Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم يتوقف السؤال عن هوية الاقتصاد السوري منذ عقود، وكذلك الإجابات والتفسيرات والنصائح، لكن شيئاً لم يتغير، وظلت هويته ضبابية، هوية يتجدد اسمها وتوصيفها عند كل منعطف تمر به البلاد، واحتار الاقتصاديون في اختراع مسمياته؛ اشتراكي، نصف ليبرالي، اقتصاد سوق اجتماعي، ومؤخراً اقتصاد السوق الحر الذي قررت الإدارة السورية الجديدة اعتماده دون تمهيد، ولا دراسات، وإنما بمبدأ الصدمة

فراس القاضي

الهوية الضائعة منذ عقود

لم يتوقف السؤال عن هوية الاقتصاد السوري منذ عقود، وكذلك الإجابات والتفسيرات والنصائح، لكن شيئاً لم يتغير، وظلت هويته ضبابية، هوية يتجدد اسمها وتوصيفها عند كل منعطف تمر به البلاد، واحتار الاقتصاديون في اختراع مسمياته؛ اشتراكي، نصف ليبرالي، اقتصاد سوق اجتماعي، ومؤخراً اقتصاد السوق الحر الذي قررت الإدارة السورية الجديدة اعتماده دون تمهيد، ولا دراسات، وإنما بمبدأ الصدمة، لكنها لليوم لم تجرؤ – إن صح التعبير – على تطبيقه بشكل فعلي، وواضح أن محاذيرها لا تختلف عن محاذير النظام السابق: انهيار الاقتصاد بشكل كامل، وانهيار المجتمع - شبه المنهار أساساً – معه.ا

والحقيقة أن الاقتصاد السوري لم يكن يوماً أياً مما سبق بشكل فعلي، ولم يحقق الشروط الواجب توفرها في أيٍ من الأنواع السابق ذكرها، لأنه لم يكن يوماً نتاج معادلات اقتصادية، أو خططاً طويلة الأمد فرضتها دراسات لإمكانيات البلد ونقاط قوته وضعفه، أو حتى نسخاً مستوردة أو مستنسخة عن تجربة ما، بل وبمنتهى البساطة، كان انعكاساً مباشراً للسياقات والمراحل السياسية التي مرت بها سوريا. وفي كل مرحلة، يتم تفصيل اقتصاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو لتطبيق فكرة رأى أحدٌ ما أنها الحل، دون أخذ أي اعتبار للأثر التراكمي الذي قد يكون مدمِراً.ا

كيان جديد واضطرابات متوقعة

يؤيد ما سبق ويزيد عليه، الباحث السياسي والاقتصادي الدكتور محمد صالح فتيح، الذي يقول إنه في بلد مثل سورية، يتقدم العامل السياسي على غيره وبمسافة كبيرة، فسورية ككيان سياسي، حديثة العهد نسبياً، وشهدت الكثير من الاضطرابات، وبالنتيجة لا غرابة في عدم استقرار النظام الاقتصادي وتعرضه للكثير من التشوه والتقلبات، إذ أن مسار تطور النظام الاقتصادي لأي بلد، هو حصيلة تداخل عوامل مختلفة أهمها النظام السياسي للبلاد، كما تلعب الجغرافيا والثروات الطبيعية والثقافة والقيم الاجتماعية أدواراً مهمة.ا

يتابع الفتيح: إذا ما قبلنا جدلاً أن النظام السياسي في سورية قد بدأ بالتشكل مع انتهاء الاحتلال العثماني، فهذا يعني أن عمر هذا الكيان بالكاد يزيد على قرن من الزمن، وهذه فترة قصيرة جداً، خصوصاً إذا ما عقدنا المقارنة مع الدول الأوروبية أو حتى تركيا. وكما تقلب النظام السياسي في سورية ومر بحقب مختلفة، منها الديمقراطي النيابي، والعسكري الاشتراكي، وصولاً إلى الإسلامي، فقد تقلبت بالنتيجة الأنظمة الاقتصادية بشكل حاد. وفي أغلب الأحيان كان التقلب نتيجة عاملين رئيسين: الأول هو استيراد أفكار سياسية ونظريات اقتصادية غريبة عن البلاد ومحاولات تطبيقها بشكل مستعجل وخاطئ، والثاني هو التخبط في التطبيق والشعبوية في الطروحات ومحاولة إرضاء قوى داخلية مختلفة.ا

