Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

هذا النص هو خلاصة حوار أجرته الخندق مع المفكر اللبناني، والاقتصادي، الدكتور جورج قرم، وقد اخترنا نشر ملخص الحوار معه كنص أخير، تحية من الخندق له في عليائه

هيئة التحرير

جورج قرم: نص أخير

هذا النص هو خلاصة حوار أجرته الخندق مع المفكر اللبناني، والاقتصادي، الدكتور جورج قرم، وقد اخترنا نشر ملخص الحوار معه كنص أخير، تحية من الخندق له في عليائه.

***

منذ تأسس لبنان، ارتسم عنوان البلد الاقتصادي وسياساته المالية وفق رؤية محددة. بإمكاننا إرجاع هذه الرؤية إلى المفكر الكبير ميشال شيحا. كتب شيحا عن فلسطين نصوصاً كثيرة صائبة، وجميلة، ونبّه من الخطر الصهيوني على لبنان. لكنه طوّر من جهة أخرى أفكاراً اقتصادية طبعت سياسات لبنان الاقتصادية لعقود، مفادها أنه ينبغي على لبنان اجتناب دخول مجالي الصناعة والزراعة، وأن عليه أن يظل بلداً للخدمات. كان للرجل نفوذ فكري كبير في البلاد. وقد هذه الفكرة بقيت في أذهان اللبنانيين، إلى أن أتى عهد الرئيس فؤاد شهاب بين عامي 1958 و 1964.

فؤاد شهاب هو الذي بنى الدولة اللبنانية الحديثة بكل ما للكلمة من معنى، وليس الاستعمار الفرنسي. كانت نظرته تتمحور حول وجوب تطوير لبنان لقطاع الزراعة، فأعاد تفعيل "مكتب الحرير" لإحياء صناعته التي كانت مزدهرة في جبل لبنان تاريخياً. كما شجع الصناعة، وعمل على استصلاح الأراضي الزراعية. كان جل همه تحقيق العدالة الاجتماعية بين اللبنانيين في كافة المناطق. فكرة "الإنماء المتوازن" أتت من الجنرال فؤاد شهاب ومستشاره الأب لويس جوزيف لوبريه (Louis-Joseph Lebret) الذي أقام في لبنان أربع سنوات وأجرى مسحاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكل المناطق اللبنانية، وحذّر من التفاوت بين بيروت وجبل لبنان من جهة، ومناطق الأطراف من جهة ثانية، وأن هذا التفاوت قد يفضي إلى انفجار كبير في البلاد. وهذا ما حصل فعلاً عام 1975، بالتزامن مع ظروف خارجية ساعدت على الانفجار.

المشكلة الأكبر بدأت بُعيد الحرب الأهلية، عندما نشأ تحالف بين رؤساء الميليشيات، التي عاثت في البلد فساداً، وبين رجال المال وبالأخص أولئك الذين جنوا الكثير من الثروات من دول الخليج (وكانت السعودية على رأس هذه الدول). فطبّق هؤلاء سياسات أغفلوا فيها أن لبنان لا يملك نفطاً.

كانت الفكرة ساذجة بعض الشيء، وهي أن لبنان يمكن أن يعود إلى دوره ما قبل الحرب الأهلية، أي أن يكون وسيطاً بين دول عربية متخلفة اقتصادياً ودول غربية متقدمة. لكن الزمن كان قد تجاوز هذا الوضع، فحتى الدول العربية ذات الطابع الاشتراكي كانت قد أجرت انفتاحاً اقتصادياً وتواصلاً مع الاقتصادات الأوروبية أو الأمريكية المتطورة. كما كانت دول الخليج العربي قد أنشأت بنى تحتية واسعة وضخمة، فلم تعد بحاجة إلى الوساطة اللبنانية كما كان الحال سابقاً.

كان رفيق الحريري مهندس سياسات لبنان الاقتصادية ما بعد الحرب، وعنده تقاطعت كل جماعات الضغط والمصالح الداخلية والخارجية. وكانت سياساته كلها بُنيت على فرضيات غير واقعية. في الحقيقة، كان ثمة فرضية محورية في تفكير الحريري والطبقة الحاكمة في لبنان، آنذاك، بأن السلام مع "إسرائيل" قادم لا محالة. وأن لبنان سيعود ليصبح بلداً للخدمات.

