عانت جماعة الإخوان المسلمين في السودان حالة من السيولة التنظيمية والانشقاقات المتكررة منذ نشأتها في الأربعينيات بسبب تنازع جسم الجماعة بين تيارين؛ أحدهما تربوي يتبع المدرسة المصرية يصر علي انتقاء العضوية وتربيتها، وأخر براجماتي عملي لا يمانع أن يتوسع التنظيم ليضم أفكاراً شتى وتشكيلات متنوعة طالما تتفق في مبدأ تطبيق الشريعة.
الجبهة الإسلامية في السودان
عانت جماعة الإخوان المسلمين في السودان حالة من السيولة التنظيمية والانشقاقات المتكررة منذ نشأتها في الأربعينيات بسبب تنازع جسم الجماعة بين تيارين؛ أحدهما تربوي يتبع المدرسة المصرية يصر علي انتقاء العضوية وتربيتها، وأخر براجماتي عملي لا يمانع أن يتوسع التنظيم ليضم أفكاراً شتى وتشكيلات متنوعة طالما تتفق في مبدأ تطبيق الشريعة. ويشار أحيانا إلى حركة التحرير الإسلامي كأول تنظيم للإخوان وفي الحقيقة فإن حركة التحرير لمؤسسها بابكر كرار من طلاب جامعة الخرطوم 1948 كانت أقرب إلى رؤى مشابهة لحركة مصر الفتاة حيث كانت تصر على تطبيق فهم للاشتراكية يتماشى مع روح الإسلام ونوع من الانتماء القومي والوطني، ولاحقا انشق كرار عن التنظيم الذي شمل الإخوان المسلمين وأسس "الحزب الاشتراكي الإسلامي"، فيما تحدد جسم "الإخوان المسلمون" في مؤتمر 1954 في "حركة الإخوان المسلمين في السودان"، وتسلم المراقب العام الأول محمد الخير عبد القادر مهمة تماثل تقريبا مهام نائب المرشد العام في مصر.
في مرحلة تالية، ومع تسلم المراقب العام الأستاذ الرشيد الطاهر بكر 1955 عمدت الحركة إلي تبني دعوة شعبية لعمل دستور إسلامي، وتورطت لاحقاً في تدبير انقلاب عام 1959 ضد حكومة إبراهيم عبود وسجن الرشيد خمس سنوات، والملاحظ هنا استعجال الحركة في السودان عملية الوصول إلي السلطة بشكل ملفت للانتباه رغم قصر عمر التنظيم وحداثته واحتوائه على تلاوين من الانتماءات، تحمل كل منها تنظيرات مختلفة للواقع السوداني والعالمي. هذا فضلاً عن فقر الإنتاج الفكري للجماعة، سواء في مصر أو في السودان. وهو ما لازمها منذ نشأتها. فالتاثير الأشد على الحركة في السودان كان لسيد قطب الذي أطلق مجموعة من التعميمات خلقت أملاً وثقةً بين كوادر الاخوان تركت أثراً واضحاً على الإسلاميين الذين في كثير من الأحيان كانوا يسمون بـ الحركيين، بسبب استعجالهم للحركة حتى قبل أن يتملكوا جهازاً نظرياً يمكنهم من السير المتوازن عند وصولهم إلى السلطة حتى لا يقعوا في تخبط هذا الاستعجال والثقة المفرطة اللتي تسببت فيها مقولات قطب.
هذا السمت المتعجل الواثق (ثقة المراهقين) هو ما فتح الباب للترابي لاحقا كي يقود التنظيم في عملية صعود غير مسبوقة لحركة سياسية. فمع عودة الترابي من بعثته الدراسية بالخارج 1964 وتولىه مهام المراقب العام عمل على فصل جسم الحركة عن مصر واستقلالها بل وسعي إلي احتواء التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وإبعاد المصريين عن قيادته. وفي سنة 1986 شكل الجبهة الإسلامية القومية المكونة من الطريقة التيجانية الصوفية، والجماعة السلفية، والإخوان المسلمين، واعتمد طريق الكفاح السياسي المستمر والمرونة في التحالف والتقييم بتحقيق الأهداف والغايات. وبفضل التنظيم المرن استطاع تحقيق نتائج مبهرة في الانتخابات حيث شكلت الجبهة ثلث مقاعد البرلمان، وأصبحت بذلك حركة الإخوان المسلمين في السودان، من جهة الممارسة، أسرع تنظيمات الإخوان تطوراً وأكثرها ديناميكيةً علي مستوى البلدان الإسلامية، وهو ما عزز مركز تيار الترابي العملي في مواجهة التيار التربوي الممالئ للجماعة الأم في مصر، كما مكنته تلك المرونة من اختراق جهاز الدولة والأحزاب والجيش ما سهل عملية الوصول إلى السلطة.
