كنت مخطئاً. ومكمن الخطأ كان في اعتقادي أن الحرب خيار للرأسمالية، وليس خيار الرأسمالية. الفارق بين العبارتين دقيق. ليست الحرب خياراً يمكن أن تعتمده الرأسمالية أو لا تعتمده. هو خيارها الوحيد المعتمَد كلما قلّت الربحية
في أي الدروب سنمضي؟
لماذا يصعد اليمين في أطراف المنظومة الحاكمة عالمياً في الوقت الذي يتنامى فيه اليسار والقوى العولمية (جماعات الحقوق والعدالة الاجتماعية والدفاع عن المهمشين، ومناصري البيئة) في القلب منه؟. راودني هذا السؤال لسنين لست أذكرها. ربما طوال الفترة الممتدة بين ربيع أوكرانيا 2005، وأواخر حقبة أوباما 2016. لأوضح المقصد من السؤال سأستعير شيئاً من أدبيات إيمانويل والرشتاين في كتابه "النظام العالمي الحديث". يقسّم والرشتاين العالم إلى مركز وأطراف. في قلب المركز هناك الإمبراطورية الأميركية والاتحاد الأوروبي بدرجة أقل، وفي الأطراف هناك عالم الجنوب. وما بينهما هناك دول شبه طرفانية تشغل موقعاً وسيطاً بين المركز والأطراف. تلعب هذه الدول دوراً مركزياً بامتصاص الثروات ووأد الثورات والصراعات الطبقية في الأطراف. وتقدم هذه الدول أمثلة على إمكانية الصعود الاقتصادي والنجاح (وهذا جزء من ماكينة الحرب الأيديولوجية التي يشرع بها المركز تجاه الأطراف). "إسرائيل" بنظر والرشتاين دولة شبه طرفانية، ومهمتها سحب فائض قيمة العمل من منطقتنا ومنع استيلاد أي نموذج ثوري يهدد نهب المركز لمواردنا. حسناً، لكن لماذا يصعد اليمين في "إسرائيل" والهند وتايلاند وفي شرق أوروبا، ولا نرى صعوداً مماثلاً لهذا اليمين في قلب النظام العالمي؟.
أعترف اليوم أن سوء فهمي للنظام العالمي كان سبباً لهذا السؤال. كنت أعتقد أن للغرب (المركز) وجهان، لا بل خياران، وأن للرأسمالية أوجه يمكن من خلالها أن تتعاطى مع العالم. كنت أظن أن اليمين خيار ثقافي، ينبع من قلق فقدان هذا العالم جهويته. وأقيس الغرب (المركز) بمقاييسنا. فأن تنتمي لليمين وقوى اليمين، هو أن تنتمي لعالم محافظ (ديني أو قومي أو هوياتي) تقليدي، ثابت، متوجس من الأفكار العولمية التي تفقد الإنسان - في جنبة من جنباتها أقله - هويته.
مرة جديدة، كنت مخطئاً. ومكمن الخطأ كان في اعتقادي أن الحرب خيار للرأسمالية، وليس خيار الرأسمالية. الفارق بين العبارتين دقيق. ليست الحرب خياراً يمكن أن تعتمده الرأسمالية أو لا تعتمده. هو خيارها الوحيد المعتمَد كلما قلّت الربحية. مرة جديدة نحن بحاجة للعودة إلى تلك السنوات لفهم واقع الحال. كانت الولايات المتحدة بحالة من التراجع. هذا ليس جزافاً بل حقيقة كنا نعيشها. أدبيات كيسنجر في كتابه النظام العالمي الجديد، وتفضيله أميركا التي توازن المخاطر على أميركا التي تدير المخاطر لم تكن وهماً. هو نفسه اعترف بعجز الولايات المتحدة عن لعب دور شرطي العالم. ما الحل بالنسبة إليه؟ نوازن المخاطر العالمية بدلاً من إدارة هذه المخاطر.
نشعل حرباً بين السنة والشيعة عندما لا يعود بالإمكان السيطرة على كل منهما. نسيطر على الصراع وننظم قواعده بدلاً من ندير الصراع بأنفسنا.
هذا الواقع لم يتأتّ من فراغ. فمن ضربات قوات المارينز والمظليين الفرنسيين في بيروت عام 1983، إلى 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ثم ما تلاها من تورط أميركا في أفغانستان والعراق، كانت الولايات المتحدة تستنزف دمها ومواردها سدى. انتخاب أوباما نفسه كان تعبيراً عن عجز الولايات المتحدة عن الاستمرار كـ"قوة ضرب مطلقة". وعدَ أوباما عام 2008 جمهوره بسحب الجيوش الأميركية من العالم، والانكفاء عن مشاكل لا قِبل لهم بها، فكان ما وعد وما تمناه الجمهور. حتى أن أصوات اليسار الجديد في الولايات المتحدة باتت تسمع لأول مرة. من كان يتخيل أن مجلة كـ"جاكوبين" ستولد في الولايات المتحدة، وستصير قبلة اليسار الغربي ويسار الـ(AUB/ الجامعة الأميركية في بيروت) العربي؟. كنا نظن أن عصر الصواريخ لم يعد هو المسألة/ المعضلة. ما المسألة إذن؟ خطاب البيئة، الجندر، العدالة الاجتماعية، خيال الطبقة الوسطى العالمية الجديد. تذكرون حسن روحاني؟ نعم روحاني، الرئيس الإيراني نفسه، كان يتحدث عن نهاية عصر الصواريخ وبدء عصر التفاوض والسلام (يا سلام). ابن جيراننا "الحسّون" (اسم الدلع لحسين)؛ شاب نما في بيئة محافظة في ضواحي بيروت، صار ينزل في مظاهرات النسوية مرتدياً "حذاءً زهرياً". حتى إسلاميو مصر، تونس، ومجمل منطقتنا، لم يكونوا أفضل حال من "الحسّون"، كلهم ارتدوا "حذاءً زهرياً" واستيقظوا على قيم الديمقراطية فجأة.