وقّع الرئيس الحريري في ضوء هذه الفرضيات سلسلة اتفاقات تبادل حر في كل اتجاه؛ مع السعودية (التي تدعم إنتاجها خارج القطاع النفطي)، مع مصر، والأردن، ومع الاتحاد الأوروبي. وكانت كل هذه الاتفاقات مضرة بالقدرات الصناعية اللبنانية، ومعيقة لها. كمثال، بُعيد الحرب، لم يتم تعويض أي من أصحاب المصانع التي دُمِّرَت بالمطلق، كما لم يكن هناك أي نوع من الدعم للزراعة اللبنانية رغم ما نملكه من قدرات هائلة في هذا المجال. في المقابل، تم منح أموال طائلة لتعويض البيوت المدمرة من خلال "صندوق المهجرين"، وهذا الأمر فضيحة تامة وناجزة لا تزال سارية إلى اليوم.

هكذا كان الاقتصاد اللبناني ما بعد الحرب يسير في طريق الانحدار. وكان الحديث عن معدل النمو المرتفع بعد الحرب (15% أو 20%) يمنع أي صوت معترض على السياسات الاقتصادية. تجاهل هذا المنطق كون ظاهرة ارتفاع مؤشرات النمو معتادة وطبيعية بعد أي حرب وتأتي كنتيجة عادية لإعادة الإعمار. فاستمر الحريري بسياساته الكارثية. وبدلاً من أن يرفع نسب الضرائب (وهو ما يحدث عادةً بعد الحروب) فعل العكس تماماً؛ فخفّض ضريبة الدخل من 43% إلى 10%. وهذا أمر غير واقعي. إذ ليس هناك من دولة تخرج من حرب وتُقدِم على تخفيض معدلات الضريبة عندها. ثم توالت سلسلة الأخطاء هذه، فأتى النظام النقدي الذي اعتمده المصرف المركزي في لبنان بسعر صرف ثابت، في الوقت الذي انتقل العالم كله إلى أسعار صرف عائمة. وتم تشجيع دولرة الاقتصاد إلى حد بعيد، ورفع الفوائد على سندات الخزينة. فأصبحت اللعبة المالية الداخلية قذرة. كان الناس يقترضون بالدولار بفائدة 6 - 7%، ويستثمرون الأموال في سندات خزينة التي وصلت فائدتها إلى 40% تقريباً. كانت سياسات مدمرة للبلد، وكانت سياسات ريعية على حساب القدرات الإنتاجية. وهذه كانت المدخل ليبدأ لبنان على اعتياد "التسوّل". فنذهب ونطالب الجميع منحنا هبات ومساعدات وقروضاً بدلاً عن الإنفاق الريعي. لقد كان أمراً مذهلاً.

وكل ذلك كان يمكن أن نراه ونلمسه متجسداً في ما سُمي بسوليدير. سوليدير جريمة لا تُغتفر. هي كذلك جريمة قانونية ودستورية. فلقد استولت سوليدير بالإجبار على أملاك الناس وأرزاقهم وأعطتهم مقابل ذلك أسهماً. وهذا كله ينافي أبسط قواعد القانون الدستوري. أنظروا "سوليدير"، هي إلى اليوم منطقة خالية من الروح، ولم تُفضِ إلا إلى إبادة التراث المعماري العثماني، والإيطالي، والفرنسي، والعربي الجميل، الذي كان قائماً. طبعاً الأجيال اللبنانية الجديدة لا تذكر ذلك، لكن أي شخص يرى الصور القديمة لساحة الشهداء، أو ساحة البرج كما كانت تسمى، يدرك كم كانت بيروت جميلة، وكم خسرت بيروت بوجود سوليدير.

