عرفت الفترة الانتقالية عقب توقيع اتفاقية نيفاشا 2003، واتفاقية السلام اللاحقة بنيروبي 2005، بدء مرحلة دستورية (ضمت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الحاكم) حالة من الهدوء السياسي، وقدر من الحريات الصحافية وبدأت القبضة الحديدية في التراخي وعادت خلال تلك الفترة غالبية التكوينات المعارضة التي كانت قد غادرت البلاد
الأزمة السودانية: المرحلة الانتقالية 2003 – 2011
عرفت الفترة الانتقالية عقب توقيع اتفاقية نيفاشا 2003، واتفاقية السلام اللاحقة بنيروبي 2005، بدء مرحلة دستورية (ضمت الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الحاكم) حالة من الهدوء السياسي، وقدر من الحريات الصحافية وبدأت القبضة الحديدية في التراخي وعادت خلال تلك الفترة غالبية التكوينات المعارضة التي كانت قد غادرت البلاد، خلال الفترة العصيبة الأولى، إلى مصر وغيرها من البلدان. في نهاية عام 2010 جرى الاستفتاء على تقرير المصير طبقا لاتفاقية السلام بانتهاء المرحلة الانتقالية التي امتدت إلى ست سنوات منذ توقيع اتفاقية السلام بنيروبي 2005. وكما كان متوقعاً جاءت نتيجة الاستفتاء بانفصال الجنوب ومن ثم جرى إلغاء الدستور الانتقالي والعمل على دستور جديد احتفظ في بعض مواده بروح الدستور الانتقالي. جرى من خلاله العودة إلى العمل بما يسمي بأحكام الشريعة الإسلامية. غير إن العقوبات البدنية الشديدة لم تطبق على نحو كبير، وجرى عملياً استبدالها بعقوبات السجن والغرامات فلم تشهد السجون عمليات بتر أطراف ولم تنفذ أحكام رجم عديدة.
أعيد انتخاب عمر البشير رئيساً للجمهورية على أثر انتهاء الفترة الانتقالية وانفصال الجنوب وتفكيك الحكومة الائتلافية، كما طرأ متغير في غاية الحسم والخطورة في عمر نظام جبهة الإنقاذ الإسلامية، وهو أن عائدات تصدير النفط بدأت تغير وجهتها من الخرطوم إلى جوبا. وبالطبع حملت معها تلك المرحلة كل الرخاء النسبي المؤقت الذي عاشه السودان بالتوازي مع الاستقرار النسبي للأسعار خلال تلك الفترة. يمكن أن نضم الفترة من 2002 إليها (أي الوقت الذي بدأت فيه الدولة تجني نصيباً مقدراً من عائدات النفط بعد أن استقطعت الشركات المستخرجة له تكاليف استثماراتها الأولية بين 1998 و2002). وفي هذه المرحلة وقعت أهم التغيرات التي طرأت على المجتمع السوداني منذ استقلاله.
على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، تسببت الطرق التي تم تدشينها في ربط الأطراف بالعاصمة وبدأت أنماط الحياة تتغير وتحسنت للحقيقة جودة البيوت لعدد غير هين من السكان، ولم تعد بيوت الطين مظهراً سائداً في كثير من المناطق مهما بعدت عن العاصمة خصوصاً في الشمال والشرق والوسط. في هذه المرحلة أيضاً زادت مصانع الإسمنت ومواد البناء فانتشرت البنايات الأسمنتية وملاط الأرضيات والدهانات واتخذت ملايين البيوت شكلاً حداثياً أكثر نظاماً، وتحسنت حالة الكثيرين، كما نمت طبقة متوسطة كونت ثروات من المقاولات الباطنية في المشروعات العامة واتسعت الطبقة لتشمل تكوينات تكنوقراطية جديدة من خريجي الجامعات والأساتذة.
ومن أجل تهيئة الجامعات الوليدة ابتعثت الدولة في عهد حكومة الإنقاذ أكبر عدد من الطلبة في تاريخ السودان للحصول على الدرجات العلمية. كما مولت إنشاء عدد هائل من كليات الطب والصيدلة والبيطرة والتربية والزراعة والحاسوب خلال فترة قصيرة. وقد شجع التعليم والسفر وخصوصاً الصيادلة والأطباء نمو أعمال البزنس الطبي والدوائي في ظل سياسات السوق الحرة. هكذا، نما عدد الأدوية المرخصة في البلاد وانتهى عصر ندرة الأصناف الدوائية أو انعدامها وأصبحت أدوية الأطفال متاحة بعدما كانت في الماضي شيئاً لا وجود له تقريباً، وفتحت شركات الدواء السورية والأردنية الأفق ولحقت بها شركات مصرية قليلة العدد ما ساهم في تحسين أوضاع الصحة والعلاج للمؤسسات الصحية العامة والخاصة.
الفترة الأخيرة من 2012 - 2019: رأسمالية حتى الموت
بدأت خيارات النظام المعبرة عن رؤية جماعة الإخوان المسلمين الحقيقية تتضح في ميلها المؤكد إلى اقتصاديات السوق المفتوح دون قيود، بدلاً عن الاقتصاد المخطط مركزياً واقتصاد العدالة الاجتماعية. تركزت الثروة في يد قلة وسيطر عدد محدود من الأشخاص على السلع الاستراتيجية (أسامة داوود وحده تحكم في القمح واستملك أكبر المطاحن والمخازن والمزارع وكل ما يتعلق بحلقة إنتاج القمح أو استيراده وتوزيعه) وعلى مستويات أصغر، سيطرت قلة من موزعي الغاز على سوق الغاز السوداني بالكامل، في الوقت الذي وقفت فيه الحكومة عاجزة، في ظل جهاز شرطة تنتشر فيه الرشوة والرواتب المتدنية إلى درجة تجعلهم عرضة للسقوط.