فبُعيد الاستقلال عن فرنسا، كان النظام السياسي السوري ديمقراطياً وبرلمانياً، وكان النظام الاقتصادي هو اقتصاد السوق الحر. إلا أن العديد من السياسيين، ولعل أبرزهم أكرم الحوراني، تدخلوا في الاقتصاد، في محاولة لإرضاء الطبقات الأدنى، فبدأ الاقتصاد يفقد طبيعته الحرة، وبدأ بالانغلاق. أعقب ذلك تطبيق قسري للاقتصاد الاشتراكي، خصوصاً في عهد الوحدة مع مصر، ثم بعد وصول حزب البعث إلى الحكم في 1963.ا

لكن وبالرغم من تبني نموذج الاقتصاد الاشتراكي، لجأ حزب البعث - خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات - إلى تقديم تنازلات لبعض كبار رجال الأعمال والتجار، والسماح لهم بالهيمنة على أجزاء معينة من الاقتصاد، وذلك في محاولة للحفاظ على الاستقرار السياسي في تلك المرحلة. وتم تبرير هذه التحركات تحت عنوان الانفتاح الاقتصادي. فكانت النتيجة العملية - من الناحية الاقتصادية - هي حصول عجز كبير في الميزان التجاري، وذلك لأن الغالبية الساحقة من رجال الأعمال الذين حصلوا على تلك المكاسب السياسية، فضلوا العمل في الاستيراد ذي العائد السريع والمضمون، بدل المخاطرة في إنشاء أي أنشطة إنتاجية. فكانت الحصيلة الإجمالية في النصف الثاني من الثمانينات، انهيار الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، ووجود اقتصاد اشتراكي غير قادر على الإنتاج الفعلي. وباتت سورية في الثمانينيات مستورداً صافياً للغذاء، ولولا الاكتشافات النفطية في دير الزور والحسكة، لعانت سورية من مجاعة وأزمات سياسية واجتماعية كبرى في تلك المرحلة.ا

اقتصاد السوق الاجتماعي.. مناورة جديدة

اعتباراً من العام 2005 تم تبني ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي الذي زعم محاولة دمج نموذج السوق الحر والنموذج الاشتراكي. هذا النموذج يراه د. فتيح محاولة للتعامل مع نتائج انتهاء الطفرة النفطية، وتضاؤل المساعدات المالية الخارجية، والحاجة لتقديم تنازلات جديدة لمجتمع رجال الأعمال للحفاظ على الولاء للنظام السياسي، كما يرى أن القاسم المشترك بين هذه التجارب السياسية والاقتصادية التي عاشتها سورية بين 1946 و2024، هو بُعد الممارسة عن النظرية أو عن الشعار والهدف المعلن. فكانت الإجراءات المتخذة في المجال الاقتصادي مجرد مجموعة من المناورات السياسية والشعبوية، وعملية شراء ولاء من الفاعلين المختلفين في الداخل.ا

سنغافورة أم السعودية؟

هذه التفاصيل لا تزال هي السمة الرئيسة للاقتصاد السوري ما بعد سقوط النظام السابق. فالعنوان المعلن للاقتصاد هو التحرير الكامل، بما في ذلك عبر خصخصة القطاع العام، وتخفيض الضرائب بشكل كبير، والتخلي عن أي دور داعم للإنتاج المحلي بما في ذلك الزراعة. وبحسب الفتيح، يتم تسويق هذا التحول الاقتصادي لأسباب مختلفة؛ بينها إرضاء الرأي العام الداخلي والخارجي. إذ يوجد اعتقاد أن الحديث عن التحرير الاقتصادي الكامل سيرضي الرأي العام الداخلي، من باب أن النظام السابق هو المسؤول – عبر فساده وتقييده للاقتصاد – عن المعاناة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها السوريون اليوم. وهناك كذلك اعتقاد مفاده أن الحديث عن التحرير الاقتصادي أمام المسؤولين الأجانب، سيسرع عملية تطبيع العلاقات والحصول على الدعم الدولي. فالحديث عن استنساخ تجربة سنغافورة ظهر للمرة الأولى على لسان وزير الخارجية أسعد الشيباني خلال منتدى دافوس في يناير/كانون الثاني 2025. ثم تحدث وزير الاقتصاد والصناعة محمد نضال الشعار، في يوليو/تموز 2025، عن اتباع النموذج الاقتصادي السعودي. ولكن لم يوضح أي منهما ما هو وجه الشبه بين سوريا وسنغافورة أو السعودية.ا

