ما هو الاقتصاد السياسي؟ هو العلاقة البنيوية بين التشكيل السياسي والتشكيل الاقتصادي. هناك عناصر أساسية تدخل في فهمنا للاقتصاد، سأبسطها قدر المستطاع
التطبيع الاقتصادي كحرب غير منظورة
هذا نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور هشام صفي الدين لفريق تحرير الخندق، بتاريخ 4 تموز/ يوليو 2025.
***
ثمة وحشٌ كبير اسمه الكيان الصهيوني يرتكب إبادة جماعية في غزة، ويقوم بقتل وتهجير أهلنا من جنوب لبنان، ويعتدي على السيادة السورية ويحتل أراضيها، كما أنه يهاجم إيران، ولا أحد يردعه. في خضم هذه المعمعة، يوجد بُعد أمني سياسي عسكري يتعلق بمواجهة المقاومة المسلحة، التي هي جزء من تاريخ طويل من المواجهة مع الاحتلال. ولكن، ما من صراع مع استعمار، أو استيطان، أو توسع رأسمالي إمبريالي ليس له بُعد غير عسكري. واليوم، بعد مرور عامين على الحرب، والتي ما زلنا مستمرين فيها، أصبحت هناك برأيي حاجة ماسّة جداً لفهم البُعد الاقتصادي لصراعنا، بما في ذلك أيضاً البُعد الاقتصادي المرتبط بمجتمعنا. فهناك أبعاد للحرب الاقتصادية والمالية المباشرة، مثل العقوبات والحصار المالي الذي يعيشه الكثير منا، وهناك أبعاد تتعلق بالحصانة الاقتصادية والاجتماعية والأمن الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات التي تُمكّنها أو تسمح لها بأن تقاوم وتستمر وتصمد في وجهه.
وأحب في هذا المقام أن أبدأ بمقدمة أضع من خلالها إطاراً مفاهيمياً لما سأتحدث عنه؛ أي التطبيع الاقتصادي. إذ ثمة مفاهيم أربعة لا بد من تناولها، هي:
أولاً: الاقتصاد مقابل الاقتصاد السياسي، لنفهم الفارق بين من يقول إنه يريد الحديث عن الاقتصاد، ومن يقول إنه يريد الحديث عن الاقتصاد السياسي.
ثانياً: علاقة الاستعمار بالاقتصاد، وكيفية فهم الاقتصاد ضمن بنية استعمارية. وفي هذا المجال، هناك مفهوم "التبعية الاقتصادية"، وهو مفهوم حاضر وموجود تاريخياً، ومفهوم "التاريخانية" يعني كيفية فهم الاقتصاد كجزء من تطور مسار تاريخي، وليس كشيء جامد لا يتغير.
ثالثاً: التطبيع الاقتصادي، على أن أختتم بالنقطة الرابعة وهي مفهوم الحصار الاقتصادي والمالي.
لنرى أن التطبيع والحصار والحرب الاقتصادية هي كلها وجوه لعملة واحدة. إذ يضعنا الاستعمار بين حدين؛ التطبيع من جهة، والحصار من جهة أخرى.
