Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تمزَّقَ صدرُه بوابل من الرصاص، وسقط سلاحه "الكلاشينكوف" فوق تراب أواغادوغو الجاف، بالقرب من الأجساد التي تهاوت من أفراد رفاقه العسكريين، ومستشاريه صرعى إلى جانبه في موقع الكمين. هكذا بدا مشهد الإطاحة بقائد "ثورة" بوركينا فاسو، توماس سانكارا، عشية الانقلاب الغادر في 15 تشرين أول/ أوكتوبر عام 1987.

وليد النمر

سانكارا: النبي المسلّح (الجزء الأول)

تمزَّقَ صدرُه بوابل من الرصاص، وسقط سلاحه "الكلاشينكوف" فوق تراب أواغادوغو الجاف، بالقرب من الأجساد التي تهاوت من أفراد رفاقه العسكريين، ومستشاريه صرعى إلى جانبه في موقع الكمين. هكذا بدا مشهد الإطاحة بقائد "ثورة" بوركينا فاسو، توماس سانكارا، عشية الانقلاب الغادر في 15 تشرين أول/ أوكتوبر عام 1987.

تم تحميل الجثث بأسرع ما يمكن في الجيب العسكري بِيَدِ الجنود الذين يتلقون أوامرهم من بعض الوزراء الطامعين، الذين كانوا يشغلون مناصب مهمة ضمن المجلس الوطني لقيادة الثورة (National Council of the Revolution (NCR))، من أجل الإطاحة برئيسه. عاود الجنود ظهورَهم ليلاً وهم يهيلون التراب بجرافاتهم فوق الأجساد المغدورة، منجزين بذلك المقبرة الجماعية على عجل في جنح الظلام.

مع موت سانكارا، ماتت "تجربة" الإصلاح الجذري التي تعلقت بها آمال الكثيرين في أفريقيا وفي العالم بأسره. لقد مثّلَت بوركينا فاسو أحدث محاولة لإيجاد "طريق مستقلة" نحو "التحرر الوطني بدون حرب ثورية" تقوم بها الجماهير، وبدون قيادة حقيقية من حزب سياسي بروليتاري (حزب الكادحين). والأهم، بدون فكر علمي ماركسي لينيني – ماوي. لذلك، مثَّلَ الانقلاب الغادر خاتمة دموية لأحداث كُتِبَت نهايتها كما في الملاحم الإغريقية التراجيدية، بإتقان شديد.

لم يكن سانكارا شيوعياً في ثوريته على الإطلاق (وهو لم يحاول يوما أن يدّعي ذلك أو يتظاهر به)، لكن مواقفه القتالية المناهضة للإمبريالية، والكاريزما الأنيقة والواثقة التي امتلكها، وهيئته العسكرية الـ "تشي - جيفارية"، والأهم من ذلك كله، محاولته غير التقليدية في تثوير واحدة من أفقر بلدان العالم، كل ذلك، أَسَرَ ألباب الكثير من الشباب الأفريقي والمثقفين، الذين تابعوا بحماسة طاغية، وعن قرب، إبداعاته الثورية، حتى اصطدموا، إبّان مقتله، بتساؤلات فرضت ذاتها، عن نوع الثورة التي قادها سانكارا، وعمّا إذا كانت الطريق التي سَلَكَها تؤدي، بالفعل، إلى إنجاز مشروع التحرر في أفريقيا !

***

ليس لـ بوركينا فاسو، التي كانت تعرف سابقا بـ"فولتا العليا" أية سواحل، فهي بلد محاط باليابسة من جميع الجهات، وتتمادى في حدودها الشمالية ضمن منطقة "الساحل - Sahel" الأفريقية التي تمتد لمسافة 3000 كم (وهي شريط من اليابسة شبه القاحلة على امتداد الحد الجنوبي للصحراء الكبرى).

تقع بوركينا فاسو (فولتا العليا) عند مفترق الطرق التي سلكها مستعمرو أفريقيا، حيث يعود تاريخ استعمارها إلى "عهد الإرهاب الفرنسي - region of terror"، في عام 1895، عندما قام الكابتن الفرنسي بقيادة رجاله عبر "الهضبة المركزية-central plateau" (هضبة جنوب أفريقيا) لإبادة البشر وتدمير الثروات الحيوانية وحرق قرى بأكملها في سعيهم المحموم لنهب كل شيء.

وكجزء من عملية التغيير المستمرة التي طالت حدود الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية غرب أفريقيا، طال هذا التغيير حدود بوركينا فاسو (فولتا العليا) أيضا بشكل مستمر، وذلك حتى عام 1947.

