السابع من تشرين كان فعلاً حراً دون سقوف. وهذا "فارق – فالق" بين السابع من تشرين 2023 وبين آخر تجربة عربية للعبور في السادس من تشرين الأول 1973. فالأول كان فعل تحرير، أما الثاني فكان فعل تحريك (تحريك عملية السلام على أرضية مبادرة روجرز). والسابع من تشرين، كان فعلاً صائب الوجهة والاتجاه
في مديح السابع من تشرين
عام على طوفان الأقصى، أو عام على الحدث الذي أعاد تشكيل حياتنا ورسم تفاصيلها. لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حدثاً مفصلياً ولا منعطفاً استراتيجياً في منطقتنا فحسب، بل حدث مؤسِّس لما تلاه أو سيليه في منطقتنا والعالم أغلب الظن. فالسابع من تشرين عبور يتجاوز الجغرافيا. وأهميته بالأصل لنا - نحن العرب - أنه عبور في منطقة لم تجسر أنظمتها على العبور مرة واحدة منذ أكثر خمسة عقود حتى كدنا ننسى معنى العبور أصلاً (لا تخطر الكلمة في بالنا إلا متلازمة والإشارة الخضراء في الشارع ليس إلا).ا
لله الحمد من قبلُ ومن بعد. نحظى نحن شعوب هذه المنطقة بأنظمة تقدّس الحدود (الجغرافية، الاقتصادية، السياسية) وتقيسها بميزان الذهب. تعي أنظمتنا حدودها جيداً، وتلتزم حدودها بكل ما له صلة باحترام حسن الجوار، ومواثيق شرعة الأمم، والأعراف الدولية المكتوبة وغير المكتوبة (إلا فيما يخص حقوق شعوبنا فالشرعة شرعة غاب). ومشكلة السابع من تشرين بالنسبة لهذه الأنظمة أنه فعل يتجاوز الحدود. "لعن الله الشيطان، كيف لعبد من عباد الله أن يتجرأ على حدود الله، وحدود شعبه المختار؟"؛ تتساءل أنظمتنا. لقد عرّى السابع من تشرين سوءة أنظمتنا وكشف عجزها وقلة حيلتها وتفاهتها، والأهم أنه أسس لقاعدة مفادها أن هزيمة "إسرائيل" ليست مزاولة للمستحيل. وهذا أكثر ما أهان أنظمتنا وأصابها في كرامتها.ا
والسابع من تشرين كان فعلاً حراً دون سقوف. وهذا "فارق – فالق" بين السابع من تشرين 2023 وبين آخر تجربة عربية للعبور في السادس من تشرين الأول 1973. فالأول كان فعل تحرير، أما الثاني فكان فعل تحريك (تحريك عملية السلام على أرضية مبادرة روجرز). والسابع من تشرين، كان فعلاً صائب الوجهة والاتجاه. فللإنصاف - والإنصاف محرج في كثير من الأحيان - كان عبور الجيش العراقي بقوّاته إلى الكويت عام 1990 آخر عبور عربي للحدود، لكن كاتب هذا المقال، ولأسباب عربية قح، لا يحب إدراج ذلك الحدث في "هستوغرافيا" التاريخ العربي، نظراً لكارثية الحدث وعبثيته، ونظراً لما أفضى إليه من كارثة لم نرتق فتقها إلى اليوم. وعلى أي حال، سيظل للسابع من تشرين الفضل علينا نحن العرب والمسلمين، إذ أخرجنا من عبث نار استعرت عقداً ونيفاً من السنين، قاتل فيها الشيعيُّ السنيَّ، والسنيُّ العلويَّ، والمسلمُ الصابئيَّ، والمسيحيُّ المسلمَ، والعربيُّ الكرديَّ، وابن البادية قاتل ابن المدينة، وابن الريف قاتل ابن البادية والمدينة، وابن المدينة قاتل كل ما أنف ذكره، وهكذا دواليك. عشر سنوات أو يزيد، جرّبنا فيها كل أنواع العبث في حلقة صراع مفرغة لم تُفرح غير أميركا و"إسرائيل"، اللتان باركتا سفك دمنا عن بُعد فرحَتين. وتلك مأساة لم نكن لنتجاوزها بغير السابع من تشرين.ا
والسابع من تشرين فعل دائم الحضور. إذ لا شيء يحضر في تفاصيل أيامنا كحضوره فينا؛ في الشوارع والمقاهي وفي أحاديثنا اليومية، في جلساتنا أمام الشاشات والمذياع، وفي أسماء المدن والأحياء التي حفظناها عن ظهر قلب؛ بيت لاهيا، جباليا، بيت حانون، البريج، جنين، طوباس، علما الشعب، رامية، مارون الراس، عيترون، الحديدة، صنعاء، والغور. والسابع من تشرين فعل نصر كامل التكوين. قد لا نُفلح أو نوفق فيه عسكرياً - لا تتهموني بالتشاؤم -، لكن المسألة العسكرية هي أبسط وأقل ما في الحدث من أثر.ا
لقد أحيانا السابع من تشرين، وأعاد نظم أمرنا في حربنا ضد الهيمنة والاستكبار. لا شيء يصف موقف الغرب (نعم، الغرب بكل ما فيه) أكثر من كلمة الاستكبار. لقد استكبر الغرب على منطقنا وعلى عزتنا وكرامتنا، واستكبر على جراحنا وأشلائنا المقطعة ودماءنا. واستكبر الغرب على أطفالنا القتلى وأحلامنا تحت ركام البيوت، واستكبر على أجسادنا المُدماة بفعل صواريخه ومنطقه وأخلاقه وسياسته. فأعاد نظم منطقتنا والعالم بأسره بين خيارين لا ثالث لهما: الخضوع أو الرفض، ولا شيء بينهما. يرتّب هذا الأمر علينا، وعلى أهل الأرض، مسؤوليات جِسام. فإما أن نكون على قدر الصراع وأهلاً له حضارياً ومعرفياً وأخلاقياً وعسكرياً، وأما ألا نكون، لا بالمعنى المجازي البعيد، بل بالمعنى الواقعي - العيني المباشر. السابع من تشرين بهذا المعنى فرصة لنا ومسؤولية كبرى، تفرض على كل منا التفكير ملياً أن ثمة واجباً ملقى على كواهلنا. فلا شيء أوضح من دمنا المسفوك، ولا شيء أفضح من صمت العالم على مقتلنا. السابع من تشرين أمل مضيء إذا ما أحسنّا التصرف إزاءه. هو طوفان سيعبر الأسوار، ويجرف الحدود، ويهدد أحلام الطواغيت. السابع من تشرين طوفان يلعن الصمت والصامتين. السابع من تشرين سيهدد عروشاً ويؤرق ليالي القاتلين. السابع من تشرين كوّة في جدار عجزنا، واستسلامنا، واستكانتنا. السابع من تشرين نافذة لخيالنا السياسي نطل من خلالها على غدنا مرة أخرى - وقد تكون الأخيرة -. ما أجمله من تاريخ، وما أنقص التاريخ بلا السابع من تشرين.ا
رئيس تحرير صحيفة الخندق