وهكذا في كل السلع صنعت الدولة جماعات ضغط ليس على مستوى العاصمة فقط، بل في مستوى الولايات. فصار هنالك متحكمون في كل شيئ، فإذا قرروا رفع سعر سلعة لم يقف دونهم شيئ، وإذا قررو إخفاء سلعة انتهى الأمر. وعلى المستوى الصحي لم تعمد الدولة إلى بناء مشاف جديدة أو تحسين أحوال المشافي القديمة، فكان نقص المطهرات وتدني الرواتب ونقص المعدات والفرش والمستهلكات سمة سائدة في قطاع الصحة الحكومية وهو ما تسبب في تضخم ورمي في ثروات ما يقدر بعشرات ألوف من الصيادلة والأطباء وإخصائيي الأشعة والتحاليل، حيث يبدو المظهر جلياً لمستشفى حكومي ضخم تتراشق حوله عشرات الدكاكين الطبية الصغيرة في مظهر يذكر بالجسد المسجى، وحيث يضطر الناس إلى شراء أدويتهم بأموالهم أو لوازم الجراحات أو الخروج من المشفى واللجوء إلى الوحدات الخاصة بسبب العجز الشامل في المستشفى ونقص المواد الحاد.
ومع سياسة رفض التسعير التي تستند على تخريج ديني يناسب تماماً توجهات جماعات البيزنس التي سيطرت على الحكم، حدث نمو كبير في الثروات الخاصة واتساع قاعدة الطبقة الوسطى. كما ازدهرت التجارات المتوسطة وسمح النمط الاستهلاكي لعائلات المنتمين للحكومة وللطبقة اللتي نمت في ظل توجهاتهم الاقتصادية بنمو الاستيراد الترفي على نحو يجعلك تشك أنك تعيش في بلد يعاني حصاراً مالياً شاملاً. فالقيود على الواردات منعدمة ويستطيع أي شخص استيراد أية سلعة طالما يمكنه بيعها والربح منها.
في الناحية الأخرى لم تتحسن أحوال المعلمين إلا لفترة قصيرة كما تدهورت أحوال المدارس العامة. واكتفت الدولة بإدارة تلك المدارس وتعيين معلمين لها ولكنها عجزت عن توفير الحدود الدنيا لتشغيلها في كثير من الأحيان بسبب تخفيض مخصصات التعليم وأصبح الكتاب المدرسي يباع في المكتبات وفي بعض الولايات يصرف كتاب لكل طالبَين أو أكثر، وأصبح لزاماً على أولياء الأمور شراء مقاعد لأبنائهم داخل المدرسة لأن الدولة غير ملزمة بتوفير المقاعد، أو صيانة المتردي منها.
وقد اعتمدو في إدارة الشأن الاقتصادي النموذج الرأسمالي الصرف حيث كل شيئ مخصخص، والدولة لا تتحكم بأي شيئ في الاقتصاد فهناك عدد محدود من الأفراد يتحكمون في كل نوع من النشاط، حتى في الكتاب المدرسي (الذي بات بتصرف الشركات خاصة). كما اتسمت تلك المرحلة بسيطرة رأس المال على الحكم حيث أصبح أكبر رجال الأعمال في المجال الصحي وزيراً للصحة لفترة طويلة عمل فيها على تجفيف المستشفيات العامة من الإمكانيات.
الاندماج في العولمة من الشباك واللحاق بمشاريع تقسيم الدول العربية:
بدأت الدولة تخفف من علاقاتها بالدول المتمردة منذ 2003. أيد البشير قيام حكومة عينها بول بريمر في العراق بعيد الغزو العسكري الأمريكي، وفي حين قاطعت الدول المحسوبة على محور المقاومة مجلس بريمر الانتقالي اعترفت به حكومة الخرطوم. وفيما بعد، وبصعود باراك أوباما إلى السلطة في البيت الأبيض، وعندما أفصحت الولايات المتحدة عن مخططها للإطاحة بحكومات الدول اللتي قادت معسكر المقاومة، أيدت حكومة البشير ذلك المخطط واعتبرت نفسها ضلعاً فيه وساهمت في تسهيل سفر المقاتلين من الجهاديين إلى ليبيا للعمل على إسقاط نظام معمر القذافي، كما أعلن البشير تأييده للغزو المسلح في سوريا عام 2011، وأصبح عضوا مؤكداً في تحالف يضم تركيا وقطر - تقوده إدارة البيت الأبيض تحت رئاسة باراك أوباما -، ويهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وتفكيك دولها الكبيرة إلى دويلات على أسس مذهبية وعرقية، وينتهي بتأكيد وتطبيع وضع الكيان الصهيوني ويمنح تركيا مساحات من سوريا والعراق
يعتبر البعض موقف البشير انقلابا في التوجهات لكن التحليل المعمق لفلسفة الحاكمية، وتاريخ حركات الحاكمية العربية، يفهم جيداً مدى اتساق تلك المواقف مع فلسفة وتاريخ الحركيين. وأن الحقبة التي عرفت عضوية السودان تحت حكم الإخوان في محور المتمردين على الهيمنة الأمريكية لم تكن سوى مناورة اضطرارية ونوعاً من المخاطرة البراجماتية فرضتها جفوة الصانع الغربي لتجربة حكمهم.
"
Related Posts
دكتور مصري مقيم في السودان