إن الغالبية العظمى من سكان "بوركينا فاسو" هم من القرويين الرعاة والمزارعين الفلاحين. لكن اقتصادها لم يتطور أبداً، حيث تم حرف وإعاقة نموه عبر عملية النهب الاستعماري في المقام الأول، ومن ثم عبر الإجهاز عليه بسبب موجات متتالية من الجفاف والفيضانات والمجاعات. الأمر الذي أسال لعاب العديد من الإمبرياليات الغربية التي هرعت إلى تقديم "مساعداتها الإنسانية" من خلال ممثلياتها الطفيلية الجشعة كـ"صندوق النقد الدولي – IMF" و"البنك الدولي - WB" و"منظمة الأغذية والزراعة - FAO" و"السوق الأوروبية المشتركة - EEC"و"متطوعي فيلق السلام الأمريكي -US peace corps" وغيرهم.

يدين غالبية سكان بوركينا فاسو بالإسلام، بينما تحوي "مجتمعاتها" العديد من الإثنيات الثقافية التي تنطق بما يزيد عن 60 لغة ولهجة. كما يقطن 90% من مجمل السكان، البالغ عددهم ما يزيد عن 8 مليون نسمة، في الأرياف التي تسيطر عليها العاصمة أواغادوغو.

كما ينتمي سكان أواغادوغو، طبقياً، إلى عدة شرائح اجتماعية اقتصادية: طبقة عاملة حديثة متواضعة الحجم، وطبقة ذات عدد كبير، إلى حد ما، من الموظفين الحكوميين الذين تتفاوت مراتبهم بين البيروقراطية الرفيعة، وخدمها وحراسها، والعسكريين، والحرفيين، وموظفي المصالح الاستعمارية الفرنسية. كما توجد أيضاً طبقة التجار الجشعة، إلا أنها طبقة ضئيلة في حجمها. إن مدينة أواغادوغو بحد ذاتها هي صنيعة الإمبريالية، وهي المصب النهائي لعمليات سرقة البلاد بأكملها.

لقد قام المستعمر الفرنسي عام 1932 بربط فولتا العليا عند حدودها الجنوبية، إداريا، بالمستعمرة الغنية ساحل العاج، من أجل جعل البلاد بأكملها، رسمياً، خزاناً ضخماً لليد العاملة في المزارع والحقول العاجية. اليوم، لا يزال 2 مليون من الأيدي العاملة البوركينية تكدح في ساحل العاج بسبب زيادة التصحر وازدياد معدلات الهجرة إلى الجنوب.

أما عام 1953، فقد منحت فرنسا فولتا العليا "حكماً ذاتياً"، وعهدت، بعد ذلك، بالاستقلال الرسمي الممنوح لها عام 1960، إلى ثلة من البرجوازيين الكمبرادوريين من أجل إعادة إنتاج وجودها الاستعماري بمظهر جديد تحت مظلة سياسية مؤلفة من ضباط جيش فاسدين يدينون لها بالولاء التام، ويتعاقبون على خدمتها عبر الانقلابات المتكررة، بدعم من النقابات القوية المرتبطة بهم.

بالفعل كان صادماً، وبشدة، انتهاء عهد سانكارا السياسي، الثوري الجذري، بذات الطريقة الانقلابية المفاجئة. لكن الأهم، هو أنه استخدم ذات الوسائل الانقلابية للوصول إلى السلطة، ومارس ذات الطبيعة في بسط قوة الدولة الجديدة، مما منعه، بشكل أساسي، من إنجاز ثورة جذرية وشاملة في البلاد.

***

لقد أسمى سانكارا "ثورته" بـ"ثورة الشعب الديمقراطية"، التي كانت تهدف إلى أن "يمسك الشعب بزمام السلطة في البلاد". لقد كان هذا الأمر، في الحقيقة، هو ما يلخص المشكلة. فالسلطة السياسية في البلاد لم يمسك بها الشعب عبر ثورة شعبية، ولم يتم توليها من الأسفل، بل تم الاستيلاء عليها من الأعلى، بواسطة قائد التيار المعادي للإمبريالية في الجيش، ذي الكاريزما الثورية الكبيرة، والعمر الصغير، الرائد توماس سانكارا، والذي وجد نفسه رئيساً للحكومة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1982، عندما تولى "جان باتيست أويدراوغو - Jean-Baptiste Ouédraogo"، الطبيب وقائد الجيش زمام الرئاسة، بالتعاون مع الجناح اليساري من ضباط الجيش، ومع النقابات.

وبعد أن قام سانكارا، وهو في منصبه الجديد هذا، بدعوة الرئيس الليبي معمر القذافي لزيارة أواغادوغو في نيسان/ أبريل عام 1983، سرعان ما تم اعتقاله (نقصد سانكارا) بعيد وصول مستشار الرئيس الفرنسي ميتيران ومسؤول الشؤون الأفريقية الفرنسية (غاي بين) إلى المدينة، في الوقت الذي كانت العلاقات الدبلوماسية مع الفرنسيين في أسوأ أحوالها. عقب الاعتقال هب الشباب البوركيني في أواغادوغو وانسحبت مجموعة من الضباط العسكريين اليساريين إلى معسكر لقوات النخبة الخاصة في مدينة "بو" في الجنوب البوركيني، حيث قاموا بالتخطيط للقيام بتمرد عسكري يعيد سانكارا إلى السلطة.