تنازلات ونتائج سلبية حتمية

ويختم الباحث الفتيح بأن النظام الاقتصادي الجديد لسورية يتم تشكيله الآن تحت عنوان الاقتصاد الحر، ولكن عبر انتقال مستعجل، بالإضافة لمحاولة تقديم تنازلات تشتري الولاء السياسي. وهذا ما سيقود بشكل حتمي إلى تشوهات ونتائج سلبية خطيرة للغاية. وأولى المؤشرات على هذا هو ما نراه في المجال الزراعي. حيث انخفض إنتاج القمح في سورية لأدنى مستوياته منذ عقود، وإلى حوالي ثلث ما كان عليه في العام الماضي. هذا الانخفاض الحاد جاء بالدرجة الأولى نتيجة إيقاف كل أنواع الدعم للقطاع الزراعي تحت عنوان إيقاف الهدر وتبني الاقتصاد الحر.ا

تضييع مقصود للهوية

"مجرد فكرة الهوية الاقتصادية هي فكرة مرعبة للأنظمة البراغماتية مثل النظامَين السابقين".ا

هذا ما يراه الخبير الاقتصادي الدكتور خالد تركاوي، والسبب أن فكرة الهوية المعروفة فكرة مُلزمة وثابتة، والثبات لا يخدم البراغماتيين، فحين كُتب في الدستور أن النظام الاقتصادي نظام اشتراكي، كان حافظ الأسد يُرضي حزب البعث، لكن من الناحية التطبيقية، لم تكن الشركات والأجهزة الإنتاجية بيد الدولة، بل بيد السلطة، ولم يكن هناك استفادة حقيقية للمجتمع، لكن لا شك أن القطاع الاقتصادي الحكومي حينها استوعب عدداً كبيراً من العمال، وهذه نقطة تحسب له، لكن من الصعب أن نقول إن النظام الاقتصادي كان اشتراكياً، بل أقرب ما يكون للاشتراكي.ا

وحين وصل بشار الأسد إلى السلطة، غيّر الاقتصاد، وأسماه اقتصاد سوق اجتماعي، ليحقق غايتين؛ الأولى الحفاظ على رضا حزب البعث، والثانية الإيحاء بشيء من الانفتاح، لكن من الناحية العملية، تم تسليم الاقتصاد لعدد من الأشخاص، على رأسهم رامي مخلوف الذي قال مرة إنه يملك 60 بالمية من اقتصاد سوريا.ا

اقتصاد السوق الحر.. هل ينجح؟

اليوم - يضيف د. تركاوي - بدأت السلطة الجديدة تقول إن البلد مفتوحة أمام المستثمرين، وإن أمام العمال مرحلة صعبة سيمرون بها، حيث سيغادر بعضهم عمله، وسيتم رفع رواتب المتبقين، إضافة إلى البدء بتحرير القطاع النقدي والمصرفي، وزيادة الضرائب، وهذا أقرب ما يكون إلى محددات ومعالم اقتصاد السوق الحر، هذا الأمر يتضح من خلال التنظير والبدء بالتطبيق، لكن إلى أي حد سيستمر؟ وهل سينجح؟ إذ لا تكفي الرغبة للنجاح، فهو مرهون بعوامل مختلفة، أغلبها أمني وسياسي أكثر منه اقتصادي.ا