الاقتصاد مقابل الاقتصاد السياسي
حسناً، ما هو الفرق بين الاقتصاد والاقتصاد السياسي؟. إذا كنتم تتابعون الأخبار الاقتصادية يومياً، في المدرسة أو الجامعة، أو في عملكم بمؤسسة ما في الإعلام، فهناك ما يسمى بالمؤشرات الاقتصادية. نحن نسمع في الأخبار دوماً عن ارتفاع - أو انخفاض - سعر الصرف، ونسب البطالة، ومستوى المعيشة، والحد الأدنى للأجور، كما ونسبة النمو، والناتج المحلي الإجمال (GDP)، ومفهوم الدخل القومي، ونسب الفقر. وقد تدخل كذلك مؤشرات بيئية في الاقتصاد مثلاً. أما على المستوى الدولي، فكثيراً ما نسمع بمصطلحات كعجز الموازنة، والميزان التجاري، والحساب الجاري، وخدمة الدين (خاصة في لبنان)، والدين العام والخاص. كل هذه المؤشرات هي عناصر لفهم العلاقات الاقتصادية وعملية الإنتاج والاستهلاك. لكن المشكلة في هذه المؤشرات هي أننا إذا لم نمتلك إطاراً عاماً لفهمها، سنبقى في حيرة بشأنها. فمثلاً، قد تزيد نسبة البطالة، وهذا ليس جيداً، ولكن لماذا زادت؟ وما علاقتها بالانتخابات؟ ومن سيصوت لمن؟ وما علاقة كل هذه المؤشرات بقدرتنا على الخروج من ركود اقتصادي معين؟
وهنا مكمن المشكلة. إن الاقتصاد بمعناه المجرد أو العلمي/ التقني، الذي يُدرس بمعزل عن علاقته بالسياسة وموازين القوى والمصالح، إنما ينطلق من فهم ليبرالي للاقتصاد. وهذا ما يُدرَّس في الأكاديميا، لكني أعتبره غير كافٍ ومنقوص. والفكرة فيه مبنية على قواعد السوق الحرة، وعقلانية الاقتصاد ومنطقيته، حيث يتحدد السعر بناءً على العرض والطلب. إن فكرة السوق الحر والاقتصاد كبنية مستقلة عن المجتمع، لها قوانينها الخاصة غير المرتبطة بالسياسة، هي فكرة خاطئة ومنقوصة، بل هي جزء من ترسيخ مصالح اقتصادية معينة. وهذا هو الفارق النوعي بين الاقتصاد والاقتصاد السياسي.
وما هو الاقتصاد السياسي؟ هو العلاقة البنيوية بين التشكيل السياسي والتشكيل الاقتصادي. هناك عناصر أساسية تدخل في فهمنا للاقتصاد، سأبسطها قدر المستطاع من خلال جملة نقاط.
أولاً، في موضوع السوق الحرة والاحتكار.
يدّعي الاقتصاد الليبرالي دائماً أن من الأفضل الاتجاه نحو السوق الحرة، وأن هذا الاتجاه يؤدي إلى الفعالية والإنتاج، وأن التنافس هو أساس الازدهار الاقتصادي. ولكننا نكتشف عبر التاريخ أن الاحتكار ليس استثناءً. فمعظم التطورات الاقتصادية الكبرى حدثت في ظل وجود بنى احتكارية، خاصة في القطاعات الحيوية، أي كل ما له علاقة بالموارد الأولية، والاتصالات، وتدفقات رأس المال.
ثانياً، الاقتصاد والحروب.
يُصوَّر المنطق الليبرالي الحرب دائماً على أنها الاستثناء، وهذا ليس صحيحاً. بل على العكس، تاريخياً، معظم الاقتصادات العالمية إما نشأت أو تحولت نوعياً بسبب الحروب. هناك ما يسمى "اقتصاد الحرب"، ولكن الحرب أيضاً أساس في بنية الاقتصاد. إذ يبدأ جزء كبير من الديون السيادية في العالم، على سبيل المثال، نتيجة الحروب. فالدولة تحتاج إلى الاقتراض والإنفاق. وعندما تنتهي الحرب، لا ينتهي الدين، بل يظل قائماً ويحدد مستقبل الدولة، التي ستضطر إلى تسديد ديونها بدلاً من الإنفاق على التعليم مثلاً.
