للإسرائيلي يوفال نوح هراري معجبون كثر في أوساط الليبراليين العرب وحاز عندهم مكانة شامان أيديولوجيا جديد يمدّهم بفهم متكامل للعالم تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً. هؤلاء بالطبع يصدّقون ثناء أمثال أوباما وزوكربيرج وغيتس على هراري وترويجهم لكتبه المتلاحقة وهم الذين كان ينقصهم بشدّة مؤرخ ومنظّر بارع لينقذ سمعة النيوليبراليّة المفلسة
يوفال نوح هراري: المؤرخ المفضّل للنّخب الليبرالية
من سلسلة العجول الذهبيّة (2)
***
للإسرائيلي يوفال نوح هراري معجبون كثر في أوساط الليبراليين العرب وحاز عندهم مكانة شامان أيديولوجيا جديد يمدّهم بفهم متكامل للعالم تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً. هؤلاء بالطبع يصدّقون ثناء أمثال أوباما وزوكربيرج وغيتس على هراري وترويجهم لكتبه المتلاحقة وهم الذين كان ينقصهم بشدّة مؤرخ ومنظّر بارع لينقذ سمعة النيوليبراليّة المفلسة، ويضع لهم منطقاً مقروءاً مقنعاً للمغفلين في حتميّة تولّي "النخبة" لمهمّة قيادة البشر نحو "سلام عالمي". فذلكات هراري وأوهامه وحلوله جميعها لا تصمد أمام النقد التاريخيّ والسياسيّ، ولن تفلح محاولاته في إنقاذ النيوليبرالية، تلك الأيديولوجيا المجرمة التي ماتت اكلينيكيّاً في 2008، وأصبحت اليوم كما جثّة منتنة تنتظر أحداً ما ليدفعها بقدمه إلى حفرة مثواها الأخير.
في كتابه الأخير،"21 درسا للقرن الحادي والعشرين"، يستكمل المؤرخ (الإسرائيلي) يوفال نوح هراري مشروعه النظريّ الذي ابتدأه ب "سابينز: تاريخ موجز للبشرية" (بالعبرية،2011) وفيه تناول الماضي و"هوموديوس: لمحة تاريخية عن الغد" (بالعبرية 2015) ونظّر فيه للمستقبل، فيما ال"21 درساً" التي يلقي علينا تتضمن إشارات ومواقف بشأن الحاضر: من صعود الشعبوية إلى (البريكست) خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن دونالد ترامب إلى فيسبوك وغيرها. وقد حققت كتبه الثلاثة نجاحاً تجارياً استثنائياً انعكس على أرقام مبيع قياسية (في فئتها)، وترجمت سريعاً إثر صدورها إلى عدة لغات (بما فيها العربيّة). القرّاء المطلعون على كتابَي هراري الأولَين لم يجدوا جديداً في "الدروس"، حيث معظم الطروحات وكأنها إعادة تدوير واجترار لأعماله السابقة. ومع ذلك، فإن هذا الكتاب الأخير ربما يكون أفضل الثلاثة لناحية الكشف عن منطق المشروع الأيديولوجي لهراري والذي يهدف بشكل رئيس إلى تلميع حكم "النخب" النيوليبرالية" وإجلاس نظامها في صورة قدر البشرية المحتم.
في "سابينز" وضع هراري أسس ذلك المشروع: تاريخ البشر يتقدم نحو رؤية طوباوية لإمبراطورية عالمية تديرها "نخبة" دولية تضمن السلام العالمي، وأنّه لا بديل ممكناً للديمقراطية بصورتها الليبرالية - حتى وإن فشلت تماماً في تحقيق أمال البشرية بالازدهار والعدالة الاجتماعيّة في المرحلة التاريخية الحالية - بوصفها الأقدر على التعامل مع التحديات الحالية التي تواجه الكوكب، وهي صورة برّاقة سرعان ما تلقفتها الأوساط الليبرالية - فور نقل الكتاب إلى الإنجليزية في 2014 - التي كانت تعيش حينها أسوأ أوضاعها منذ عقود طويلة بعدما قادت سياساتها الفاشلة إلى الأزمة المالية العالمية في 2008 وما ترتّب عليها من ركود اقتصادي لم يشهد العالم مثله (وقت السّلم) منذ 1928. ولذا فقد سارعت تلك الأوساط إلى احتضان الرّجل، والترويج لكتابه، ومنحه مئات الفرص لإلقاء المحاضرات وعمل المقابلات مقابل أجور باهظة لدرجة أن أطلقت عليه مجلّة أمريكيّة حينها لقب "مؤرخ وادي السليكون المفضل". غلاف الترجمة الإنجليزية ل "سابينز" حمل إشادات من باراك أوباما – الرئيس الأمريكي الأسبق - شخصياً، وكذلك بيل غيتس – مؤسس مايكروسوفت -، وسارع الأخير كما مارك زوكربيرج – مؤسس فيسبوك – إلى إدراج الكتاب في قوائمهم للكتب الموصى بها.