ماذا عن المجتمع؟ هل يحتمل؟

المجتمع.. وإمكانية تصدّعه بسبب الانتقال إلى نوع جديد من الاقتصاد عن طريق الصدمة ودون تمهيد، فكرة لم ينفيها تركاوي، لكنه قلل من التهويل المحيط بها، لأنه يرى أن الاقتصاد السوري لم يكن أساساً في مرحلة والآن ينتقل إلى غيرها، لأن بين المرحلة الحالية، ومرحلة النظام الاقتصادي الذي جاء به بشار الأسد، كان هناك مرحلة اقتصاد الحرب، أي تسخير موارد الدولة والحكومة والشعب لخدمة الحرب، وكانت مرحلة صعبة دُمرت فيها البلد، واليوم لا يتم الانتقال من اقتصاد شبه اشتراكي إلى اقتصاد سوق اجتماعي كما حدث بين بشار وحافظ الأسد، بل ننتقل من عدم وجود اقتصاد، ومن بنى تحتية مدمرة، إلى حالة تسمى اقتصاد السوق الحر، أي أننا نصيغ المكونات من البداية.ا

حرية.. مرونة.. لامركزية نسبية

أما وجهة نظره الخاصة فيما يجب أن يكون عليه الاقتصاد السوري، فيعتقد الخبير تركاوي أن النظام الاقتصادي الحر هو الأنسب، أي الاقتصاد الذي يقوم على التخطيط الإقليمي والتنافسية المحلية والتوزيع المتساوي للموارد، والتمكين الاقتصادي للمواطنين والمستثمرين، وأن تتحول الدولة إلى راعٍ ومشرعٍ للقوانين الاقتصادية، لكن هذه "الحرية" – إن صح التعبير - تعتمد على نوع من اللامركزية نسبياً، حيث على مختلف المناطق والمحافظات أن تنمّي نفسها عبر التنافس مع غيرها، ويجب أن تُوزع الموارد المركزية بشكل عادل، لكن وفي ذات الوقت، يرى د. تركاوي أنه لا بد من تدخل حكومي واضح في بعض المراحل، ليكون الأمر مزيجاً من مجموعة من الفاعلين؛ هم الحكومة والمستثمرون والأفراد، من أجل تملك وسائل الإنتاج، والعمل فيها بشكل مشترك، وصياغة قوانين مرنة قابلة للتعديل بشكل دائم، إذ أن المرونة شرط أساسي في هذه المرحلة الضبابية.ا

رفع العقوبات.. موال طويل

ولا يكتمل الموضوع دون الحديث عن موضوع العقوبات، إذ أنها ما تزال تعيق الكثير من الأمور بحسب الكثير من الخبراء الذين يؤكدون في كل مناسبة أن ما رُفع منها ما يزال دون المطلوب.ا

وكان للخبير تركاوي (المقيم في فرنسا)، رأيه غير "الشعبي"، ولا المُستسهِل في الحديث عنها كما درج في الفترة الأخيرة، لأنه ملم وعارف بالبيروقراطية الغربية الشديدة والدقيقة في المعاملات والإجراءات.ا

يقول تركاوي إن موضوع رفع العقوبات معقّد، فسوريا معاقبة منذ العام 1979، والمصارف الخارجية - ومن قَبل العقوبات الأخيرة التي فُرضت خلال الحرب – ترتبك عند التعامل مع جهة سورية.ا

والآن، وبعد عقود من العقوبات، أصبحت القضية أصعب من مجرد الاستجابة لقرار سياسي برفعها، وستحتاج للكثير من الوقت فيما يتعلق بتفاصيل التعامل مع الحالة السورية، فالنظم الغربية شديدة البيروقراطية، ولديها شكل معين من الإجراءات، وحين سيتلقى الموظف إجراءً مختلفاً سيرتبك، ليس لأنه غير مرن، بل لأنه يعمل وفق بروتوكول معين، لذا كيف سيقوم بتعديله؟ الأمر ليس من صلاحياته، ويحتاج إلى مستوى أعلى من متخذي القرار، لذا سيقوم برفع الإجراء للمستوى الأعلى، وسينتظر الجواب أو القرار الجديد ليستطيع تمرير وتطبيق المطلوب منه، وهذه أمور وإجراءات تحتاج لوقت طويل.ا

 

صحافي إقتصادي سوري