والحروب ليست هذا فقط، بل هي وسيلة لفتح الأسواق. فانتشار سلعة ما أحياناً قد لا يكون مرتبطاً بكونها جيدة وذات سعر رخيص، بالرغم من أن هذا قد يكون صحيحاً أحياناً، لكنه في أحيان تاريخية كثيرة، قد يكون ناتجاً عن فتح الأسواق قسراً بسبب الحرب. أشهر مثال تاريخي في هذا الصدد هو "حروب الأفيون"،[1] وهناك أمثلة أخرى أقل وضوحاً في منطقتنا. فالحرب وسيلة لفتح سوق جديدة، كما هو الحال مع إيران الآن. لو انتصر الأمريكيون والإسرائيليون، لَفُتح اقتصاد إيران على مصراعيه، ولجاء الأمريكيون للاستثمار بشروط لا ترتبط بالميزان الاقتصادي، بل بمن يهيمن. لا أنكر أن المنفعة تسهّل انتشار السلعة، ولكنها ليست المحدد الوحيد في آليات السوق.
أضف إلى ذلك ثمة مفهوم آخر، وهو "التراكم الأولي"، ويعني النهب والسلب. يمكن لنا في هذا الجانب التنبه إلى تاريخ "إسرائيل"، فجزء كبير من تاريخها هو تاريخ سلب ونهب لمقتنيات وأصول الفلسطينيين. كذلك الأمر يمكن النظر تجاه تجميد أموال فنزويلا في بنك إنجلترا، هذا أيضاً سلب ونهب لا علاقة له بالسوق، والأمر نفسه تجاه تجميد أصول روسيا.
من الحسن أننا نعيش هذه الأمور الآن، مما سهّل فهمها. وربما، لو كنت أتحدث عن هذا الأمر عام 2000، لاستغرب الناس، فقد كان المفهوم الاقتصادي الليبرالي لميلتون فريدمان[2] هو الطاغي.
إذاً، حروب النهب والسلب، وإعادة تشكيل شروط التبادل التجاري، والتعويض عن فشل آليات السوق، كلها أساليب يُلجأ إليها عندما تنخفض الربحية. وهنا نصل إلى فكرة مهمة جداً، أن المحدد الرئيسي للمنطق الرأسمالي ليس منطق السوق، بل منطق الربحية. إذا منحتك السوق ربحية، فهذا أمر جيد. الرأسمالية ليست لديها ميول ضرورية للحرب، ولكن إذا لم توفر السوق الربحية ووفرتها الحرب، فلتكن الحرب. هنا يسمح لنا الاقتصاد السياسي بتحليل اقتصادنا عبر إدماج الحرب كعنصر أساسي في تشكيله.
ثالثاً: الدولة.
بعد الاحتكار والحروب، تأتي مسألة الدولة. ما هو دور الدولة في الاقتصاد؟. ينبغي علينا النظر إلى النظام الضريبي في أي دولة، كمثال، ليس باعتباره انعكاساً لمنطق السوق العقلاني بل كانعكاس لمصالح فئات معينة في المجتمع. فهل النظام الضريبي تصاعدي أم تنازلي؟ وهل الضرائب المباشرة أو غير المباشرة؟. هذه العناصر كلها تؤثر على حياة الناس بشكل متفاوت ومختلف. كذلك الأمر بالنسبة إلى السياسة النقدية وقوانين الملكية.
ينبغي علينا، عندما نحلل أي اقتصاد، أن نفهم قوانين الملكية وطبيعتها، وحركة رؤوس الأموال. وأن نفهم التخطيط المركزي ودور الدولة فيه، وهذه مسائل دائماً ما تكون محل نقاش وصراع.
رابعاً: الاستعمار والاقتصاد.
إذا ما اتفقنا أن الاقتصاد ليس علماً مجرداً وأن حركة الناس الاقتصادية ليست منفصلة عن حركتهم الاجتماعية والسياسية، وإذا ما اعتبرنا أننا نعيش في مجتمع لا يملك قراره الاقتصادي ولا قراره السياسي، فهذا يعني أن هناك بنية استعمارية تحدد مسار اقتصادنا. وقد لا تتضمن هذه البنية تبعية فرد لفرد أو طبقة لطبقة، بل ينبغي أن نفهمها كعلاقة متكاملة ومتشابكة ومعقدة. ولهذا السبب، فإن آلية الاقتصاد الاستعماري أكثر تعقيداً من الاقتصاد الرأسمالي المركزي. نحن نظن دائماً أننا متخلفون، وبالتالي حياتنا أبسط من حياة الغربي، ولكن العكس هو الصحيح. حياتنا وبنيتنا معقدة جداً بسبب التراكم الطبقي والسياسي والاقتصادي والجندري... إلخ. وهذا التعقيد هو نتيجة للاستعمار، ونتيجة نمط إنتاج ملجوم.
