مع اقتراب نهاية القرن العشرين كان كثير من المثقفين في عواصم العالم الحديث يتحدثون عن عهد جديد؛ "لقد دخلنا عهد ما بعد الحرب (the post war era)" قالوا. آمال "ما بعد العسكرة" كانت ماثلة في أدبيات المثقفين الليبيراليين في أن عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سيكون مجتمعاً ما بعد عسكري (post military society).
لابيد – غانتس: الصرخة الأخيرة
مع اقتراب نهاية القرن العشرين كان كثير من المثقفين في عواصم العالم الحديث يتحدثون عن عهد جديد؛ "لقد دخلنا عهد ما بعد الحرب (the post war era)" قالوا. آمال "ما بعد العسكرة" كانت ماثلة في أدبيات المثقفين الليبيراليين في أن عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سيكون مجتمعاً ما بعد عسكري (post military society). موجة التفاؤل تلك، كانت شبيهة بمثيلتها التي حدثت أواخر القرن الثامن عشر. فقد عم اعتقاد عند أنصار التنوير - إبان تلك المرحلة - أن زمن الحروب قد انتهى. وكان اعتقاد الكثير من المثقفين التنويريين بأن عهداً جديداً سيرخي بآثاره على الوضع الطبقي للمجتمع المستقبلي. أوغست كونت نفسه كان لا ينفك يتحدث عن الانتقال من المجتمع العسكري إلى المجتمع الصناعي، وبسيادة التجار والصناعيين بدلاً من المحاربين.
لم تقف مثل هذه الرؤى عند حدود الأكاديميا والثقافة، بل تعدتها إلى الاقتصاد والمؤسسة العسكرية نفسها. في "إسرائيل"، كان الجيش يعيش وطأة تحولات ثقافية – اجتماعية كبرى. أفكار من مثل الوحدات الخاصة بمهام العمق لم تكن لتعرف طريقها إلى الواقع لولا الوطأة التي عاشها جيش الاحتلال في تل أبيب. وبالرغم من أن فكرة "قيادة العمق" لم تكن لتستهوي أكثر من مجموعات صغيرة من قادة وحدة "سيّيرت متكال" إلا أنها سريعاً ما استحالت واقعاً مع اقتراب إيهودا باراك من دوائر القرار في الأركان، مترافقاً مع صعود مارتن ديمبسي في قيادة الجيش الأميركي، والذي شغل منصب نائب لواء في حرب الخليج الثانية عام 1991. لقد كان لصعود الاثنين بالغ الأثر في تصورات "عالم ما بعد الحرب" على بنية الجيشين.
واقع الأمر، لم تكن التغييرات البنيوية في قيادة الجيش الإسرائيلي منفصلة عن تلك الرؤية الآخذة في الاتساع داخل تل أبيب نفسها. نحن هنا لا نتحدث عن تل أبيب كمعطى سياسي، وبما تختزن من دلالات كونها "العاصمة السياسية" بقدر ما نشير لها بالمعنى الاجتماعي. لقد أراد الأشكيناز من أهل تل أبيب التخفف من عبء جيش ثقيل الحركة والوطأة السياسية عليهم، من خلال البدء بعملية ترشيد تنتهي به إلى جيش خفيف الحركة سريع المناورة، قليل التكلفة، وبعيد عن النفوذ السياسي في الدولة.
أواخر التسعينيات، ومع تضاؤل سحر الجيش وفي الوقت الذي كانت فيه مفاهيم "السوق" و"عالم ما بعد الحرب" تتأقنم داخل تل أبيب نفسها، أدرك الجيش سريعاً أنه في سباق خاسر، وأن مكانته قد بهتت مع الوقت. فهو لم يعد قادراً على توفير المجد والتقدير الاجتماعي بنفس النحو الذي كان عليه الأمر في السابق. لذا، عمدت قيادة الأركان إلى توفير بدائل اقتصادية ومادية تضمن استمرار التركيبة الاجتماعية للفئة القيادية في الجيش. كان هذا الحرص نابعاً من فهم المؤسسة العسكرية العميق لخطورة التحول في مفاهيم النخبة العسكرية للجيش الإسرائيلي، كما ولوظيفة الجيش كمؤسسة اجتماعية أولاً وآخراً.
ليورام بيري، مدير مدرسة روتشيلد – قيساريا للإعلام في جامعة تل أبيب مقاربة لافتة في هذا الخصوص. يقول يورام: "في الماضي كان هناك تطابق بين الطبقة الرفيعة وبين النخب المدنية – السياسية، الاقتصادية والثقافية في "إسرائيل". وقد برز هذا الأمر بشكل مكثف في وحدات النخبة الأعلى مكانة، كالمظليين والوحدات العسكرية النخبوية. لقد عكست فئة الضباط التركيبة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي، بحيث كلما كانت الرتب العسكرية والمهام العسكرية أعلى، كلما برز تمثيل حملة هذه الرتب بنحو أكبر بين صفوف حزب العمل (المسيطر على الحياة السياسية حتى أواخر السبعينيات".[1] أحد المعطيات التي عبرت عن هذه الظاهرة كان النسبة العالية لأبناء الكيبوتسات (الأشكيناز الغربيون والعلمانيون) بين طياري سلاح الجو الذين شكلوا ضعفين بل ثلاثة أضعاف نسبة غيرهم من السكان المدنيين.