في الرابع من آب/ أغسطس من نفس العام، زحف المتمردون نحو العاصمة وتمكنوا من الاستيلاء على السلطة معلنين قيام "الثورة". لقد اعتمد هذا الانقلاب "اليساري" بالكامل على التيارات البرجوازية اليمينية عبر القيام "بمناورة ذكية" في التحالف المؤقت، وغير المنظم، مع الأجنحة العسكرية اليمينية و"المعتدلة" الموجودة في الجيش المرتبط، في مجمله، مع الحالة النيوكولونيالية.

لقد كان ذلك التحالف، في أحسن الأحوال، ضرورة مستعجلة، ولكن مؤقتة، من أجل ترسيخ القاعدة الاجتماعية في المدن لمصلحة التنظيمات اليسارية الراديكالية المؤثرة في قطاعات البرجوازية الصغيرة، وخاصة في القطاع التعليمي، وقطاع الموظفين المدنيين، كي يتسنى للثورة الإمساك بمقاليد السلطة.

على حد تعبيره الصريح، يقول سانكارا: "بدونهم.."، يقصد الجناح العسكري اليميني، "...لم نكن قادرين على الانتصار، فقد جهزوا الجماهير لنا". ويقول أيضاً وبشكل يدعو للدهشة: "إن سندنا الرئيسي هم العمال المنظمين"، وهو يقصد النقابات العمالية المعتمدة في قوامها على الموظفين المدنيين في العاصمة.

إنه على الرغم من تعاطفه الواضح مع الفلاحين في ما يتعرضون له من محن، وعلى الرغم من رغبته الصادقة في تحسين ظروف معاشهم، إلا أن سانكارا لم يعتمد عليهم في بناء قاعدته الاجتماعية، بل كانت رؤيته ومسيرته التي انتهجها تصب في مصلحة البرجوازية الصغيرة التي تقطن في المدن. ومنذ اللحظات الأولى، لم يكن سانكارا ذلك الشخص الذي يستطيع أن يحرر الغالبية العظمى من جماهير بوركينا فاسو الكادحة.

لقد نال سانكارا شهرة واسعة في البلاد، هذا صحيح، ويمكن القول إن الجماهير، بشكل عام، لم تقم بمعارضته، لكن هذه الجماهير كانت في معظمها على الحياد. وعلى الرغم من ذلك، كان سانكارا واثقاً من قدرته على جذبهم باتجاه ثورته مع مرور الزمن.

أما بالنسبة للمعضلة الشائكة التي تتجلى في محو الموروث الكولونيالي المترسخ في العقيدة العسكرية لدى أفراد الجيش، فقد اعتقد سانكارا أن باستطاعته تحويل الجيش إلى جيش الشعب، من خلال "التثقيف السياسي". يقول: "نحن نريد أن ينصهر الجيش في الشعب".

كما اعتبر أن قيادته هي "التعبير الديمقراطي للشعب"، لكن الواقع أنبأ عن تمركز الصراع على السلطة السياسية في أيدي أعضاء "المجلس الوطني لقيادة الثورة – CNR"، الذي منح السلطة للتيارات اليسارية الكبيرة، وكان بمثابة قاطرة لأربعة قادة عسكريين، هم: توماس سانكارا، وكومباوري، وجان باتيستلينغاني، وهنري زونغو. وذلك ليحاولوا حل النزاعات السياسية من خلال العمل سوية يداً بيد مما يمكنهم من تحقيق برنامج إصلاحي.

يمكن القول، إنه لو تم اختبار تجربة سانكارا ورفاقه بالاعتماد على نواياهم الحسنة وأفكارهم الجيدة لما فشل أحد منهم. فقد أراد سانكارا مساعدة الفلاحين وإزالة ثقل "أنظمة الزعامة – Chiefdoms" القبلية القائمة على التسيّد الموروث وعلاقات القرابة في الأرياف، والقضاء على فساد الحكومة والمسؤولين والموظفين المتنعمين، ومساواة المرأة بالرجل في حقوقها وتخفيف أعبائها الاجتماعية، وتحقيق هدفه في توفير وجبتي طعام جيدتين في اليوم لكل شخص، وكل المياه التي يحتاجها الفلاحون.

لقد أراد سانكارا للبلاد أن تعتمد على "الذات" لا على الاستعماريين والإمبرياليين، من أجل بناء اقتصاد وطني حقيقي وقوي، كما أمل في تطوير الثقافة الأفريقية وتشكيل تحالفات قوية مع الدول الأفريقية النامية.

كما أراد سانكارا بلاداً حرة ومستقلة بشكل حقيقي، حيث كان ضد جميع أشكال الهيمنة أو الخضوع للأجنبي، وأعلن أن ذلك هو قضية مشتركة مع: "كل الشعوب التي تريد أن تساعدنا في كفاحنا ضد الظلم والطغيان".

 

باحث فلسطيني