سأعطيكم مثالاً يتعلق بالزراعة. قد يأتي أحدهم ويقول إننا ما زلنا نستخدم أدوات قديمة وزراعتنا ليست ممكننة، وبالتالي نحن خارج الإنتاج الرأسمالي الزراعي. لا، هذا غير صحيح. نحن ننتج للسوق العالمية، وليس للاستهلاك المحلي فقط. إذاً، لا يمكننا القول إننا خارج النمط الرأسمالي. ولكننا لا نحدد شروط الأسعار، بل السوق العالمية هي التي تحددها، والإنتاج الضخم هو ما يفضي إلى شروط أسعار مختلفة. هذه أمثلة أقدمها لأقول أن اقتصادنا مُستعمَر، وهذا يعني أنه مركب ومعقد ولا يمكن فهمه في لحظة واحدة.
نحن نحاول تحديد من يمسك بمفاصل هذا الاقتصاد. أشهر مثال تاريخي هو فكرة "الكومبرادور" أو الطبقة الكومبرادورية، أو ما نسميه اليوم "النخب". هناك مقولة شائعة في الغرب مفادها أن سبب تخلف بلداننا هو وجود نخب فاسدة تستغل موارد شعبها وتضع أموالها في الخارج، ولإصلاح الاقتصاد يجب إصلاح هذه الطبقة. هناك شيء من الصحة في هذا الكلام، ولكن هل هذه الطبقة صاحبة قرار اقتصادي فعلاً، أم هي بحد ذاتها طبقة مستتبعة للغرب؟. قد تكون غير تابعة سياسياً ولكنها تابعة اقتصادياً. هذه حالة نراها في بلاد الشام. ففي سوريا مثلاً، في عهد بشار الأسد، كان هناك تبعية اقتصادية لتركيا، بالرغم من التنافر الأيديولوجي والسياسي. وهذا ما خلق ضعفاً وصداماً. إذاً، علينا فهم مستويات التبعية هذه، وتفكيك هذا التراكب.
فكرة أننا إذا أصلحنا استقلالية القضاء فسيُصلح الحال - وغيرها من المفاهيم الليبرالية - هي فكرة منقوصة. حتى مفهوم الاستبداد لدينا، هو يقع ضمن البنية الاستعمارية. ونحن ينبغي علينا التنبه لعدم جواز الحديث عن الاستعمار وإهمال الاستبداد، أو العكس. إنهما بنية واحدة. عبد الناصر كان لديه نوع من السلطوية، ولكنه لم يكن مستبداً. هناك ما أسميه "الاستبداد النيوليبرالي" الذي لا يقتصر على البُعد السياسي. لماذا؟ لأننا إذا حصرنا الاستبداد في البُعد السياسي، فستبدو كل دول العالم الثالث مستبدة ومتخلفة، وستبدو كذلك كل دول الغرب ديمقراطية مع أنها دول متوحشة، إذا ما أدخلنا عوامل أخرى. فلو أضفنا الهند إلى بريطانيا، لما بدت بريطانيا ديمقراطية تماماً. أشكال الاستبداد تتغير. والاستبداد النيوليبرالي هو التخلص من كل العناصر التقدمية والاجتماعية في حركات التحرر غير الليبرالية، مع الإبقاء على النظام الأمني أحياناً، وتحقيق انفتاح اقتصادي. عندما أصف الاستبداد بأنه "نيوليبرالي"، أكون قد خصصته تاريخياً بمرحلة محددة، ولم أجعله مطلقاً وكأنه مسألة هوياتية.
