تتشابه الانتخابات اللبنانية عام 2022 وانتخابات عام 1972 - آخر الانتخابات نيابية قبيل الحرب الأهلية اللبنانية -. في الحالتين كان ثمة غليان يوحي بانفجار سياسي واجتماعي كبير. في الحالتين ثمة انقسام عمودي ونذر تحول إقليمي ودولي كبير
انتخابات 1972 –2022: نصف قرن من التيه
تتشابه الانتخابات اللبنانية عام 2022 وانتخابات عام 1972 - آخر الانتخابات نيابية قبيل الحرب الأهلية اللبنانية -. في الحالتين كان ثمة غليان يوحي بانفجار سياسي واجتماعي كبير. في الحالتين ثمة انقسام عمودي ونذر تحول إقليمي ودولي كبير. في الحالتين ثمة قوى جديدة تفرض نفسها على المشهد البرلماني. بعيد انتخابات عام 1972، وصلت العملية السياسية إلى حالة الصدام المسلح فانفجرت الحرب الأهلية عام 1975. في الثانية يقف الجميع على حافة هاوية تكاد تطيح بالسلم الأهلي. هذا ليس تحليلاً أو مجرد رأي. كل موجبات الحرب حاضرة في لبنان اليوم. الوضع الاقتصادي وصل إلى مرحلة اللاعودة في الانهيار. الأفق السياسي محكم الإقفال. الرهان على الخارج قد لا يسعفه الوقت. لنستذكر هنا قول المؤرخ والسياسي البروسي كارل فون كلاوزفيتز مرة: الحرب استكمال للسياسة بلغة أخرى. فهل يستكمل سياسيو لبنان أزمتهم بتفجير حرب أهلية فيه؟
***
إنه الواحد والثلاثون من كانون الأول/ ديسمبر 1968. يعتبر هذا التاريخ نقطة فاصلة في تاريخ لبنان. صبيحة ذلك النهار أغار الطيران الإسرائيلي للمرة الأولى على مطار بيروت. لم تكن الغارة الإسرائيلية الحدث الوحيد. لقد صادف ذلك النهار انعقاد مؤتمر "الشبيبة الطالبية المسيحية" في دير يسوع الملك. كانت "الشبيبة الطالبية" جزءًا من حراك أكبر شمل الكنائس المسيحية المتأثرة بالمد الثوري عالمياً. تأسست "الشبيبة الطالبية المسيحية" في الثلاثينيات كحركة عالمية للشباب المسيحي. أما فرعها اللبناني فقد تأثر بالتيارات الماركسية، التي اكتسحت أوروبا في الستينيات، وبلاهوت التحرير الذي ظهرت ملامحه في نفس الفترة في أميركا اللاتينية. بإشراف من المطران غريغوار حداد والكاهن اليسوعي أوغستان دوبريه لاتور، كان مؤتمر الشبيبة المنعقد في 28 – 31 كانون الأول 1972 يُصدر بيانه الأخطر معلناً نداءه لإصلاح الكنيسة وتبني خيار الكفاح المسلح الفلسطيني.
مؤتمر الشبيبة الطالبية لم يكن شيئاً عابراً. لقد عبّر المؤتمر عن مزاج عام لدى شرائح واسعة من الشباب المسيحي ورجال الدين الكاثوليك الذين رأوا - منذ أواسط الستينيات - أن حراكاً إصلاحياً ووطنياً فاعلاً ينبغي أن يولد في لبنان من رحم توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) ومقررات لجنة إيرفد (برئاسة الأب لويس لوبريه) عام 1964. "كنيسة من أجل عالمنا"، و"الحركة الاجتماعية" و"تجمع المسيحيين الملتزمين" كانت كلها تحركات تشير إلى أن شيئاً ما كان قد بدأ بالظهور في البيئة المسيحية من خارج تحالف الاقطاع – المؤسسة الكنسية التقليدية في لبنان.
جامعات لبنان الأربع الكبرى (الجامعة الأميركية، اليسوعية، اللبنانية، والعربية) كانت هي الأخرى مسرحاً للسياسة الأيديولوجية الحزبية المتفجرة. فمنذ عام 1970، تحوّل انتخاب الهيئة الطلابية في الجامعة اللبنانية، كمثال، لحدث تعبّئ له القوى السياسية كامل جهودها. في كتابه "تفكك أوصال الدولة في لبنان (1967 – 1976)" يعنوِن أستاذ الجامعة الأميركية فريد الخازن تلك الأنشطة بسياسات "الجمهرة" التي طفت على سطح العمل السياسي اللبناني. كانت الكثرة الكبرى من الطلاب الجامعيين (من خريجي ثانويات الحقبة الشهابية) تريد التغيير وكانت مسيسة على نحو أيديولوجي بنحو كبير[1].
