Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

تُقدّم الروحانية الجديدة حلاً للتعامل مع تحديات الحداثة السائلة، من خلال تحويل الإنسان إلى مستهلك ليس على الصعيد المادي فقد، فإذا كانت الحداثة بصلابتها الأولى قد استعبدت الجسد في سبيل الآلة، فإن الحداثة الجديدة السائلة تخطت ذلك لاستعباد الروح في سبيل السوق

مصطفى خليفة

التدين السائل والروحانية الجديدة

يختلف الدين كـ"رسالة" عن التدين كـ"ممارسة"، ففي حين تتسم الرسالة بخلودها وثباتها في مبادئها والعقائد التي نزلت بها (رغم الاجتهاد في الأحكام)، فـ"حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجئ غيره"،[1] تتأثر الممارسة بالظروف والمتغيرات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يفسر اختلاف مظاهر التدين بين مجتمع شبه الجزيرة العربية، والمجتمع الإيراني، ومجتمعات الدول الإسلامية الآسيوية، وكذلك المغربية والأفريقية... إلخ. بل هذا ما يفسر قول علي بن الحسين عليهما السلام: "لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله"،[2] في زمن الإسلام الأول، فتلقّي أبو ذر، ابن الجزيرة العربية، ابن الصحراء، للرسالة، سيختلف عن تلقي سلمان القادم من الشرق، الذاخر بالروحانية.ا

الرسالة واحدة، ولكن أثرها في النفس، والذي سينعكس حكماً في الممارسة، هو الذي يختلف.ا

وعلى هذا المنوال، مما لا شكّ فيه أن "الحداثة" كان لها دورها في بروز أنماط جديدة من التدين، إن في الغرب أو في الشرق، وكذلك الانتقال إلى زمن ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة كما يسميها زيجمونتباومن، تركت أثرها في الممارسات التدينية.ا

ومما لا شكّ فيه أيضاً، أن اختلاف أنماط التدين تبعاً لاختلاف الثقافات، هو أمر يزيد من الغنى الثقافي والمعرفي لمجتمعات أي دين من الأديان، ولكن الاختلاف الناجم عن السطوة الثقافية الخارجية، لن يولّد إلا انحرافات قد تصل إلى مستوى الانحراف العقائدي، لأنّ المخرجات الثقافية عندما تهبط على مجتمع ما، كنتائج نهائية، سيتطلب اندماجها إما قطيعة مع الثقافة الأصيلة، أو لي عنق تلك الثقافة لتتناسب مع هذه المخرجات، وهو ما يختلف عن التحولات الثقافية الطبيعية التي تأتي ضمن سياق طويل داخل المجتمع، ولا تُسقَط لتفرض سطوتها.ا

كيف تفاعل الدين غرباً وشرقاً مع الحداثة بصلابتها وسيولتها، وأين موقعية "الروحانية الجديدة" في هذا التفاعل، وكيف تتمظهر، وكيف يمكن التعامل معها، هو ما سوف يحاول هذا المقال إلقاء الضوء عليه، والله ولي التوفيق.ا

الحداثة وأثرها على الدين: السلف والمأسسة والتحزب الديني

في مسار طويل ودموي وعسير وشاق، ناهز المائة سنة ونيّف، رُسِمت ملامح الحداثة في أوروبا، حداثة يعيدها البعض إلى "كوبارنيكس" واكتشافه الثوري، والبعض الآخر إلى "غاليليو غاليلي" ودوران الأرض حول الشمس، بينما يذهب آخرون إلى القول بأنّ ترجمات كتب الفيلسوف المشائي الأندلسي "ابن رشد" كان لها دور في تحريك الركود الثقافي الذي كان يخيم على أوروبا فيما سمي بـ"العصور الوسطى".ا

وبعيداً عن البحث في لحظة ولادة الحداثة الأوروبية، فليس هذا البحث محلها، أتت الحداثة كرد فعل على واقعين مأساويين كان يسود المجتمع الأوروبي، الأول هو الفقر المدقع الذي عم العباد مقابل ثراء فاحش للنبلاء ورجال الدين، والثاني هو سيطرة الفلسفة المدرسية التي قضت بأن تعتبر الكنيسة من روايات العهد القديم حول نشوء العالم، حقائق علمية ثابتة، وعقائد دينية، يرمى من يخالفها بالهرطقة والزندقة بعد مثوله أمام محكمة التفتيش، لينتهي به الأمر مقيداً إلى عامود خشبي في ساحة ما، والنار تلهب أحشاءه.ا

