تصادف هذه الأيام الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية المفتوحة علينا (حرب سهام الشمال/ معركة أولي البأس). كما وتصادف الذكرى السادسة لحراك تشرين في بيروت. تطرح هاتين المناسبتين حشداً من الأسئلة والإشكالات حول هوية الدولة ووجهتها في لبنان، ومسألة التنمية وعلاقتها بمشروع المقاومة والتحرير. ومع علمي أن التمرّس في الإجابة على كثير من الأسئلة ذات الصلة بهذين الحدثين مغامرة يتجنبها الكثيرون، إلا أني أراها مغامرة مستحقة
بين تشرينين
تصادف هذه الأيام الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية المفتوحة علينا (حرب سهام الشمال/ معركة أولي البأس). كما وتصادف الذكرى السادسة لحراك تشرين في بيروت. تطرح هاتين المناسبتين حشداً من الأسئلة والإشكالات حول هوية الدولة ووجهتها في لبنان، ومسألة التنمية وعلاقتها بمشروع المقاومة والتحرير. ومع علمي أن التمرّس في الإجابة على كثير من الأسئلة ذات الصلة بهذين الحدثين مغامرة يتجنبها الكثيرون، إلا أني أراها مغامرة مستحقة. فكلنا نعي تبعات إرجاء الأسئلة والمساءلة حول هذه المنعطفات. وكلنا يعي أن الإرجاء لا يُفضي إلا إلى الانفجار أو الانهيار. وهذين المآلين تحديداً غير مستحسنين في وضعنا الراهن (والله أعلم). ا
ومن قبل أن أبدأ بهذه المغامرة، أجد من الضرورة الالتفات إلى أن أسئلة الحرب والمجتمع ليست منفصلة عن بعضها البعض. على العكس، سؤال المجمتع والحرب واحد. فالحرب خلاصة ما يعتمل في المجتمع. وإذا أردت فهم أسلوب قتال جماعة ما فاسأل عن حالها الاجتماعي. والعكس صحيح. إذا أردت فهم واقع حال جماعة ما فاسأل عن أساليب قتالها وقت الحرب. في مذكراته "من جمر إلى جمر" يذكر منير شفيق قصة لافتة في هذا الخصوص. يقول شفيق، أنه وخلال زيارته لفيتنام مع وفد من الشيوعيين العرب أواخر الستينيات، سأل "هوشي منّه" الحاضرين عن ثورة الخطابي في المغرب وأساليب قتاله ضد الفرنسيين. لم يملك الحاضرون الكثير مما يمكن أن يجيبوا به غير أن الخطابي رجل صوفي وريفي. أثار ارتباك الوفد حفيظة منّه، إذ كيف يمكن لشيوعيين ألا يعرفوا أساليب القتال ومعناها. يقول شفيق، "كانت الكثير من الأدبيات الماركسية قبل الحرب العالمية تركز على دراسة التشكيلات العسكرية لفهم حقيقة الصراع داخل أي مجتمع"، إلا أن قلة من تلك الدراسات وصلت إلينا في العالم العربي (عاد شفيق وعمل على هذا المشروع في كتابه "في الحرب").ا
الفكرة وما فيها، أن كثيراً من الخيارات العسكرية هي في عمقها خيارات اجتماعية. وكثير من الخروقات الأمنية – العسكرية هي في عمقها خيارات اجتماعية وسياسية. ليس أدل على هذا الشيء ما وقع به الإسرائيليون أنفسهم عشية تشرين الأول 1973، وتشرين الأول 2023. في الأولى كشفت الأزمة في عمقها صراعاً بنيوياً وأزمة ثقة بين مؤسستي الأمن والجيش (الأمن سفاردي/ مشرقي، والجيش أشكينازي/ غربي، والطرفان ظلا يتراشقان المسؤولية حتى بعد صدور تحقيق لجنة أجرانوت). أما في الثانية، فكشفت الأزمة عجزاً بنيوياً عند المؤسسة الأمنية في تقدير نوايا عدوها (حماس). فعشية الحرب، كانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أسيرة تصوّر اجتماعي حكمَ نخبة "الأحوساليم" البيضاء؛ تلك المسيطرة على مفاتيح القرار في مربع قوات النخبة والأمن الإسرائيليين. كان ثمة تقدير خاطئ مفاده أن حماس، وعلى الدوام، كلما خُيّرت بين أن تكون حركة دعوية سلطوية وبين أن تكون حركة مقاومة شاملة ستختار الأولى. وهذه النظرة الإستشراقية بالتحديد كانت مقتل "إسرائيل" الأمني. لقد كانت تل أبيب عاجزة عن فهم جماعات الإسلام الجهادي من داخلها، والأخطر أن تصورها عانى من انحياز منهجي كانت قد اعتادت المؤسسة الأمنية عليه (راجعوا كتاب "الإخفاق الاستخباراتي والعسكري والسياسي الإسرائيلي في 7 أكتوبر"، تحرير رندة حيدر). لفهم المسألة بشكل أوضح، يكفي أن نتخيل أسلوب حياة عناصر قيادة وكالة التنصت (وحدة الإنذار الوطني – 8200). هم يعيشون بين غليلوت وتساماروت أيالون شمال تل أبيب. في المساء يرتادون مقاهي هرتسليا وأسواق نفيه تسيديك بالقرب من شاطئ المتوسط. يشعرون أنهم مفصولين عن الناس وأنهم على اتصال دائم بأصحاب القرار. المشكلة عند هؤلاء أنهم صاروا أسرى لأسلوب حياتهم ونمط معيشتهم. هم يفهمون السياسة كشبكة من المصالح والأرقام والمؤشرات (بمنطق احصائي/ نفعي محض)، ولا يرون خصومهم وأعداءهم إلا من هذا المنظار، وهنا كان المقتل.ا
لا داعي لتعداد كمّ الانحيازات القاتلة التي وقعنا في شراكها (تذكرون مقولة "إسرائيل" لا تخوض حرباً طويلة الأمد ولا تتحمل كِلفاً عالية الثمن؟. تذكرون مقولة "إسرائيل" لن تستحمل كلفة الدخول البري إلى غزة ولن تدخل بحرب مفتوحة على لبنان؟)، فأنا لست بوارد اللوم أو التقريع وليس هذا ما يعنيني. ما يعنيني هو التركيز على أن ثمة مقاربة مختلفة يجب أن نؤسس لها في رؤيتنا للعلاقة ما بين تشريني 2019، و2024.ا
الحرب كإعادة تعريف للذات:ا
لا شك، أعادت الحرب الإسرائيلية العام الماضي تعريفنا لذواتنا ولفعل المقاومة نفسه. أعاود مراجعة ذاكرتي التي تحاول أن تتناسى كل آلام الحرب. صور قليلة ظلت عالقة بها. لا زلت أذكر عشية 23 أيلول/ سبتمبر جيداً (تاريخ الضربة الجوية الأضخم في تاريخ صراعنا مع "إسرائيل") ونزول عدد من الشباب من طرابلس في المساء إلى وسط بيروت لعرض بيوتهم على النازحين. لم يسأل الشبابُ النازحينَ عن اسمهم ولا هويتهم، كما لم يسأل النازحون عن طائفة هؤلاء الشباب ولا عن انتماءاتهم. كانت "فرشة" صغيرة فوق "سقف السيارة" كفيلة بالعبور إلى ما وراء السياسة والطائفة وزواريبهما. من منا ينسى ذلك الحاج الذي وقف في صيدا ظهيرة ذلك النهار حاملاً ورقة كتب عليها بخط اليد "ستعودون مرفوعي الرأس"! من منا ينسى مآذن صيدا التي صدحت بالتهليل والتكبير عشية عملية بنيامينا! الحرب كانت فرصة لإعادة تعريف ذواتنا نحن. هذه الحرب كشفت ما استعصى شرحه في السياسة وتقديمه (ما أكبر الفكرة... ما أصغر السياسة). من ينسى منا نزول "الدرك" لإخراج النازحين من المباني المهجورة في بيروت، وتجاسرهم عليهم حفظاً لقانون لا يساوي "شسع نعل نازح" (ما أكبر الفكرة... ما أصغر الدولة).ا
لقد كشفت الحرب أن خارطة الفعل المقاوم أكبر مما كان يتخيّل بعضنا بكثير، وأن حاضنة الفعل المقاوم أكبر من اصطفافات السياسة وأحزابها، وانحيازات الطوائف وجماعاتها. الحرب أعادت تعريفنا لذواتنا، وأولى موجبات التعريف الجديد أن نعيد للمجتمع حقه في السياسة وموقعه في الرأي وفي المساءلة. ومن حق مجتمعنا علينا حفظ الكرامة، ورفع الشدة عنه والمظلمة، ودفع العالة عنه وشظف العيش. ومن حق مجتمعنا علينا أن يكون الطرح المقاوِم شاملاً غير مجتزء، وكاملاً غير منقوص. ومن حق مجتمعنا علينا الإجابة على سؤال الناس عمن سرق لقمة عيشهم، وما جنوه طيلة عمرهم، وتحديد المسؤولية في ما وصلنا إليه.ا
موهوم من يعتقد أن المقاومة والتنمية تتزاحمان، وأن سؤال التحرير وسؤال بناء الدولة متضادان، وأن علينا على الدوام المفاضلة بينهما. على العكس، إن سؤال التحرير في عمقه هو حق الإنسان في رفضه للجور. وسؤال التنمية، هو في حقيقته، حق الإنسان في طلب العدل. وقد آن الأوان لطرح سياسي شامل في لبنان والمنطقة قوامه العدل بين الناس، والجدة في رفع الجور، ومواجهة الاحتلال، والوثوب فوق أسوار عالم قديم قد انتهى في منقطتنا منذ عام 2011 (منذ بداية الربيع العربي)، ولتكن قسمة سياسية جديدة.ا
رئيس تحرير صحيفة الخندق