كل هذه التحولات لم تكن لتحصل لولا التغييرات البنيوية التي أصابت النظام اللبناني فترتي الخمسينيات والستينيات. في دراسة أعدها المؤرخ الاقتصادي بطرس لبكي حول توزيع الدخل في لبنان، يظهر أن متوسط الدخل كان قد طال نحو 36،7% من مجمل سكان لبنان مقارنة بـ23% من إجمالي عدد السكان عام 1963[2]. ليس هذا فحسب، ثمة تحولات أعمق، تتصل بتحوّل وقَع على مستوى النظام الاقتصادي العالمي، طالت البنية الاجتماعية اللبنانية خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات. بعيد اتفاقية برايتون وودز كان ارتفاع أسعار العقارات عالمياً سبباً رئيسياً في اختلال توازن النظام السياسي اللبناني. يقول رياض طبارة: "كانت بيروت مدينة إسلامية، وكان المسلمون "السنة" يملكون معظم الأبنية والعقارات فيها، بالتالي هم كانوا أول المستفيدين من الفورة الاقتصادية العالمية في أسعار العقارات. أدى ارتفاع سعر العقارات لولادة طبقة من المتمولين المسلمين الكبار مطلع الخمسينيات. ببداية السبعينيات ولدت طبقة من الأكاديميين المسلمين "السنة" من أبناء برجوازيي المسلمين الجدد. المفارقة أن التطور الإنمائي لدى المسيحيين اتخذ منحاً معاكساً، ذلك أن أهل المناطق الريفية، وغالبيتهم من الشيعة والموارنة، كانوا الخاسر الأكبر من هذه العملية. هكذا اختل ميزان الطبقات الاجتماعية – الاقتصادية في لبنان: أغلبية مسيحية فقيرة في مواجهة سُنة متمولين ومتعلمين يبحثون عن ترجمة قوتهم هذه في النظام السياسي.
الوضع الإقليمي آنذاك كان هو الآخر متصدعاً. بُعيد وفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر بدا أن الوجهة السياسية العربية قد بدأت بالتصدع شيئاً فشيئاً. فتحت عنوان الواقعية السياسية بدأ أمين عام الجامعة العربية محمود رياض جولاته على المسؤولين اللبنانيين في محاولة لإعادة تأويل اتفاقية القاهرة من زاوية فهم السادات الخاص. في لقائه مع ثلاثة من القيادات الفلسطينية؛ توفيق الصفدي، وصلاح صلاح، وياسر عبد ربه، في أيار 1973، كان رياض مصراً على كون لبنان أعجز من أن يقاوم "اسرائيل". في لقائه ذاك بالقيادات الفلسطينية داخل السفارة المصرية في 30 أيار 1973 قال رياض بنحو صريح: "إذا كان العرب لم يتمكنوا يوماً من ردع "إسرائيل" عن احتلال الأرض العربية، فعلينا على الأقل أن لا نعطي لإسرائيل الذريعة لاحتلال مزيد من الأراضي والموارد العربية، كمياه لبنان وضفة نهر الأردن الشرقية... القضية الفلسطينية لا يمكن أن تحل في بيروت. وما من حل إلا ويحتاج سنين عديدة من الجهد والعمل الدؤوب. وعليه فإن النزاعات العربية ستذهب بجهودنا هدراً وستعطي إسرائيل الدليل على عدم قدرتنا على التعايش مع اليهود".
كل تلك التحولات كانت مؤشراً على تحولات بنيوية ستنعكس سريعاً في انتخابات 1972. كانت انتخابات عام 1972 التشريعية الأكثر تنافسية منذ الاستقلال. وقد حملت أكبر كتلة من المستقلين منذ الاستقلال (39 نائباً من أصل 99) كما جاءت الوجوه النيابية الجديدة من كل الطوائف والمواقع السياسية. وكان من أبرز الوجوه عبد المجيد الرافعي من طرابلس (بعثي عراقي)، نجاح واكيم من دائرة بيروت الثالثة (ناصري)، وعلي الخليل من دائرة صور (بعثي). المفارقة أن الثلاثة ترشحوا منفردين، وهو ما شكل نوعاً من الصدمة لأركان النظام الطائفي والاقطاعي التقليدي في لبنان.