على مر زمن طويل تبلورت ردود الفعل على هاتين الآفتين، فظهر الإصلاح الديني البروتستانتي، الذي سلك مسلك السلفية الدينية المسيحية، القاضية بالتمرد على الكنيسة، واستبدال الكهنة بالمبشرين الذين يجوبون الشوارع ليرشدوا الناس إلى "طريق المحبة والخلاص" من خلال الإيمان بالمسيح، والعمل بتعاليمه، دون أن تكون للسياسة وللنظريات العلمية أي دور في الإيمان، كما قامت الحركة اللوثرية بترجمة الكتاب المقدّس إلى لغات عدة، ما أفقد الكنسية حصرية شرح وتبيان مضامين العهدين القديم والجديد.ا

وعلى المستوى العلمي نزع المفكرون والعلماء إلى المنحى التجريبي، في قطيعة مع النزعة العقلية التي كانت قد تكرست في الفلسفة المدرسية، وصار الحس هو مصدر المعرفة الحصري، والمختبر هو المصنع العلمي الذي منه تخرج الاكتشافات المختلفة.ا

وفي بعض الدول الأوروبية، كفرنسا مثلا، تمثلت ردة فعلها بالانقلاب الجذري ضد الدين المسيحي، والكنيسة الكاثوليكية، لتواطئها مع لويس السادس عشر، وريث العائلة المالكة للبلاد.ا

ترافقت تلك الأحداث مع ثورة تكنولوجية وعلمية متقدمة، تعود أسبابها لعوامل عديدة، ولكن أهمها كان بناء الدولة القومية مع مؤتمر وستفاليا عام 1648، وتحول تلك الدول إلى امبراطوريات تسيطر على "مستعمرات" تستمد منها المواد الأولية و"العبيد"، فوجد الإنسان الأوروبي نفسه فجأة سيد الكون ومالك مفاتيحه، والنعيم، كما يقول باومن، لم يعد في العالم الآخر، بل أصبح هنا، على الأرض، وعلى البشر أن يسعوا للوصول إليه، كبستاني يزرع أرضاً قاحلة، في انتظار تحولها لجنة خضراء.ا

إضافةً إلى بناء الدولة الحديثة، التي حلت محل المتعالي، فصار لأجلها تبذل الأرواح، وباسمها يؤدى قسم الولاء، والدفاع عنها هو دفاع عن شرف الأمة، والموت في سبيلها شهادة بطولية، وكما أن للدين رسل وأنبياء وضعوا أسس الرسالة وسعوا لزرعها في قلوب أقوامهم، فكان للدولة أباء مؤسسين، تدين إليهم الشعوب أبد الآبدين، وتتولى المؤسسات الإعلامية والتربوية وغيرها، مهمة التبشير بالإيمان الوطني والدولتي.ا

دخلت الحداثة إلى العالم الإسلامي (تختلف الروايات حول تاريخ وشكل دخولها)، في زمن كانت الإمبراطورية العثمانية تعاني حالة من الترهل وفي قيد الاحتضار، ومع احتكاكها بالغرب، على أكثر من صعيد، بدأت تظهر ملامح نخبة هدفت إلى "الإصلاح" ومواكبة التطور العلمي الغربي، فتنوعت واختلفت تلقيات أثار تلك الحداثة الوافدة، التي أتت على سفن الاستعمار، ولم تكن نتيجةً لمسار معرفي وسياسي خاص بها.ا

ولأن الدين لم يكن عثرة، أو سبباً، في تسلط معرفي أو سياسي في العالمين العربي والإسلامي، لم يكن أثر الحداثة على هذه المجتمعات على عداء مع الدين، رغم وجود بعض الاستثناءات، إذ جهدت تلك النخبة إلى محاولة إثبات أنّ الدين الإسلامي لا يتنافى مع تلك الحداثة، وذهب بعضهم إلى الاعتبار بأن الإسلام سابق عنها، وما تخلف المسلمين اليوم إلا لبعدهم عن كتاب الله وسنة رسوله، التي لا يمكن أن تفضي إلا لنهضة شبيهة بتلك الأوروبية، وهذا ما يُفهَم من قول رفاعة رافع الطهطاوي في تبرير "التقدم" الغربي الذي ارتأى ملامحه في زيارته الطويلة إلى عاصمة الأنوار، باريس، "وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين".ا