مرة جديدة، أعترف أنني أخطأت، وربما أخطأنا كلنا. ومكمن الخطأ أننا ظننا أن الحرب حالة استثنائية في مسار الغرب الرأسمالي، وأن ثمة إمكانية لأن نتقدم في الوقت الذي يتراجع فيه الغرب والولايات المتحدة. أعترف، كنت مخطئاً وكنا مخطئين. الحرب خيار الرأسمالية الوحيد إذا ما تهددت ربحيتها. وسلوك "إسرائيل" اليميني الذي نراه اليوم ليس تذييلاً من خارج النص الغربي، هو عين النص وقلبه تماماً. كان علينا أن نعي أن تراجع الولايات المتحدة عن أن تكون شرطي العالم سيدفع بها إلى تفجير العالم كله. اليمين الغربي لا يشبه يميننا. اليمين قلب الغرب ومنطقه، وهو إذ ينمو في الدول شبه الطرفانية، فذاك لقدرة اليمين الأكبر على القتل ونهب الثروة وسحب فائض قيمة العمل منا؛ نحن الشعوب المستضعَفة.
من هنا، لا يعود من معنى للحديث عن اليمين واليسار في الغرب، ولا عن اختلاف الأدوار بين "إسرائيل" والولايات المتحدة، ولا حتى عن علاقتهما الروحية من خلال نموذج المسيحية الصهيونية. حتى لو عبد الإسرائيليون النجوم، سيبني الأميركيون معهم علاقة روحية، وسيسوغون أفعالهم ويعطون "إسرائيل" قيمة معنوية. "إسرائيل" سوط هذا العالم المسلط على رقابنا، وهي لن تهدأ دون أن تُركع شعوبنا بأسرها. الـ3000 مليار دولار التي استلها ترامب من جيوب مشايخ الخليج هي حصيلة أولية للسوط الإسرائيلي، وهذا ليس كل ما في الحكاية. الـ35 مليار دولار التي ستدفعها مصر، ثمن استيراد الغاز الفلسطيني المنهوب من قبل "إسرائيل"، كذلك ليس كل ما في الحكاية. نحن أمام منظومة عالمية منفلتة العقال والقدرة، ومصيرنا اليوم، رهن إرادتنا.
في تقييمه لحرب عام 1956 (العدوان الثلاثي) كتب محمد حسنين هيكل مرة، أن واحداً من أهم الدروس المعتبرة من تلك الحرب، أن أي خسارة للأرض ما لم تمس بإرادة القتال يمكن تعويضها. وحدها إرادة القتال، إذا ما فُقدت، لن تكتسب مرة أخرى. وكأن التاريخ لا يفارق عبارته تلك. وحدها إرادة القتال، إذا ما فُقدت حقاً، لن تكتسب مرة أخرى، وستقع الخسارة التي لن نقدر على تعويضها.
أكتب هذه الافتتاحية وأنا على علم بأن الحرب لم تقف بعد. أنا هنا لا أتحدث عن الحرب الإسرائيلية على منطقتنا عامة، بل عن الحرب الإسرائيلية على لبنان بشكل خاص. أعرف أن مثل هذا الكلام لا يُعجب الكثير من اللبنانيين، لكني أعرف أن منطقتنا - ومنها لبنان - قد دخلت مرحلة لن تأفل عما قريب. لذا، فأي نقاش لا ينظر للمسائل بلحاظ السابع من أكتوبر (المجيد) لا معنى له، لا بل هو متواطئ بالجريمة على شعوب أمتنا ومنطقتنا بأسرها.
في هذه المنطقة فسطاطان استولدهما السابع من أكتوبر، ولا ثالث لهما. فإما أن نكون من أهل الكرامة وننتزع وجودنا بأيدينا، أو لن نكون. فالعيش في ظل السياط الإسرائيلية صعب، و"القمح مر في حقول الآخرين"، والتلهي بعناوين طائفية أو تنموية مصطنعة في حمأة المواجهة سيجعلنا - في أحلى تقدير - مهزلة للأمم. في أي الدروب سنمضي؟ الأمر رهن إرادتنا.
رئيس تحرير صحيفة الخندق