ما أحاول قوله هو أن التصنيفات التي نستخدمها تؤثر في فهمنا. ونحن عندما ندخل العنصر الاقتصادي في تحليلنا، يصبح فهمنا للسياسة أعمق وأقل تسطيحاً، ونستطيع فهم عناصر الضعف والقوة وما يمكننا تغييره. وهنا تأتي الخصوصية التاريخية التي تحدثت عنها. هناك خصوصية زمنية (شكل الحكم في الخمسينيات يختلف عن الآن)، وخصوصية مكانية (البنية الاجتماعية في بلاد الشام بتعددها الديني والإثني تختلف عن مصر).
على الهامش، جزء من أزمتنا اليوم في بلاد الشام أننا آخر منطقة في العالم القديم ما زال فيها استعمار استيطاني، وهو الكيان الصهيوني، ولكننا في حقبة ما بعد التحرر الوطني. لقد تشكلت دويلات في منطقتنا قبل أن ننتهي من الاستعمار، وهو ما خلق أزمة. فأصبح من الصعب استيعاب كيف أن البعض يقول "سوريا أولاً" أو "لبنان أولاً" وما شأني بفلسطين. هذا جزء من أثر تشكل هذه الدويلات التي رسخت هويات خاصة بها. فكيف يمكنك اليوم أن تناقش فكرة أنك لا تستطيع بناء دولة قوية وبجوارك كيان استعماري توسعي؟ أو كيف يمكنك أن تتغاضى عن الفساد والاهتراء في مجتمعك بينما تريد محاربة "إسرائيل"؟ علينا أن نفهم كيف نحارب "إسرائيل" اليوم في ظل هذا التشكيل الجديد وهذه الخصوصية الجديدة.
التطبيع الاقتصادي.
دعوني أطرح نقاطاً حول التطبيع الاقتصادي على الطاولة.
أولاً، هناك سياق أيديولوجي وتاريخي للتطبيع. فمنذ نشأة الحركة الصهيونية، كانت الصهيونية تدّعي دائماً أن قيام "إسرائيل" هو امتداد للحضارة الغربية الحديثة، المنتِجة والمتقدمة تكنولوجياً وصناعياً. وفي الوقت نفسه، كانت تحاول إقناع العرب بأنهم سيستفيدون من وجود "إسرائيل". أول اتفاق بين حاييم وايزمان والملك فيصل الأول[3] تضمن وعداً بمساعدة الإسرائيليين لفيصل في التنمية. بالطبع، قبل مئة عام، كان لهذا الكلام أهمية، حيث كان الناس يرون فارقاً هائلاً في الإنتاجية والصناعة بينهم وبين الأوروبيين.
إن إدخال مفهوم تأبيد وجود "إسرائيل" ككيان طبيعي بيننا سياسياً، قد يجعل من الاقتصاد أداة للهيمنة، وليس فقط سبباً أو حافزاً للعمل السياسي. الآن، إذا ما راجعنا مسارات التطبيع في الأردن والخليج والمغرب وفلسطين ومصر، فإننا سنستنتج أنه لا توجد أي حالة يمكننا أن نُثبت فيها أن التطبيع الاقتصادي أدى إلى تحسين الظروف الاقتصادية لتلك البلدان. بل على العكس من ذلك، هناك حالات، كالأردن مثلاً التي يتحدث عنها الدكتور هشام البستاني، شهدت إفقاراً نتيجة للتطبيع، حيث حدث إفقار ونهب مائي في بلد جاف كالأردن. كما نشأت تبعية اقتصادية لـ"إسرائيل"، وليس العكس، كما في قصة الغاز المصري والمبالغ التي تُدفع مقابله. ونلاحظ أن حجم هذا التبادل كان ضئيلاً ولم يكن ذا تأثير كبير، كما أنه لم يحدث أي نقل تكنولوجي أو معرفي من "إسرائيل" إلى هذه الدول. فنحن نعلم أنهم لا يفعلون ذلك، ولكننا كنا نحاول إثباته.