استكمل هراري في "هوموديوس" رصف المشهد الليبرالي انطلاقا من مسلماته التاريخية التي صاغها في "سابينز"، معتبراً النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية قدراً عالمياً لا مناص منه إن أرادت البشريّة مواجهة تحديات العالم الحديث. وقد تكررت مسرحيّة ترويج النخب الليبرالية لعبقرية المؤرخ الإسرائيلي مجدداً حول "هوموديوس"، مما جعل السوق متعطشة لتلقي "الدروس" التي وظّف هراري في صياغتها كل مهاراته في الخداع اللغوي والمناورة الفكريّة لمحاولة تفسير أزمة الديمقراطية الليبرالية في القرن الحادي والعشرين عبر عزلها في المستوى الأيديولوجي المحض.
عند هراري فإن عودة الفاشيّات الشعبوية وقفز أحزاب يمينية متطرّفة على مواقع السلطة والتأثير في غير ما بلد غربيّ كانت نتيجة فقدان "السردية الليبرالية" لمصداقيتها في أعقاب أزمة 2008، وبعد أن فشلت بالفعل في تقديم "إجابات واضحة" على المخاطر العالمية التي يشكلها التهديد النووي والاحتباس الحراري والابتكار التكنولوجي. وهو بدل أن يقدّم تصوراً حول البدائل الممكنة التي يمكن أن تملأ فراغ الليبراليّة الآفلة بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة او كادت وأصبحت قيد انتظار ترتيبات الدّفن، يقترح أن تستعيد النخب الليبرالية ذاتها السّلطة، عبر خلق "سرديّة محدثة" للعالم. الشعبوية - وفق هراري دائماً – تشكّل خطراً مشرعاً على مستقبل العالم لأنها تشجع "أوهام الحنين إلى الماضي"، وتشعل النّزعات الانفصالية القومية، وتؤثر سلباً على هوامش التعاون الدولي - الضروري لمواجهة التحديات العابرة للحدود -. وهو في موازاة ذلك يرى أنه "في نهاية المطاف، لن تتخلى البشرية عن السرديّة الليبرالية، لأنه ببساطة ليس لديها أي بديل. فقد يوجه الناس ركلة غاضبة إلى معدة النظام الليبرالي، ولكنهم بعدما يوقنون بأن لا مفر منه إلا إليه، فسيعودون" خاضعين. وفي هذه الأثناء في انتظار عودتهم الأكيدة، يقترح على النخب الليبراليّة العمل بشكل واع على امتصاص غضب النّاس من خلال سرديّة ليبرالية جديدة لم تقدّم من قبل، ويطرح نفسه بواقع الحال متطوعاً لكتابتها بوصفه نبي "السابينز" لمعرفته الأكيدة بعجز النخب الغربيّة عن إبداع نظريّة متكاملة لفهم التاريخ وتفسير الواقع منذ أن أدارت ظهرها لمادية ماركس التاريخية. عجز يرى هراري أنه يجعلهم يفكرون بلغة رؤيوية لاعتقادهم بأن فشل التاريخ في الوصول إلى موانئ يوتوبيّة آمنة لا يمكن إلا أن يعني تدحرجه نحو معركة نهائيّة كبرى (هرمجدون التوراتية)"، وهي لغة تنشر الذعر وتؤدي إلى الشلل السياسي، وخلق ظروف مؤاتية لصعود الشعبوية وتفاقم حالة الذعر، في حلقة ناريّة مفرغة تغذي ذاتها.