بحسب المؤرخ الفرنسي في جامعة جرينوبل ايف شيميل، كانت تلك التحولات هي السبب المباشر للحرب. فبالرغم من اتفاقية ملكارت التي وضعت حداً للنفوذ الفلسطيني المسلح في لبنان، وبالرغم من سعي قيادة منظمة التحرير لكبح الانفجار السياسي والأمني، كانت القيادات اللبنانية من الجهتين "الإسلامية والمسيحية" قد باتت تتطلع للحرب كسبيل وحيد يحول دون خسارة نفوذها وسيطرتها. لقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية "خيار اللاخيار" بالنسبة للطبقة السياسية المتنفذة في لبنان. هكذا لم يكد ينتصف شهر نيسان من العام 1975 حتى اندلعت الحرب التي أرادها الجميع، هرباً من الواقع المتأزم والواقع الدولي الاقتصادي، والاقليمي السياسي، المتأزم.
انتخابات 2022، عَود على بدء:
لا يمكن مقارنة الظروف الإقليمية والدولية بالنحو الذي كانت عليه عام 1972، لكن تحولات يعيشها الاقتصاد العالمي تشي بأفول مرحلة وولادة أخرى (وهو ما حدث منتصف السبعينيات مع نهاية نظام برايتن وودز). يتشابه عالم ما بعد أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة عام 2008 ومرحلة السبعينيات لناحية دخول الليبيرالية مرحلة التعثر. في مثل هذه المراحل تبدو تكون الحروب المخرج الوحيد "لتنفيس" احتقان النظام السياسي – الاقتصادي العالمي. في كتابه "الليبيرالية الجديدة" يختصر دايفيد هارفي أزمة الرأسمالية العالمية الجديدة في توتر الطبقات الرأسمالية العليا الحاكمة عالمياً. يكمن خوف الطبقات الرأسمالية العليا من الحركات السياسية التي تهددها بالعنف الثوري أو بمصادرة أملاكها. لذا تعقد تلك الطبقة الآمال على قدرة جهازها العسكري المتطور الذي تمتلكه (بفضل المجمعات العسكرية الصناعية – العسكرية) لحماية ثرواتها وسلطاتها. هذا في مركز النظام العالمي (أميركا، أوروبا، روسيا) حيث القدرة الصناعية والعسكرية لتلك الدول مرتفعة بنحو كبير. أما في مجتمعات الأطراف (ومنها لبنان) فتتخذ الأزمة العالمية شكلاً مختلفاً. "التشظي" السياسي والاجتماعي سيكون السمة الغالبة في الأزمة اللبنانية. في مجتمعات الأطراف يبدأ "الفتق" في الغالب من الطبقة الوسطى. الطبقة الوسطى هي الأكثر عرضة للانهاك النفسي والاقتصادي والسياسي. للمسألة صلة تبتدئ مع دولرة الاقتصاد (دولرة الاقتصاد تعني ربط فائض قيمة العمل والجهد الانتاجي بأسواق المضاربات والبنوك العالمية) عبر المصارف المركزية، مع ما تتركه هذه العملية من آثار على الطبقة الوسطى التي يقع على عاتقها تأمين فائض قيمة العمل للأوليغارشيا البرجوازية المرتبطة بالأسواق الدولية.
في أزمات مجتمعات الأطراف الراهنة، وهذه المرة باستعارة من دايفيد هارفي أيضاً، تتولد طبقة وسطى عالمية نتيجة الانفجار الهائل في تكنولوجيا المعلومات. الاستثمار في المعلومات كان المخرج الوحيد لليبيرالية في السنوات العشرين الأخيرة لإعادة تنشيط الاستهلاك. عام 1970 كانت الاستثمارات في هذا المجال توازي نحو 25% من حجم الاستثمارات في قطاع الإنتاج والبنى التحتية عالمياً. مع تضخم قطاع تكنولوجيا المعلومات صار هذا القطاع مخرج الليبيرالية في تعزيز سياسة المضاربة، وزيادة عدد العقود القصيرة الأمد في الأسواق (إذ سيزيد على الـ50% من حجم الاستثمارات في البنية التحتية منذ أواخر التسعينيات). مرة جديدة ما يعنينا في هذا العرض لحاظ تأثير التحول الاقتصادي العالمي على مجتمعات الأطراف (ومنها لبنان). في الأطراف تصير الصناعات الثقافية منخفضة التكنولوجيا هي المجال الأبرز لتوسع ظاهرة الاستهلاك المعلوماتي. حسناً، لنعيد صياغة النتيجة بنحو بسيط. تعيش الطبقة الوسطى في لبنان أحد أكثر لحظات الإنهاك النفسي والاقتصادي لبنيتها. وهذه الطبقة تحديداً تتشظى بنحوين. الأول ويمكن ملاحظته في الأطراف حيث ينبغي للإنسان متوسط الدخل مضاعفة ساعات عمله لتأمين قوت يومه. الثاني، يمكننا لحاظه عند الدخول إلى أي جامعة لبنانية في العقدين الأخيرين. سنتفاجأ بحجم طلاب كليات الإعلام، الإعلانات، التسويق الإلكتروني، وبنحو أقل كليات البرمجة وعلوم الداتا. لهذه الاختصاصات مؤدى واحد في مجتمعات الأطراف؛ زيادة الاستهلاك في الصناعات الثقافية منخفضة التقانة (أفلام، ألعاب فيديو، إعلانات، عروض فنية).