على هذا الحال كانت للحداثة في العالمين العربي والإسلامي تلقياتمختلفة، منها رسم الحدود بين أوصال الأمة وبناء الدول الحديثة، وتحول الأمة إلى أمم، ومنها النزعة السلفية التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية مع محمد بن عبد الوهاب، الذي قدمها كثورة إصلاح دينية، ومنها مأسسة الحواضر الإسلامية، كتجربة الإمام محمد عبده رحمه الله وأثابه وأرضاه، في تحويل الأزهر إلى مؤسسة، ليتحول فيما بعد إلى جامعة عصرية فيها أكاديميات مختلفة (مع ما يحمله مصلح أكاديمية من دلالات ربما لم يُلتفت لها إلى اليوم)، التلقي الثالث للحداثة كان في إنشاء الأحزاب الدينية، التي كان للإخوان المسلمين بقيادة الشهيد حسن البنا السبق في إطلاق ما عرف بـ"الإسلام السياسي"، في محاولة لإثبات خطأ المنحى الحداثي الذي يعتبر أن على الدين أن يبتعد عن السياسة، وبقدرة الإسلام على الانتظام داخل الإطار الحزبي، الإطار المعاصر للبناء الأيديولوجي في ذلك الحين، فكان شعاره "سياستنا عين ديننا"، و"الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".ا

الروحانية الجديدة في ظل الحداثة السائلة: رحلة البحث عن المعنى في عالم متغير

في حين كان الاعتقاد الحداثي بأن النعيم يمكن تحقيقه على هذه الأرض بعد أن نعد أسبابه من العلم والتكنولوجيا وتحقيق الرفاهية الشاملة للبلاد، واستبدال الدين بالوطنية، وفكرة الإله بفكرة الوطن، أتى زمن ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة كما يسميها باومن، ليقول بأنّه لا ضرورة لتأجيل الوصول إلى النعيم إلى حين نمو الغرس ورعايته في الجنة الخضراء الأرضية، ليقول أن النعيم هو ما نعيشه هنا وفي هذه اللحظة، وليس مؤجلاً لا لعالم آخر، ولا لزمن آخر، واستبدل الوطن بالسوق كإله معبود، يشكل التسوق طقوسه العبادية، والمجمعات التجارية (المولات) معابد الدين السائل في زمن ما بعد الحداثة.ا

وفي خضمّ ثورات التكنولوجيا، والتغيرات الاجتماعية المتسارعة، التي تميز "الحداثة السائلة" التي نعيشها، يبرز سؤال جوهريّ: كيف نجد المعنى، والهدف في عالم يبدو فاقداً لهما؟

لا يمكن للدين (العقائد، الأيديولوجيات، الرؤية الكونية) أن يتآلف مع زمن الحداثة السائلة، الذي تخلى فيه الإنسان عن كل أشكال أنماط الحياة والروتين، إذ أصبح التغيير الدائم والمستمر هو نمط حياة هذا العصر، كما أن الحاجة للإشباع الروحي، "هنا والآن"، لا تتواءم مع الرياضات، والطقوس، والشعائر التي تهدف إلى ترويض النفس البشرية والارتقاء بها على المستوى الروحي والمعنوي، إضافةً لسيطرة السوق والتسليع وثقافة الاستهلاك، حيث يجب أن تكون مواكباً للـ"ترند - Trend"، وخاضعاً لما يمليه عليك السوق من الطرق والأساليب التي تشبع فيها حاجاتك المادية كما المعنوية.ا

يُقدم مفهوم "الروحانية الجديدة" إجابات جزئية على هذا السؤال، حيث يُشير إلى اتجاهات روحية جديدة، تخرج عن إطار الدين المنظِّم، والمؤسسة الدينية التي انتجتها الحداثة، وتبحث عن تجارب روحية فردية، تتوافق مع طبيعة العصر الحديث، المتسارع، والباحث عن اللذة الآنية، هنا والآن.ا