هذا كله كان نوعاً من التدمير اللاواعي. فالخيال التنموي للرئيس الحريري كان - في نهاية الأمر – رهين ما أنجزه في المملكة العربية السعودية. وبيروت بالنسبة له لم تكن لتختلف عن جدة أو الرياض، أو حتى مكة والمدينة المنورة. نحن اليوم عندما نتطلع إلى مكة والمدينة، ماذا نرى؟ نرى الفنادق الفخمة والأبراج المحيطة بالكعبة. هذا مشهد دائماً ما يرعبني. إذ كان من المفترض الحفاظ على الأماكن التي عاش فيها النبي محمد حول الكعبة، كذلك الأمر في المدينة. بدلاً من هذه المذبحة التراثية التي لا أول لها ولا آخر. هذا النموذج، ويا للأسف، هو الذي انتقل إلى لبنان عبر "سوليدير".

وقد يحاجج البعض في أن مثل هذا التوجه كان توجهاً عالمياً، وأنه ترِكة لمدرسة شيكاغو مثلاً، حيث تنسحب الدولة من الاقتصاد ولا مشكلة في الدين طالما أننا قادرون على سداده. أي أن هذه الظاهرة كانت حزءًا من نظام عالمي سائد بعد التسعينيات. لكن الأمر لم يكن على هذا النحو بالإطلاق. صحيح أن النيوليبرالية ظهرت كاتجاه عالمي، إلا أنها لم تُطبَّق بهذا الشكل غير العقلاني في أي مكان في العالم. لقد طُبقت لمصلحة الفئات الغنية على حساب الفئات العمالية أو المتوسطة والمتدنية الدخل، لكن لم يحدث في أي دولة أن فكّكت القدرات الإنتاجية فيها. فما مِن دولة في العالم وقّعت اتفاقات تبادل حر في كل اتجاه قبل أن تعيد تكوين قطاعي الصناعة والزراعة. لقد كانت سياسة غير منطقية أدت إلى نهب البلد. ونحن اليوم، في هذه الظروف التي نعيشها، ندفع ثمن ثلاثين سنة من سياسات اقتصادية غير صحية إطلاقاً، أتت لمصلحة كبار المتمولين على حساب الطبقات الصغرى والفقيرة.

ومع ذلك، لم تكن حقبة ما بعد الحريرية السياسية أفضل بكثير. إذ ظلت الدولة تفتقد للسياسات المالية المتوازنة، وظل رهانها على السياسات النقدية وتدفق رؤوس الأموال من الخارج ليس إلا، حتى مع اندلاع الأزمة السورية، وما تلاها من قطيعة اقتصادية لبنانية – سورية، لم يستطع أي سياسي لبناني وقف الانهيار المتسارع الذي أوصلنا إلى القعر. فطالما لم نتجه لتشكيل لجنة تحقيق تنظر في سياسات مصرف لبنان وحساباته، وفيما استحصلته المصارف اللبنانية من أرباح سنوية ضخمة، فإننا سنظل بعيدين عن أن نخرج من الأزمة. كيف تبخرت أموال المودعين في المصارف؟ ماذا حصل للمصارف؟ لماذا هرّبت أموالها؟ الأرجح أنها هربت أموالها إلى الخارج. كل هذا يتطلب لجنة تحقيق في سياسات مصرف لبنان، وحساباته، وأرباحه.

إن النهب المنظّم الذي قامت به الفئات الرأسمالية المستفيدة من هذه الأوضاع الفوضوية منذ 30 عاماً، أوصلتنا إلى نقطة لا نستطيع معها القول لا لصندوق النقد الدولي. فصندوق النقد يملي، والدولة تأتمر بأمره.

وأما وأن الحال بمثل هذا النحو فوصيتي لمن يفاوض صندوق النقد، أن يبقى تحت سقفين رئيسين أياً يكن الحال: أولاً، أن يرفض الخصخصة، وثانياً، ألا يضغط على الرواتب والأجور. يجب أن نضع هذين المبدأين في أي تفاوض مع صندوق النقد الدولي. واليوم يبدو أنه من الصعب تجنب الحوار مع الصندوق، لكن يجب أن يكون لدى الحكومة هذان الخطان الأحمران في أي نقاش معه.

صحيفة الخندق