جليوس مع الشركة وفسخ عقده معها فيما بعد. تسبَّب ذلك في خسارة منصبه في الانتخابات، وأدى لخسارة خزينة الدولة 36 مليون دولار في محاكمة شهيرة عام 1997. تصاعد بعد ذلك دور هذه الشركات في ضبط انتفاضات القارة السمراء. مارست ساندلاين أعمالاً قذرة في سيراليون. تبعها بعد ذلك عدد من الشركات الأميركية. شركة داينكورب ((Dyncorp وميليتاري بروفشيونال (Military Professional) وجلوبال ريسك إنترناشيونال (Global Risk International) غستر باتلز (Guster Battles) الأميركية، ثم "أو بي أس أفريك" و"أو بي أس" الفرنسيتين. هكذا تحولت أفريقيا لأكبر سوق مستقبلي للشركات الأمنية الخاصة، وأكبر مستعمرة خاضعة للشركات الأمنية الخاصة على مستوى العالم.
كمثال على ما وصلت إليه هذه الشركات على مستوى الاستثمارات، استطاعت داينكورب (Dyncorp) توظيف 17 ألف موظف، والفوز بأعمال تتجاوز 200 مليار دولار في وسط أفريقيا وجنوبي السودات.
اليد الاسرائيلية الموغلة في الدم الأفريقي:
يقوم عدد من الضباط الإسرائيليين المتقاعدين بتأسيس شركات أمنية خاصة لتقديم خدمات أمنية في إفريقيا. يُسجل هؤلاء الضباط هذه الشركات في أوروبا ودول أخرى، ويعملون على تجنيد عسكريين من جنسيات مختلفة للعمل في مجال حراسة المرافق والشخصيات المهمَّة.
من أبرز الشركات التي تمَّ رصدها في هذا المجال شركة "بنيتل إنترناشيونال سكيوريتي" التي أسَّسها الجنرال الإسرائيلي بني طال سنة 1981، وهو ضابط أمنٍ عمل في مجال الحراسات الشخصية لمسؤولين إسرائيليين كبار. تنشط الشركة من خلال أربعة فروع في "إسرائيل" وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا. اتهمت المنظمة العربية لحقوق الإنسان العاملين في هذه الشركة بأنهم "مرتزقة يرتكبون الجرائم لحساب قادة وأجهزة استخبارات متنفذة". يطال نشاط هذه الشركة أزمات ذات طابع اقتصادي في كل من أنغولا، سيراليون، غينيا الجديدة، وأفريقيا الوسطى.
"Related Posts
صحيفة الخندق