الروحانية الجديدة ليست بديلاً، بل هو مفهوم واسع وفضفاض، يحتوي على عدد لا متناهٍ من المصاديق المختلفة، الهدف منها جميعاً، تأمين الحاجة الروحية بشكل سريع وغب الطلب، على شاكلة "الدلفيري - Delivery"، وعلى إنسان هذا العصر أن يبقى بحالة جري سريعة ليظل على اتصال مع تطور مصاديق "الروحانية الجديدة"، التي لا تعد بالنعيم الأخروي، ولا بهدف تحضر النفس وتهيؤها للوصول إليه، بل إن اللذة الروحية هي في الطريق، وليست في الهدف، في الجري السريع غير المتوقف.ا

وعلى هذا نرى أن مصاديق ذاك المفهوم الواسع، تذهب حيناً باتجاه التصوف والعزلة الصوفية، وحيناً باتجاه اليوغا والطقوس الشرقية، وأحياناً أخرى بطرق وأساليب لن تنتهي، على أن يبقى الطالب لها، جارياً خلفها.ا

فلا رب هنا يكدح الإنسان ليلاقيه، بل هنا الكدح هو نفسه الهدف، ولا محطة للوصول.ا

سمات الروحانية الجديدة

  • التركيز على الفرد: تركز الروحانية الجديدة على تجارب الفرد الروحية الخاصة، بعيداً عن العقائد الدينية المنظِّمة.
  • التنوع:تتّسم الروحانية الجديدة بتنوعها الشديد، حيثُ تشمل ممارساتٍ روحية من مختلف الثقافات والأديان، مثل التأمل، واليوغا، والطاقة العلاجية، وغيرها.
  • الاهتمام بالذات: تُركّز الروحانية الجديدة على الاهتمام بالذات وتحقيق السلام الداخليّ، كوسيلةٍ للتعامل مع ضغوطات الحياة العصرية.
  • الوعي: تُؤكّد الروحانية الجديدة على أهمية الوعي الذاتيّ، والحضور اللحظيّ، كمفتاح لتحقيق السعادة والرضا.

الدور الذي تلعبه الروحانية الجديدة لدى إنسان اليوم في ظل فقدان المعنى مع سيولة كل البنى الحداثية

  • إيجاد المعنى: تُساعد الروحانية الجديدة، الإنسان السائل، على إيجاد المعنى والهدف في حياته، من خلال ربطه بشيء أكبر من نفسه، كمثل الطبيعة أو الكون أو الإله.
  • التعامل مع التوتر: تُساعد ممارسات الروحانية مثل: التأمل، واليوغا، على تقليل التوتر والقلق، وتحقيق شعور أكبر بالهدوء والاسترخاء، في ظل تهميش دور الدين وشعائره.
  • العيش بوعي لحظوي: تدفع الروحانية الجديدة على العيش بوعي أكبر في اللحظة الحالية، والاستمتاع بالحياة بشكلٍ آني، دون التفكير بالمستقبل والمآل.

آفات الروحانية الجديدة

  • التسطيح: تُؤدي الروحانية الجديدة إلى تسطيح المفاهيم الروحية، وتحويلها إلى سلعة للاستهلاك.
  • الابتعاد عن الواقع: تُؤدي الروحانية الجديدة إلى الانفصال عن الواقع، والابتعاد عن المسؤولية الاجتماعية.
  • ظهور زعامات روحية استهلاكية: تُؤدّي الروحانية الجديدة إلى ظهور زعاماتٍ روحية مُستغِلة، مما يُشكل خطراً على الأفراد والمجتمعات.

وهكذا، تُقدّم الروحانية الجديدة حلاً للتعامل مع تحديات الحداثة السائلة، من خلال تحويل الإنسان إلى مستهلك ليس على الصعيد المادي فقد، فإذا كانت الحداثة بصلابتها الأولى قد استعبدت الجسد في سبيل الآلة، فإن الحداثة الجديدة السائلة تخطت ذلك لاستعباد الروح في سبيل السوق، فغدى الإنسان عبداً للنمط الاستهلاكي، يحيا حياته في سباق لا ينتهي مع سوق ولّاد لمنتجات تبشر بها لوحات الإعلان والمنصات الرقمية.ا



[1] أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، الأصول من الكافي، دار الكتب الإسلامية (طهران)، الجزء 2، الصفحة 270.
[2] العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء (بيروت)، الجزء 22، الصفحة 343.

 

كاتب وإعلامي لبناني