سيسهل الاتجاه الثاني ولادة طبقة "وسطى" غير منتجة، وغير مرتبطة بعوامل الانتاج المحلية - على عكس الأولى -، لصالح أنموذج ثقافي استهلاكي جديد. إن نجاح إنتاج الفئة الثانية مرتبط بنحو كبير بالاستهلاك الثقافي. الأشخاص الناجحون في هذه المجالات هم القادرون على صناعة "الترند". بمعنى آخر، هم القادرون على تحقيق أعلى نسبة استهلاك تقاني غير منتج. ماكينة الليبيرالية الإعلامية كانت ناجحة في بناء حلم هؤلاء الأفراد. لقد ارتبطت مخيلة هؤلاء الأفراد بتجارب المضاربة الناجحة في مانهاتن وطوكيو وهونغ كونغ ودبي.
الإشكالية أن هذه الفئات صارت حاضرة رغماً عن أنف البرجوازية الليبيرالية التقليدية سياسياً وثقافياً، وهو ما لا يتفهمه أغلب اللبنانيين. إن نجاح كتلة من المستقلين الليبيراليين في مناطق نفوذ القوى "الأوليغارشية" التقليدية في جبل لبنان هو الترجمة الفعلية لهذا التوتر العالمي بين ليبيراليتين؛ تقليدية تمتلك عوامل الانتاج، واستهلاكية تمتلك رأس المال التقاني والتكنولوجي وقدرة عالية على التواصل. كما أن اختراق ممثلي الطبقة الوسطى المجهدة من سياسات الدولرة مناطق نفوذ القوى التقليدية في الإطراف هو دليل على عدم قدرة النظام السياسي الاستمرار في سلب فائض قيمة عمل هذه الطبقة ونقلها إلى الخارج من خلال الدولار.
ما معنى كل ما تقدم الآن؟ لهذا الكلام معنى وحيد. الطبقة الوسطى في لبنان انتفضت كقوة سياسية فاعلة في الانتخابات الأخيرة على واقع لطالما أجهدها، لكن هذه القوة عرضة للانقسام بين المركز والأطراف. وهو الانقسام الذي سيتبدى على شاكلة خلافات حول الأولويات. فبينما يتبنى ممثلو الطبقة الوسطى في الأطراف قضايا مسألة المودعين وعودة الحقوق المالية لأهلها كأولوية (قضية المودعين قضية الطبقة الوسطى في الحقيقة)، سيظهر ممثلو الطبقة الوسطى في المركز أكثر ليبيرالية وميلاً للواقعية ولرواسب السياسة اللبنانية.
مرة جديدة، ما الرابط المشترك بين انتخابات 1972، و2022؟. انفجار الطبقة الوسطى.
ما المعنى الحقيقي لهذا الانفجار؟. انزلاق المشهد السياسي إلى حافة الهاوية.
هل ستعيد هذه الانتخابات الحرب الأهلية بالنحو الذي مضت إليه انتخابات عام 1972؟. ليس بالضرورة، وإن كان احتمالاً غير مستبعد. صحيح. كل عوامل انفجار المشهد الداخلي حاضرة. وصحيح. كل أدوات ضبط الطبقة الوسطى (بما في ذلك الحرب) حاضرة. وصحيح أيضاً، ثمة أحزاب في لبنان تقارب السياسة من منطلق "أنا ومن بعدي الطوفان" وإن ابتلع الطوفان من لا حول لهم ولا قوة. وصحيح أن الحرب استكمال للسياسة بلغة أخرى، لكن ثمة صحة في فرَض أن السياسة استكمال للحرب بلغة أخرى. وهذا من حسن حظنا نحن اللبنانيين. لم تنته الحرب الأهلية منذ عام 1975 في لبنان تقول الانتخابات اليوم. وأكثر، لا توحي الخطابات المتوترة أننا تعلمنا شيئاً من الحرب. وكأننا في تيه مؤبد منذ نصف قرن. وكأننا مازلنا في عام 1972.
رئيس تحرير صحيفة الخندق