الوصول إلي السلطة المطلقة:
وصلت جماعة الإخوان المسلمين في السودان إلي الحكم عبر انقلاب عسكري قاده الفريق عمر البشير تحت اسم جبهة الإنقاذ. وتصنعت المجموعة التي تصدرت قيادة الانقلاب في الشهور الأولي مناوأتها لجماعة الإخوان. فقامت باعتقال حسن الترابي في خطوة تكتيكية لتمرير الوقت حتى تتصلب السلطة في موضعها قبل أن تحاول دول إقليمية كمصر، أو السعودية التدخل لإجهاض التجربة، لكن بالقطع كان الأمريكيون علي علم بما يجري، وحسب قول حسن الترابي ففي أعقاب الانقلاب أبلغ الترابي البشير قائلاً "إذهب أنت إلى القصر رئيساً وأنا أذهب إلى السجن حبيساً". ولعبت تلك الأشهر التي موهت فيها جبهة الإنقاذ حقيقة هويتها دوراً حاسماً في تمكين قبضتها من السلطة.
ورغم انكشاف حقيقة انتماء السلطة التي قامت في أعقاب الانقلاب في أغلب تكوينها إلي جماعة الإخوان المسلمين من خلال ممارساتها وخطابها وتشابكاتها مع جماعة الإخوان المسلمين عبر العالم، أبقى النظام على إنكاره الانتماء إلى تنظيم الاخوان المسلمين حتي إلي ما بعد انقضاء حكم الجبهة وخروج البشير من السلطة وتكون مجلس الحكم الانتقالي 2019.
عضوية معسكر المقاومة والتمرد على الهيمنة 1989-2002:
في تلك السنوات حاول النظام أن يقدم نفسه كقوة ثورية تحررية جديدة متمردة على الهيمنة الأمريكية. فحاول إضفاء حالة من العسكرة على المجتمع، وتوحيد الملابس، ومكافحة مظاهر التغريب، وإبداء سلوك شخصي متقشف. فكان رموز الانقلاب العسكريون يعيشون عيشة الجنود. لم يقم أي منهم بتأسيس أي مشروع تجاري، ولم تسع أسر وعائلات المسؤولين إلي الالتحاق بعالم التجارة والبزنس. تلك المرحلة لم تكتمل وتهلهلت سريعًا بسبب الضعف الإيديولوجي والفكري للحركة ولا جاهزيتها (بالإضافة إلي استشهاد جميع الراديكاليين في الحركة خلال الحرب فانزاح الكادر المقاتل وحل محله الكادر المقاول)، حيث إن العقيدة الحاكمية كفلسفة مشغولة فقط بما يسمى بتحكيم الشرع أما قضايا الاستقلال السياسي والاقتصادي والتخطيط فلم تحظ في أدبيات الحركيين أبدا بأي جهد يذكر. ومن ثم فلم يكن النظام يتحرك إلا بسياسة الفعل ورد الفعل هو يحمي ما يعتقد إنه ثورة إسلامية قام بها من أجل استعادة الإسلام. ولأن ذلك المسلك التطهري المبكر إنما كان نتاج قناعات روحية فردية لا نتيجة انضباط فكري يشمل كل منتسبي الحركة لم يكن الحكم النظيف أو العدالة الاجتماعية أولوية إيديولوجية، وبانزياح هؤلاء تفككت التجربة تماما.
علي المستوي الدولي انزعجت السعودية أشد الانزعاج بوصول الإخوان إلى الحكم في السودان، فمارست نفوذها الإقليمي والعالمي ليبدأ النظام الجديد يعاني المشكلات الاقتصادية، و يحرم من الوصول إلى أية قروض من الصناديق الدولية، فرد هو أيضا بالامتناع عن تسديد مستحقات الديون جميعاً وهي خطوة لم تكن نتيجة وعي بالدور المدمر للديون ومؤسسات الاقراض الدولية أو كخطوة ضد الهيمنة الاقتصادية بقدر ما كانت نوعا من "الرجالة" وللحقيقة وبغض النظر عن ضعف الوعي عند الحركيين فإنها خطوة هائلة في مواجهة الهيمنة جذبت إعجاب القوي المقاومة كما استفزت القوي الغربية أشد الاستفزاز.