لكن مساهمة هراري في نسج السردية الليبراليّة المحدثة كما في "الدروس" تبدو عديمة الاتصال بالواقع الاجتماعي وتفتقر بشكل فادح إلى أية طروحات سياسية، إذ يختتم مناقشة كل عامل من العوامل التي اعتبرها مسؤولة عن شكل العالم بتقديم الخدع اللفظية والمتناقضات والحملقة بالسقف غارقاً بالمزيد من النحت اللغوي التجريدي والطروحات التوراتيّة الروحيّة مع تقدّم الدروس، تماماً كما لو كنّا في كتاب آخر لتطوير الذات. ففي مسألة الحرب مثلاً، وبعد أن اختزل التحليل السياسي في تشخيصات ساذجة من علم النفس الشعبي، يصرّح بأنّ "الحرب العالمية الثالثة ليست حتمية، ولكنها أيضا ليست مستحيلة". وهذا التوقع الثنائي الأوجه الذي لا طائل من تحته ينتهي إلى أن السبيل لمنع حروب المستقبل هو من خلال "جرعة من التواضع". ولا شكّ أنّ الدلاي لامي يخشى الآن من انتقال خلافته من التبت إلى تل أبيب، إذ أن كل الأدوات التي يقترحها هراري للتعامل مع الأزمات الكبرى لعصرنا لا تخرج بحال عن "التأمّل" و"التركيز" والاستبطان"، وبحد أقصى من خلال استدعاء مفاهيم مجردّة لم يتمكّن الفلاسفة خلال ثلاثة آلاف عام ونيّف من حسم معناها: العدالة والله والحقيقة والمعرفة والاخلاق.
يصل تهويم دروس هراري إلى ذروته في مناقشتة لبند "الإرهاب"، فيختصر كل تحدّ للنظم الليبراليّة في ظاهرة الإرهاب "الممسرح" بوصفه استراتيجية "الفئات الضعيفة للغاية" التي تسعى إلى إحداث تغيير سياسي ما عبر تقويض شعور الأكثريّة بالأمان، ومقترحاً على الأنظمة "الردّ على مسرح الارهاب بمسرحها الأمني المضاد" ومكافحة الارهاب " بهدوء وكفاءة"، فيما ينبغي لوسائل الإعلام أن "تتجنب الهستيريا" وأن توقف الإفراط في التّقارير التي تنقل أخبار الإرهاب فتتسبب بتضخّم الخوف. إن الإخفاقات التحليلية التي تسم مقاربة هراري وعجزه عن التوصل إلى مقترحات سياسيّة محددة للتعامل مع جذور العنف (المتبادل) تنتهي إلى أبعاد المسألة برمتها إلى المستوى الأخلاقي حيث "تقع على عاتق كل مواطن مسؤولية تحرير خياله الذاتيّ من سطوة الإرهابيين" و"إن نجاح الإرهاب أو فشله يعتمد بالدرجة الأولى علينا (كأفراد)".
تكشف تأملات هراري حول الإرهاب (كما الحرب والهجرة وجبروت فيسبوك وبقيّة المسائل) عن المنطق الداخليّ لطريقته "السابينزيّة": إخراج هذه القضايا من سياقها الاجتماعي، ورسمها عصيّة على الحلول السياسية، وترحيل التعامل معها إلى المستوى الفرديّ.
وفي تسطيح مثير للإزعاج يهمل هراري تالياً الإشارة إلى دور النخب النيوليبرالية التاريخي في تكريس انعدام المساواة بين الطبقات، ويبشرنا بأن التفاوتات الطبقيّة سوف تتحوّل في الآتي من الأيام إلى فروقات بيولوجيّة لا يسهل جسرها. وهو بذات الصيغة العرجاء يتجاهل وجود حركات الاحتجاج ضد النيوليبراليّة: التحرريّة واليسارية والمعادية للعنصرية، ويخلق فكرة وهمية مفادها أن الصراع السياسي لا يخاض اليوم إلا بين الشعبوية والليبرالية، بينما هما في الحقيقة ليسا سوى وجهين لذات قطعة العملة المزورة التي أنتجتها الرأسمالية المتأخرة.
لا شيء عند هراري سوى الأساطير والغيبيّات والضبابيّة. ومنهجيته تقوم تحديداً على استبعاد أية آليات مادية وعقلانية لتفسير حركة التاريخ متجنباً بقصد التدقيق في جذور العمليات التاريخية لمصلحة التركيز على الأعراض وواجهة الأحداث، واقتراحاته تتسم بكثير من العشوائية وعدم الترابط بدلا من السببية. وفي الحقيقة هو لا يلام على ذلك، إذ بدون الشعوذات والشعارات والمصطلحات المخصيّة والثنائيات النقيضة لا يمكن لأي عاقل من فصيلة "السابينز" أن يدافع عن النيوليبراليّة ناهيك محاولة إحياء جثتها.
الحلقة المقبلة من العجول الذهبيّة: ناحوم تشومسكي.
"Related Posts
كاتب عربي مقيم في لندن