وبفضل المكافآت التي حصلت عليها هذه الفئة، كما وبفضل قدرتها على تحويل المكانة العسكرية إلى نفوذ في الحياة المدنية من خلال النخب المدينية، فإن الجيش لم يعكس فقط المنظومة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي، بل إنه ساعد أيضاً على استنساخها. وهكذا صار الأمر بمثابة حلقة مفرغة. تحدد فيها الخلفية الاجتماعية نوعية الخدمة العسكرية، كما أن الخدمة العسكرية تعيد إنتاج الوضع الطبقي، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي. وهذا ما دأب عليه الإسرائيليون في عقودهم الأربعة الأولى من تاريخ تأسيس الكيان.
أما التحولات التي حصلت في الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي بدءًا من الثمانينيات، فقد أدت إلى تغيير استراتيجيات فئات اجتماعية كبرى تجاه الجيش بشكل كلي. فقد أفضى التراجع في مكانة الجيش بفعل سياسات السوق ورؤاه إلى هبوط قوة الجيش في نظر أبناء طبقات النخبة المدينية. كما أفضى الاقتصاد الجديد، والتكنولوجيا عالية التقنية، والاندماج في سوق العولمة، إلى فتح مسارات ريادية جديدة من خارج الخدمة العسكرية أمام النخب التقليدية. في المقابل، دفعت هذه الرؤى أبناء الطبقة المتدينة (من الطبقتين المتوسطة والمنخفضة) الريفية للوثوب إلى داخل أسوار المنظومة العسكرية كوسيلة للقفز مجدداً إلى صلب المنظومة السياسية المدنية.
كان المشهد الإسرائيلي يسارع في التفسخ منذ أوائل الألفية الجديدة. وليس أدل على هذا التفسخ ما بات يُعرف منذ عقدين، بأزمة الخدمة العسكرية في "إسرائيل". فعلى الرغم من الاستعداد العالي للتجنيد للجيش بشكل عام سنة 2000، إلا أن هبوطاً حاداً كان يطرأ في الاستعداد للتجنيد في الوحدات المقاتلة لدى العلمانيين، حيث انخفض في عقد واحد (بين بداية التسعينيات ونهايتها) من 60% إلى 40% من نسبة عموم الشباب الإسرائيليين العلمانيين، ثم كان أن واصل الهبوط بين أبناء الكيبوتسات إلى 29%، في الوقت الذي ارتفعت فيه استعداد التجنيد في الوحدات المقاتلة بنسبة 68% لدى المتدينين من أبناء المستوطنات. لقد أدركت قيادة الجيش الإسرائيلي مدلول هذه الظاهرة جيداً قبل عقدين على أقل تقدير، في احتفالها باليوبيل الخمسين لقيام "الدولة" عام 1998، عندما اصطف ستة جنرالات شرقيين من أصل ثمانية عشر جنرالاً في "الهكارياه (مقر وزارة الدفاع)" معتمرين "الكيباه" على رؤوسهم، وكانت تلك أغرب ظاهرة في تاريخ المؤسسة العسكرية، والدافع الأكبر لبدء سياسات الحفاظ على الوجود النخبوي للأشكينازي في أعلى هرم المؤسسة العسكرية.
***
لابيد – غانتس: الصرخة الأخيرة.