كانت القوى الغربية مرعوبة من اتساع حمى الدعوة المناهضة للديون، لكن نظرًا لعزلة نظام السودان وطبيعة ايدولوجيته الدينية المنغلقة وإعلانه فكرة خوض العالم والسيطرة عليه انطلاقا من الخرطوم، وتوتر علاقاته بدول الجوار خصوصًا أثيوبيا ومصر، ثم انشغاله بالحرب الأهلية، لم يكن امتناع الإسلاميين عن سداد الديون ليؤثر كثيراً في محيطه، خصوصاً أنه جاء ردة فعل وليس في سياق تخطيط لخلق اقتصاد مستقل عن المنظومة المالية العالمية كما كان يحاول القذافي أن يفعل مثلاً، ولذلك اكتفت الدول الغربية باستخدام حجة علاقة الخرطوم ببن لادن وأطبقت عليه بعقوبات مالية ثقيلة لكن دون الدفع بأي خطوات جادة تهدف إلي إزاحته من السلطة.
خلال فترة عضوية نادي التمرد على الهيمنة خلق النظام علاقات مع الدولة العراقية، وشهد السودان تعاوناً فنياً وعسكرياً كبيراً مع العراق، وتلقى مساعدات عسكرية عراقية/ ومهم أن نشير إن النظام شيد بضعة مصانع عسكرية للذخيرة والأسلحة بالتعاون مع العراق ثم لاحقاً إيران، كما وطد علاقته مع الدولة السورية، ولاحقا خلق النظام علاقات متميزة مع فنزويلا بوصول الثوري السياسي هوجو تشافيز إلي السلطة بدايات عام 1999، ويجدر أن نشير أن المرحوم تشافيز كان قد أعلن موقفه ضد قرارات المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير بمنح السودانيين حق الدخول إلي فنزويلا دون تأشيرة، كما شهدت علاقاته تطوراً كبيراً مع سوريا وإيران ودخلت المنتجات والسلع الإيرانية والسورية إلي السوق السوداني لتعوضه غياب السلع الأوروبية والأمريكية المتطورة التي اختفت مع إجراءات العقوبات.
اندفع النظام الوليد إلى التخندق مرحلياً مع المتمردين الدوليين من سماهم بوش الإبن في 2002 بمحور الشر ولكن تلك الفترة الأولي رغم دمويتها وعنفها ضد المعارضين لم تشهد تقريباً حالات غضب شعبي كالتظاهرات الكبيرة أو الانتفاضات بما يستحق الذكر. وهنا يتعين البحث عن فهم دوافع الثورة في كلمات أخرى غير الحرية والضجر بالقمع الرسمي، التي تروج في الإعلام الغربي وتنقله الدوائر الإعلامية العربية بطريقة ببغائية مثيرة للقرف، لأن انتفاضة ديسمبر 2018 أتت في وقت كان عنف النظام في أقل حالاته وفي أعقاب فترات شهدت فيها البلاد تحسنات كبيرة على مستوى الحريات العامة.
في السنوات الأولى للتمكين بين عامي 1989 و 1993 عاش البلد تحت سطوة مرشد الإخوان وقائدهم الروحي حسن الترابي، ولم تكن حركة الإخوان قد نظمت بعد شكلاً دستورياً حزبياً تمارس السلطة من خلاله، فسارعت إلى دمج كيانها بجهاز الدولة حمايةً للتجربة. وهو الأمر الذي سوف تدفع ثمنه لاحقا بسبب هيولى التنظيم التي تنذر بانتهاء الجماعة تنظيمياً بعد سقوط النظام. في تلك الفترة الأولى وتحت قيادة الترابي للمجلس التشريعي تضاربت القوانين وشاعت التجاوزات بسبب ممارساته الفقهية التي انطبعت بانتهازيته فجاءت العديد من القوانين مفرطة في القسوة حيث لا ضرورة وجاءت مفرطة في التسيب حيث كان يجدر أن تكون قاسية. كما أدى تجدد الحرب الأهلية في الجنوب، وإعلان النظام نفير الجهاد وتكريس كل طاقاته لتلك الحرب إلى موجات تضخم أكلت العملة السودانية مرات ومرات، وتسببت في حالة نزوح للتكنوقراط والعمالة الماهرة إلى الخارج بحثاً عن حياة أفضل. كما وعرفت وقائع شديدة العنف من تجنيد المشردين قسراً أو خطف المراهقين الأحداث من الشارع وإرسالهم إلي أتون المعارك في الجنوب.
Related Posts
دكتور مصري مقيم في السودان