لقد حصل التطبيع الاقتصادي على مراحل في منطقتنا، وكانت آخر مرحلة هي مرحلة اتفاقيات أبراهام السياسية. ولكن أخطر ما يحدث الآن برأيي، والمرتبط بمنطقتنا، هو موضوع الغاز والتطبيع في مجال الطاقة. فكما تعلمون، يشهد العالم اليوم حروباً كبرى على مصادر الطاقة، وأسعارها في ازدياد، وحاجة الكوكب بأسره للطاقة في تزايد أيضاً. وهناك تحوّلات، على الرغم من أنها ليست جادة تماماً، من الوقود الأحفوري إلى الغاز.
إن التطبيع في مجال الطاقة في الشرق الأوسط يشمل مجالات الغاز والكهرباء، وهما أهم مجالين، بالإضافة إلى قضية المياه. والخطير في الأمر أن محور المقاومة يستخف بهذا الموضوع، كما يصعب على الفرد أن يراه أو يلتمسه مباشرة. فقد ترى منتج "بيبسي" فلا تشتريه، ولكن إذا وصلتك الكهرباء إلى منزلك، فإنك لن تعرف مصدرها. وعندما يتم استجرار الكهرباء من فلسطين مروراً بالأردن وسوريا ولبنان، فمن أين للمستهلك أن يعرف مصدر هذه الكهرباء؟.
لذا، تكمن خطورة التطبيع الاقتصادي اليوم في أنه أصبح بنيوياً ولم يعد يقتصر على مجال استهلاك السلع. والأمر الثاني، هو أن هذا يحدث على صعيد الدول، فالدول أو الشركات الكبرى هي التي تقرر عقد اتفاقية غاز، وليس المواطن العادي. إن هذا يؤسس لشبكة تكامل اقتصادي (بين مزدوجين) مع الكيان الصهيوني، وهو أمر بالغ الخطورة.
[1] حروب الأفيون مصطلح يشير إلى حربين اندلعتا بين الصين وبريطانيا (الحرب الأولى: 1840 - 1842) والصين من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى (الحرب الثانية: 1856 - 1860). وكان السبب المباشر لهما محاولة الصين الحد من زراعة الأفيون واستيراده، مما حدا ببريطانيا أن تقف في وجهها بسبب الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بريطانيا من تجارة الأفيون في الصين. وكان من نتائجهما أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية. اُرتكبت في هذه الحروب مجازر وحشية من قبل البريطانيين وحلفائهم، بعد أن عملوا على نشر تعاطي الأفيون بين الشعب الصيني، فاستمر هذا الداء مستشرياً في الصين حتى مطلع القرن العشرين، ولم يتم القضاء على هذه الظاهرة حتى عهد ماو منتصف القرن الماضي.
[2] ميلتون فريدمان (1912 - 2006): عالم اقتصاد أمريكي، فاز بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1976 لإنجازاته في تحليل الاستهلاك ونظريته في شرح سياسات التوازن الالقتصادي. يُعتبر فريدمان من بين قادة الجيل الثاني من مدرسة شيكاغو الاقتصادية بدءًا من الأربعينيات فصاعداً.
[3] اتفاق فيصل – وايزمان: هو اتفاق أبرمه الأمير فيصل الأول (لاحقاً ملك العراق) مع حاييم وايزمان (رئيس المنظمة الصهيونية العالمية) عام 1919. يهدف الاتفاق إلى إقامة علاقات تعاون بين العرب واليهود في فلسطين، مع اعتراف فيصل بالوعد البريطاني بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين (وعد بلفور)، مقابل دعم العرب للحصول على استقلالهم.
Related Posts
أستاذ مساعد في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الكلية الملكية في جامعة لندن.