إذا كان ثمة ما يمكن أن نصف به فترة "لابيد – غانتس" في تحالفهما في الحكومة السادسة والثلاثين الأخيرة، فهو تحالف "الصرخة الأخيرة" ما قبل الموت. لم تكن الحكومة المنصرمة في الكيان حكومة "بينيت – لابيد" بقدر ما كانت حكومة "غانتس – لابيد". يعبّر الرجلان عن نخب الساحل الصهيونية ذات الغالبية الأشكينازية، والتي تُعتبر بالأدبيات الإسرائيلية الوريثة التاريخية لترِكة حزب العمل ونخبه. من هنا يكتسب فوز نتنياهو عليهما بعداً آخر إذا ما قورنت القاعدة الشعبية لليكود بقاعدة منافسيه الأشكيناز. ما يُسمى بـ"اليسار والوسط الإسرائيلي" (مع تحفظنا على مفردات اليمين واليسار في وصف الأحزاب الإسرائيلي/فكلها يمين) سقط بالضربة الأخيرة بعد نزاع على الحكومة دام لسنتين، وبعد نزاع على السلطة دام لعقود. لقد أثبت تحالف الخاسرين من سياسات الليكود عجزه عن إدارة الواقع السياسي الإسرائيلي. في نقاشه لتوماس بيكيتي/ Thomas Piketty (صاحب كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين) يسأل الكاتب الإسرائيلي شلومو ساند/ Shlomo sand حول آفاق اليسار الجديد وقوى العدالة الاجتماعية، ومآلات اعتراضها على القوى اليمينية عالمياً. بحسب ساند، يفتقد اليسار العالمي التقليدي إلى الأنموذج أو البراديجم الذي يمكن من خلاله طرح بدائل فاعلة تحيل اعتراضه إلى مشروع سياسي واقعاً. لذا يقتصر "اليسار"، والقوى العولمية الجديدة معه، على الاعتراض ليس إلا. فيما تفضي نضالاته في الغالب إلى المزيد من الاحباط واليأس. يعترض ساند على بيكيتي في قراءته للرأسمالية المعولمة، والذي يصور التوسع في عدم المساواة في العقود الأخيرة كمعيار أوحد قياس اللاعدالة في النموذج الرأسمالي الراهن. "تركيز بيكيتي الأساسي صحيح؛ لقد ازداد التفاوت الاقتصادي في العالم الغربي في السنوات الأربعين الماضية... في ذلك هو محق. لكن ماذا عن المساواة في جميع أنحاء العالم؟ الصورة هنا مختلفة" يقول ساند. يتوافق ساند هاهنا مع برانكو ميلانوفيتش/ Branko Milanovic في قوله أن العولمة الرأسمالية فعلت ما لم تفعله الماركسية في النهاية. لقد رفعت العولمة من حيث لا تدري مستويات المعيشة لمجموعات واسعة جداً من الناس. ثم ومن حيث لا تدري، أفضت العولمة إلى نسبة لا يستهان بها من المساواة بين البشر في هذا الكوكب. هذا ما يُفسر توافق تيارات اليسار الجديد في أماكن عدة من العالم وتيارات العولمة الحقوقية (الجندرية، الديمقراطية) في نضالهم من أجل العدالة، وهذا ما يُفسر حذر القوى اليمينية من العولمة في أماكن ودول عديدة أيضاً. المفارقة في نقاش بيكيتي – ساند، أن العولمة (وعلى عكس ما كان متوقعاً) لم تلقَ الترحاب في مجتمعات ودول الأطراف، كما لم تحظَ القوى اليمينية بالتأييد على الدوام في قلب مراكز القرار العالمي. الانتخابات النصفية الأميركية مؤشر على غاية من الأهمية اليوم.
عودة لبيكيتي – ساند، يكتسب نقدهما وتضادهما في أننا نقف أمام مقاربتين لشخصيتين ناقدتين للرأسمالية (ولو كمسمى عام). والمفارقة بينهما هو موقعهما من جغرافيا الرأسمالية نفسها. فبينما يجلس بيكيتي في القلب منها منتقداً وقعها على البنية المالية المركزية للنظام العالمي (أي الغرب)، يجدها الآخر منفذاً لعالم أكثر عدالة من منظور الهامش لا المركز. لا يشعر ساند أن "إسرائيل" في قلب النظام العالمي وهو محق في ذلك بنحو كبير. لقد صارت "إسرائيل" على هامش مركز القرار العالمي. بإمكاننا استشعار ذلك في حالة اللاتوافق بين نخب المركز – الأميركي – ونخب الهامش – الإسرائيلي – في حالتنا الراهنة الآن.
لم تخسر في الانتخابات الإسرائيلية قوى "الوسط" وحدها، بل خسر الرهان الأميركي على ثقة اسرائيلية ملحة ولازمة لبايدن في عامي حكمه الأخيرين. وبالمثل، لم يخسر المحافظون في الولايات المتحدة نصراً ساحقاً بقدر ما خسر يمين الأطراف (في "إسرائيل"، والسعودية، والإمارات، والهند) رهانه وثقته بأميركا كضامن لريعية وضعه التفضيلي.
وبمثل ما ينتقد ميلانوفيتش أزمة العولمة في كونها أزمة ثقة النخب بالمؤسسات، أعادت الانتخابات الإسرائيلية (والأميركية أيضاً) أزمة الثقة بين النخب ومؤسسات "الدولة". ينظر مثقفو الساحل في الكيان (وبالمثل نخب الساحلين في أميركا) إلى الليكود (المحافظين في أميركا) على أنهم مجرد مجموعة من روّاد الأعمال الذين انتقلوا إلى المجازفة في ميدان السياسة بدلاً من المجازفة في القطاع المصرفي. لا يكتفي هؤلاء السياسيون بخدمة مصالحهم الخاصة، بل هم صاروا قادرين من خلال إمكاناتهم ونفوذهم وعلاقاتهم على إيجاد وظائف مربحة للقطاع الخاص. ماذا يعني الانضمام لليكود بحسب النخب الأشكينازية الإسرائيلية؟ "يعني أنه إذا كان لديك مشكلة وتريد حلها، انضمّ إلى الليكود؛ الليكود منظّمة زبائنية". هي أزمة نظام سياسي، بحسب المعارضين. وهي أزمة انسداد أفق اجتماعي يقول آخرون. ثمة ما يحتاج إلى أن نتفحصه عن كثب لسنين طوال. هي أزمة من داخل الرأسمالية المعولمة وفي صلبها.
رئيس تحرير صحيفة الخندق